news-details

السنة التي امتدت سنوات طويلة ( 2)

قال المختار.. أين ستنام؟ أنت ضيفي يوم أو يومين أسبوع أو اسبوعين.. بعدين وين بدك تنام؟ هنا لا يوجد اسرة تملك غرفة زائدة عن حاجتها، أنصحك أن تتوجه الى المفتش في الناصرة وتطلب منه نقلك الى مدرسة أخرى!

هكذا حسم المختار الأمر وقطع الشك باليقين بأنني لا أستطيع الاستمرار بالعمل هناك.

ودعت المختار وزميلي في الهيئة التدريسية وتوجهت الى مدينة الناصرة لمقابلة مفتش المعارف المرحوم "حنا الخازن" وكان مكتب المعارف قد أنهى دوامه فاضطررت على المبيت بأحد فنادق مدينة الناصرة، وفي الصباح توجهت الى مكتب المعارف.. أصيب المفتش بالدهشة عندما وجدني واقفًا أمامه مبكرًا في يوم دوام مدرسي، سألني لماذا لم تداوم في هذا اليوم؟! قبل ان أجيبه استمر يقول:

-         عرفت بأن الأمر لن يكون سهلًا، من الصعب جدًا أن تتكيف في هذه القرى البعيدة عن قريتك!

توقف عن الحديث وسألني: ما هي مشكلتك يا بني؟!

-         يوجد مشكلة في السكن.. لا يوجد مكان أسكن به!

قال المفتش وهو يحاول ترتيب الملفات أمامه:

-         قلنا للأستاذ ادريس حرام عليك تقوم بنفيه الى هذا المكان! أين سيسكن؟ لكنه لم يهتم وأجاب بسخرية: "بدبر حالو".

كان المرحوم "حنا الخازن" لطيفًا كريمًا ودمث الاخلاق في تعامله، وبعد أن وجد أمامه أبواب الحلول مغلقة وضع أمامي عدة خيارات، الانتقال الى مدرسة قرية نين أو مدرسة كفر مصر أو مدرسة عرب الشبلي، وكانت الحلول تسقط فوق الطاولة التي أمامي، اتأمل لمعانها الذي تحول للمعان أسود ينشر السواد في طريقي.

داومت في مدرسة نين يومًا واحدًا، إلا أن المدير ويدعى فضيل أبلغني أنه بحاجة الى مدرس بنصف وظيفة، توجهت في اليوم التالي الى مدرسة كفر مصر لكنني وجدت معلمًا قد سبقني وملأ التعيين الشاغر الذي كان ينتظرني فلم يبق أمامي الا الخيار الثالث في مدرسة عرب الشبلي.

تقع قرية عرب الشبلي أو كما تعرف عرب الصبيح على السفوح الشمالية لجبل الطابور في الجليل الأسفل، اقيمت مدرستها في اعلى منحدر أسفل الجبل المذكور، وصلت الى القرية بعد مرور خمسة أيام من بداية السنة الدراسية، وصلت وأنا على يقين بأن ظروف العمل فيها لن تكون أفضل من سابقاتها من المدارس التي حاولت العمل فيها، شعرت أنني مشرد، فكل يوم في مدرسة، طرقت أبواب خمس مدارس في اسبوع. هذه التجربة القاسية جعلتني أكره مهنتي كمعلم قبل أن أبدأ، بعد أن كنت مليئًا بالطموح والاحلام والحماس للعمل، بعد أن تخرجت من مدرسة نموذجية فيها الملاعب والحدائق والمختبرات والقاعات والمكتبات، وجدت نفسي في مدارس جرداء لا تتوفر فيها أدنى الأشياء مثل الكراسي أو الطاولات.

وصلت مدرسة عرب الشبلي، كان في مقدمة المستقبلين مدير المدرسة الاستاذ "نمر عيسى ريحاني" من كفر كنا، عرفت بعد ذلك أنه ساهم بتأسيس المدرسة وعمل بإخلاص لدفع الآباء في هذه القرية على جعل تعليم ابنائهم من أولويات اهتمامهم، مما شجعهم على التحاق هؤلاء الأبناء بالجامعات.

عادت مشكلة السكن تقف سدًا منيعًا امامي في عرب الشبلي، فكنت مضطرًا للمبيت في بيوت بعض الزملاء، وقد رفضوا تقاضي اجرة السكن وشعرت في نهايتها أنني لم أعد اتحمل، فاتصلت بمكتب المعارف في يافا طالبًا نقلي الى منطقة المثلث، فاستجابوا لهذا الطلب وتم نقلي الى قرية جسر الزرقاء.

كان التدريس في هذه القرية غاية في الصعوبة لأسباب كثيرة، وفي مقدمتها صعوبة المواصلات، بيوتها تبعد عن شريان النقل الرئيسي القديم، طريق حيفا تل أبيب ما يقارب كيلومترين ونصف، لم تكن هذه الطريق معبدة غالبًا ما تصبح في فصل الشتاء موحلة جدًا لأن تربتها طينية ثقيلة، تتحول الى وحل يلتصق بالأحذية، أو عدا عن مياه الصرف الصحي المنتشرة في الطرقات.

كان السكن في القرية شبه مستحيل بسبب عدم توفر الظروف المعيشية التي يحتاجها معلم المدرسة كالماء والكهرباء وعدم وجود حوانيت لبيع المواد الغذائية.

أصبح السفر اليومي من قريتي الطيرة الى جسر الزرقاء عبر حافلات شركة "ايجد" لأنها الوسيلة الوحيدة المتوفرة، كانت مدة السفر تستغرق يوميًا الساعتين تقريبًا.

استمرت معاناة السفر حيث القيام الساعة الخامسة صباحًا للحاق بالباص، وأحيانًا يتأخر الباص وأحيانًا أخرى يكون الباص مزدحمًا، فأخذنا أنا وبعض الزملاء من الطيرة والطيبة  نفكر بإستئجار وسيلة سفر تقلنا يوميًا الى جسر الرقاء.

وجاء الحل على يد أحد الزملاء الذي قال لنا بفخر ومباهاة أنه استأجر حافلة وستأتي غدًا صباحًا الساعة السادسة والنصف.

في صبيحة اليوم التالي جاءت الحافلة وكانت عبارة عن نصف شاحنة وغرفة القيادة منفصلة عن صندوقها الخلفي، سارعنا الى الصعود في الصندوق وإذ بها خالية من المقاعد.. قال السائق بصوته العالي:

-         معلش اتحملونا اليوم يا اساتذة، نسيت وضع المقاعد في الشاحنة.

سافرنا وقوفًا متسترين بالشادر الذي يغطي صندوقها، كان العزاء الوحيد أننا وصلنا قبل بداية الدوام بعشرين دقيقة، إلا أن اجسادنا كانت منهكة من تمايل السيارة يمينًا ويسارًا وقفزها فوق المطبات، وكان الاتفاق أن تعود الشاحنة بعد انتهاء الدوام المدرسي الساعة الواحدة والنصف.

في صباح اليوم التالي كانت الشاحنة أيضًا خالية من المقاعد، وقبل أن نحتج سارع السائق بالاعتراف أن شاحنته خالية من المقاعد لأنه يشحن فيها كل شيء وعلينا تدبير أنفسنا، واقترح علينا أن يحضر كل منا كرسيًا صغيرًا للجلوس، اصبنا بالدهشة لكن سرعان ما استسلمنا لهذا الرأي.

في اليوم الثالث وقفنا في الصباح ننتظر الشاحنة وكل منا يحمل كرسيًا بيده، تأخرت السيارة، اصبنا بالقلق، فقد تأخر سائقها عن موعده حوالي نصف ساعة.. بعد انتظار وصلت الشاحنة وأخذ السائق يعتذر عن التأخير، لكنه لم ينزل من كابينة القيادة كعادته، وكانت نظراته الينا عبر المرآة العاكسة نظرات المذنب الذي ارتكب ذنبًا.

سارع الزميل عبد اللطيف الى الصعود وتسلق سلم الصندوق، وما أن أدخل رأسه داخل الصندوق حتى صاح بذعر:  شو هذا..؟! شو هذا؟

لم أعرف ماذا يقصد زميلي، هل شاهد قتيلًا ملقى داخل الصندوق؟ قبل أن أسأله صرخ مرة أخرى: تعالوا شوفوا! السيارة مليئة بروث البقر!

لم أصدق ما قاله، فسارعت الى اعتلاء سلم الصندوق، وما أن رأيت المشهد حتى شعرت أن  الصندوق يدور بي، كان المنظر مقرفًا لا يحتمل، روث الأبقار يحتل أرضية الصندوق مما يجعل السفر بها مستحيلًا، ليس من منظره بل من رائحته.

قفزت من فوق السلم غاضبًا من المفاجأة، ومن استهتار السائق وانتشار الرائحة النتنة التي أخذت تنتشر في الأجواء.

أخذ السائق يعتذر.. كان اعتذاره لنا نوعًا من أنواع رفع التعب:

-         متأسف يا اساتذة.. سامحوني.. حملت نقلة بقر.. كان الوقت متأخر، لم أقدر على تنظيف السيارة.. ثم أضاف.. اللي بدو يطلع يطلع أهلًا وسهلًا واللي ما بدو مع السلامة.

جميعنا اختار عبارة اللي ما بدو مع السلامة.. رجعنا الى بيوتنا وكراسينا بأيدينا نجر ذيول الخيبة، بهذه الحادثة انهار مشروع الشاحنة الذي كنا نحلم به، لم نفكر بالتفتيش عن بديل، كان الأمل الوحيد الذي يراود كل منا موافقة وزارة المعارف على طلبه للنقل الى أحدى قرى المثلث الجنوبي.

لكن حلم النقل بقي بعيدًا، وأخذت افكر باستئجار غرفة.. لكن من الذي يؤجر غرفة في بيوت صغيرة تكاد لا تتسع للعائلة...

(يتبع)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب