news-details

السنة التي امتدت سنوات طويلة

مع كل بداية سنة دراسية جديدة تدور عجلة ذاكرتي وتبث فوق شاشة العمر المشاهد والأحداث التي عشتها أثناء عملي في مهنة التدريس، وأهم تلك المشاهد التي يصعب محوها ونسيانها، بداية المشوار الذي امتد قرابة أربعين عامًا.

بعد طول انتظار وصل المكتوب من وزارة المعارف "فرمان التعيين". قبل أن أفتح المكتوب كانت نشوة الفرح قد غمرتني وغمرت جميع افراد العائلة الذين كانوا ينتظرون التعيين على أحر من الجمر، حتى ان والدتي أجهشت بالبكاء وناولت ساعي البريد "حلوان التعيين" خمس ليرات وفاءً  للنذر الذي نذرته.

سارعت الى فتح المغلف وقرأت كتاب التعيين.. لقد تم قبولي مدرسًا في مدرستي طمرة الزعبية والناعورة.. وبذهول مصحوب بعجز عابر أخذت اتساءل أين تقع هاتان القريتان؟ في الشمال وأنا أبن المثلث الجنوبي، وبدأ بخار قضية صعوبة الإقامة والمواصلات والبعد الجغرافي يتصاعد من غليان رفضي.

قررت رفض التعيين والاستغناء عنه والتوجه للعمل في المدارس اليهودية، فأنا خريج معهد المعلمين في "جفعات هشلوشاه" القسم العلمي، وتوجهت الى مدير المعارف في ذلك الوقت "سلمون" لكن تم رفض طلبي وقال لي: ابناء شعبك أحق بتعليمك، وخرجت من مكتبه وأنا أصفع الظروف التي حولتني من انسان كان يملك الأحلام الى انسان يعيش في حيرة وخوف.

كان السؤال يكبر أمامي، كيف سأصل الى هاتين القريتين في ظل غياب وسائل السفر اليومية، خاصة بعدما عرفت أنهما معزولتين ولا تتوفر فيهما الظروف المناسبة للمبيت والإقامة.

توجهت الى مكتب المفتش الاداري لمنطقة المثلث طالبًا العمل في احدى مدارس المثلث، خاصة أن المثلث كان يعاني من شح في المعلمين، إلا أن المفتش اجاب بأسلوب فظ يعكس طبيعة هذا الجهاز القمعي ومهددًا:

-           في حالة امتناعك عن الدوام في الأول من أيلول فإن تعينك سيعتبر ملغيًا..! وعندما أعلمته بأني معلم مؤهل مهنيًا ومختص في مواضيع  العلوم.. أجاب بسخرية لاذعة:

-          على المعلم تدريس جميع المواضيع دون استثناء...! وضحك ضحكة صفراء.. وقال كأنه يفتخر بالمعلومة: التخصص غير معروف في التعليم العربي.

قبل بداية السنة الدراسية بيوم وصلت الى مدينة العفولة للمبيت في احد فنادقها المتواضعة، قضيت تلك الليلة وأنا أفكر بما سيحمله لي الغد.. لأني بعد ساعات سأعانق المجهول، وكنت اتساءل بيني وبين نفسي كيف سيكون وضع المدرسة؟ هل يوجد فيها مختبر ومكتبة؟! انها أشياء روتينية موجودة  في المدارس اليهودية كما رأيتها عندما كنت أطبق فيها.

في الصباح ارتديت ملابسي الجديدة وتوجهت نحو محطة الباص، ولحسن حظي كانت الحافلة المتوجهة الى مدينة طبريا  واقفة..!  صعدت بسرعة وطلبت من السائق أن يوصلني الى طمرة الزعبية، وتبين أن السائق عربيًا حيث سرعان ما سألني  تقصد طمرة المرج؟ وأضاف لا توجد محطة باص خاصة بهذه القرية، ولكن سوف اساعدك وأشير اليك أين تنزل بعد حوالي عشرين دقيقة.

توقفت الحافلة وبصوت عال قال السائق انزل هنا.. وأشار بيده على الطريق! نزلت وبدأت أسير في الاتجاه الذي اشار اليه السائق، وجدت امامي سهلًا منبسطًا تربته حمراء تشقه طريقا ضيقًا مليئًا بالحفر والحجارة، نظرت باتجاه الشرق فرأيت عن بعد قرية صغيرة تتربع بيوتها فوق هضبة عالية، تحيط بها حقول مغطاة بالنباتات الشوكية الجافة، كانت الطريق خالية من المارة، ترددت بين الرجوع الى بلدتي وعائلتي التي ما زالت تعيش نشوة الفرح لأنني أصبحت معلمًا وبين  الاستمرار في الطريق الغامض.

كانت أشعة شهر أيلول الحارقة تلسع وجهي، العرق يتصبب من جسمي، ابتل قميصي مع أنني كنت حريصًا على أن يبقى نظيفًا مكويًا حتى يكون مظهري لائقًا أمام سكان القرية والهيئة التدريسية.

 وصلت أطراف القرية الساعة الثامنة صباحًا، سألت عن المدرسة، لم تكن بعيدة عن البيوت لكن فوجئت من تواضع هندستها الى حد فقدان الأجواء المدرسية، حيث كانت عبارة عن بيت قديم جدًا دون ساحة أو حديقة أو ملعب... كان أول المستقبلين مجموعة من الطلاب.. سمعت أصوتهم وهم يهمسون "اجا الاستاذ.. أجا الاستاذ.." شعرت بالغربة أمام كلمة استاذ وأحسست اللقب أكبر من مقاسي، لأن عمري لم يتجاوز بعد العشرين عامًا.

انتظرت قدوم المدير في غرفته الصغيرة الجرداء التي تدل على البؤس الذي سأغرق فيه، هناك فقط صورة لرئيس الدولة وصورة لرئيس الحكومة وعلم الدولة الذي احتل جزءًا  من الجدار.

 دخل الغرفة بسرعة نظر الي من فوق الى تحت، عقد جبينه وامسك بعض الأوراق وأخذ يتكلم عن المدرسة التي تتكون من أربع شعب  وعدد أعضاء الهيئة التدريسية اثنان وأنا الثالث وأخذ يتكلم عن تاريخ المدرسة، لكن أكثر ما أدهشني هو عندما أبلغني بأن الذي يصل المدرسة أخيرًا عليه أن يقبل "ببرارة" البرنامج كما  أطلق عليه.. أجبته بحيرة ماذا تقصد؟ أجاب أنت آخر من تم تعينه في المدرسة وعليك بقبول ما يطلب منك..! قلت له : حسنًا.. وما هو المطلوب مني؟!

أجاب بحماقة لا مبالية – كأنه قد تعود على هذا الوضع - عليك أن تقوم بتعليم صفين في غرفة واحدة، صف البستان وصف أول..!!

صرخت في وجهه هذه بالنسبة لي معجزة، أنا لست متخصصًا لمثل هذه الصفوف، وتعليم صف البستان بحاجة الى معلمة متخصصة لمثل هذا الصفوف...!

كانت اجابته باردة.. هذا مش شغلي.. دبر حالك! وأضاف: قبل ان تحتج على هذين الصفين، فتش لك عن غرفة تسكن فيها في هذه الخربة.

وأدركت أنني في ورطة ومشكلة كبيرة، ومؤكد أن الظروف في قرية الناعورة لن تختلف عن جارتها طمرة الزعبية.

صرف المدير جميع الطلاب بعد ساعة ونصف تقريبًا من بداية اليوم الدراسي الأول، وبعد أن قام ببعض الترتيبات في المدرسة توجهنا جميعًا الى بيت المختار وفق طلبه، لأن المختار أراد التعرف على المعلم الجديد، وأثناء تناولنا طعام الغذاء أصيب بالدهشة لأنه علم أنني من قرية الطيرة في المثلث.

من جهتي أثرت أمامه حاجة المدرسة الى معلمة خاصة لصف البستان والصف الأول.. قال المختار... هذا مش شغلي، شغل وزارة المعارف!  ثم أضاف "دبرت حالك بالنوم؟ وقبل أن أجيب قال: أنت ضيفي يوم يومين أسبوع  أسبوعين..حتى تجد مسكنًا! تلك الليلة كنت في ضيافة المختار.

في اليوم التالي طلب مني المدير أن اقوم بتدريس صفي الأول والثاني ! سألت المدير بذهول كيف سأقوم بالتدريس في هذا الوضع الصعب والغرف الضيقة؟!

 وكان الحل السحري.. دخل المدير الى صف البستان وأخرج الطلاب ثم دخل الصف الأول واخرج الطلاب واختلط الحابل بالنابل وطلب مني التوجه مع الطلاب  الى شجرة الخروب الواقعة خلف المدرسة،  وبصوت فيه رنة الاستخفاف قال لي:

-         عَلّم تحت شجرة الخروب حتى يحلها الحلال..! وأدار ظهره.

وجدت نفسي أمام الأطفال وتحت أشعة الشمس، استطعت أن أجمع الطلاب الصغار تحت ظل الشجرة وكانت المشكلة أين سيجلسون والمكان مليء بالأوراق المتساقطة وروث الحيوانات؟

طلبت من الطلاب تنظيف المكان، واحترت كيف سيجلسون على التراب فخطرت ببالي فكرة ارسالهم الى بيوتهم واحضار كراسي للجلوس عليها.

بعد طول انتظار رجع معظمهم  دون كراسي واعترفوا أنه لا توجد كراسٍ في بيوتهم، أما البعض الآخر فقد أتو ببعض الكراسي الصغيرة  وصفائح الزيت الفارغة ليجلسوا  عليها..!

بقيت واقفًا.. ولم أجد أمامي إلا الاستعانة بحجر أجلس عليه.. حتى استريح من الوقوف.

(يتبع)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب