news-details

العظماء 24 لالة فاطمة نسومر خولة الجزائر (2-2)| علي هيبي

جولة جديدة المقاومة أشدّ زخمًا

هي المرحلة الثّانية من المقاومة الّتي بدأت منذ (1851 – 1857) وفي هذه المرحلة برزت "لالة فاطمة" كقائدة في الثّورة تقود جيشًا من المحاربين والمجاهدين، وقد برهنت "لالة فاطمة" على أنّ قيادة المقاومة الجزائريّة ليست حكرًا على الرّجال فقط، بل شاركت فيها النّساء، و"لالة فاطمة" خير نموذج للقائد الّذي امتاز بالحنكة والذّكاء وحسن التّقدير السّياسيّ والعسكريّ وحسن القيادة في حالتيِ: الهجوم والانسحاب. وقد دلّ على ذلك بطولاتها في المعارك المحتدمة، وما امتازت به من الأدب والتّصوّف والذّكاء الخارق وما تفرّدت به من بطولة وشجاعة ودراية وحنكة في إدارة المعارك، وهي الّتي واجهت عشرة جنرالات من قادة جيوش فرنسا فلقّنتهم دروسًا في البطولة والفروسيّة. وقد كانت في هذه المرحلة الكفاحيّة من أبرز وجوه المقاومة الشّعبيّة الجزائريّة، وهي أولى النّساء الجزائريّات اللّاتي قاتلت وقادت الجيوش والمقاومة ضدّ الفرنسيّين، ولمّا تبلغ العشرين من عمرها، ومنها وعلى تربة تجربتها الخصبة، النّاصعة والباسلة في المقاومة والمواجهة نمت المقاومات الجزائريّات الكثيرات، وأشهرهنّ الجميلات الثّلاث: "جميلة بوحيرد" وَ "جميلة بوعزّة" (1938 – 2015) وَ "جميلة بو باشا" (1938 – ما زالت حيّة) وَ "حسيبة بن بوعلي" وَ "1939 – 1957) "سامية لخضاري" (لم أجد في المصادر ذكرًا لسنة ميلادها ولا لموتها) ، وَ "مريم بو عتورة" (1938 – 1960) وَ "مليكة بلقايد" (1933 – 1957) والنّجوم الثّوريّة في سماء الجزائر الحرّة الأبيّة وعلى أرضها الطّاهرة لا تُعدّ.

بعد انضمام "لالة فاطمة" إلى مقاومة المناضل الجزائريّ "الشّريف بو بغلة" في العام ذاته في منطقة "القبائل"، تمكّنت من صدّ هجوم قوّات الاستعمار الفرنسي على قرية "ناث إيراثن"، الأمر الّذي شكّل حافزًا كبيرًا لأهالي القرى المجاورة وشيوخ زواياها وطلّابها إلى الانضمام للجهاد في صفوف المقاتلين. كانت الظّروف مواتية وفي صالح المقاومة، فقد استطاعت قيادتها الدّفاع عن منطقة "جرجرة" وصدّ هجومات الاستعمار الفرنسيّ على تلك المناطق، وقامت قوّاتها الباسلة بقطع طرق المواصلات أمام تحرّكات الفرنسيّين، ونجحت "لالة فاطمة" في الوقت نفسه لقدرتها على الإقناع بتجنيد المزيد من شيوخ الزّوايا الدّينيّة وطلّابها وأهل القرى للانضمام للمقاومة الّتي تذود عن بيوتهم وقراهم ومحاصيلهم وحقوقهم وكرامتهم واستقلال بلادهم.

كانت أشهر المعارك الّتي قادتها "لالة فاطمة" هي المعركة الّتي خاضتها إلى جانب "الشّريف بو بغلة محمّد بن عبد الله"، في مواجهة الجيوش الفرنسية الزّاحفة بقيادة المارشال: "راندون" في تلّة "تمزقيدة"، ولكنّ عدم التّكافؤ في القوّة العسكريّة أجبر قادة المقاومة على الانسحاب بشكل ذكيّ والذّهاب لدعوة شيوخ الزّوايا والطّلاب والمؤيّدين من أبناء القبائل للجهاد والمقاومة لصدّ العدوّ، وفعلًا تمّ ذلك سنة (1854) ففي معركة "سباو العلوي" في منطقة "تاظروك" استطاعت المقاومة بقيادة "لالة فاطمة" أن تحقّق نصرًا مشهودًا على القوّات الفرنسيّة بعد مقاومة عنيدة وباسلة احتدمت على مدى حزيران وتمّوز من ذاك العام ضدّ القائد الفرنسيّ "راندون" وقوّاته وضدّ ذيله القائد "يوسف التّركيّ" والخائن العميل الجزائريّ "الباش آغا الجوديّ"، كانت تقف على هضبة وتشرف على المعركة مجموعة من النّساء المقاتلات وقمن بإطلاق النّداءات الحماسيّة والغناء والزّغاريد الشّعبيّة حتّى استمات الثّوّار في القتال، حتّى تقهقرت القوّات الفرنسيّة وأدّت المعركة إلى هزيمة مدوّية للفرنسيّين وحلفائهم، إذ خلّفوا وراءهم في أرض المعركة 800 قتيل بينهم 25 ضابطًا و 371 جريحًا، ويحكى أنّ المقاتلة الشّجاعة والعظيمة "لالة فاطمة" قد استطاعت من الفتك بالعميل الخائن "الباش آغا الجوديّ". لا يمكن للرّصاصة أن تقاتل وحدها، لقد ثبت من تجارب التّاريخ والمقاومة أنّ الرّصاصة لا تنتصر وحدها، لا بدّ من أغنية أو قصيدة أو جريدة أو زغرودة ترافقها لتنتصر! "لا ثورة بلا غناء ثوريّ، لا ثورة بلا فرح". هذه هي المعركة الّتي جرح فيها القائد "بو بغلة" جرحًا شبه قاتل، ولكنّها بدرايتها ومعرفتها وإيمانها استطاعت أن تشفيه وتنقذه من موت محقّق.

 

الثّأر للكرامة الاستعمارية الدّنيئة

دفعت الهزيمةُ النّكراء و"مرمغةُ" الجبين الفرنسيّ العاري من الكرامة في تراب الخزي والعار القوّاتِ الفرنسيّةَ المهزومة إلى التّفكير بالثّأر الاستعماريّ لهزيمتها النّكراء، جحافل متوحّشة من القوّات والجيوش المدجّجة بأحدث السّلاح والحقد اللّاإنسانيّ والإمدادات الّتي لا تنضب، تنهزم أمام مجموعات صغيرة من المقاتلين البواسل المؤمنين بحقّ وطنهم والعاشقين للحياة الكريمة والحرّيّة رغم قلّة سلاحهم وضعف إمداداتهم، فيا لعارات فرنسا وقوى الاستعمار في كلّ مكان وزمان! ويا لمجد المقاومين الجزائريّين وكلّ المقاومين للاستعمار وموبقاته، من أجل الحرّيّة والعدالة والكرامة الوطنيّة والإنسانيّة في كلّ مكان وزمان.

تجهّز فرنسا قوّاتها وتعيد ترتيبها من جديد كي تقوم باحتلال جبال "جرجرة" العصيّة والشّديدة الوعورة، فقامت بإنشاء معسكرات في كافّة المناطق وقامت بالاستيلاء على معظم الأراضي المزروعة، ومع ذلك استطاعت "لالة فاطمة" ببسالتها وحنكتها المعهودة أن تقود المقاومة وتنتصر في عدّة معارك وفي مناطق مختلفة، وقد استمرّت في مقاومتها للاستعمار الفرنسيّ وشنّت هجومات كثيرة على مراكز وجوده في منطقة القبائل، وحقّقت انتصارات كبيرة، من بينها معارك "الأربعاء"، "تخجلت"، "عين تاوريغ"، "توريرت موسى" وَ "براثن". فلم تجد القوّات الفرنسيّة المتمركزة في المنطقة من سبيل أو منقذ من ورطاتها وهزائمها إلّا بطلب تقديم مساعدات عاجلة - كعادتها بعد كلّ هزيمة - من السّلطات الفرنسيّة السّياسيّة، فأرسلت لها هذه عددًا إضافيًّا من الجنود ومن العتاد الحديث، ما اضطرّ "لالة فاطمة" وجيشها على تنفيذ انسحاب تكتيكيّ إلى قرية "تاخليجت ناث عيسو"، بسبب استخدام الفرنسيّين لأساليب وحشيّة في الإبادة الجماعيّة وتدمير المحاصيل الزّراعيّة عصب الحياة لأولئك الفلّاحين البسطاء في منطقة القبائل.

لقد استطاعت "لالة فاطمة" أن تجهّز فرقًا قليلة العدد وسريعة الحركة من المجاهدين خلف خطوط العدوّ فضربت مؤخّرات القوّات الفرنسيّة وقطعت عليها طرق إمداداتها ممّا أعاق وصولها، الوضع الّذي أدّى إلى حالة من الارتباك في صفوف الفرنسيّين، ممّا جعل بالقائد "راندون" أن يسارع لطلب المؤازرة السّريعة من المارشال "باتريس دي ماك ماهون" (1808 – 1893) لقد كان جيش "راندون" المنهك وشبه المحاصر يعدّ 45 ألف جنديّ وضابط، وصلت المعلومات إلى قيادة جيش الاحتلال الفرنسيّ في مدينة "قسنطينة" الواقعة شرق الجزائر عن محاصرة "لالة فاطمة" لجيشه في القبائل وتعرضّهم لهجمات كبيرة وخسائر فادحة،       وقام "ماك ماهون" بتعزيز جيش "راندون" بحوالي 13 ألف جنديّ وعتاد وأسلحة كثيرة، بينما كانت "لالة فاطمة" تقود جيشًا لا يزيد تعداده عن 7 آلاف جنديّ. كانت تتمركز بهم في قرية "آيت تسورغ" وفي هجماتهم المتلاحقة استطاعوا قتل 10 ضبّاط من قادة الجيش الفرنسيّ الكبار، كانت الخسائر الفرنسيّة كثيرة ومني الجيش الكبير المدجّج بالعتاد حتّى سنة (1857) بخسارة معنويّة معيبة أمام مجموعات من المقاتلين الجزائريّين لا يحملون سلاحًا إلّا السّيوف والمسدّسات والبنادق القديمة، ولكنّ سلاحهم الأقوى هو إيمانهم بضرورة الكفاح العظيم حتّى تحقيق النّصر الحتميّ أو الموت بكرامة وشرف.

 

معركة أخيرة، ليس للجزائر:

خاضت "لالة فاطمة" معركتها الأخيرة ولكنّها علّمت الجزائريّين قاطبة رجالًا ونساء كيف يخوضون المعارك وينتصرون، علّمتهم بصمودها الصّمود على موقف الثّبات والعزيمة والكرامة وضرورة استمرار الكفاح حتّى كنس الوجود الفرنسيّ الملوّث بالعار والجرائم من على أرض الجزائر الّتي جُبل ترابها بالطّهر والقداسة الوطنيّة، علّمتهم كيف يتحقّق النّصر وكيف تستلّ الحرّيّة من بين براثن الوحش الاستعماريّ المفترس وكيف تتجسّد الكرامة القوميّة والإنسانيّة بالتّضحيات والثّورة والاستقلال.

في المعركة الأخيرة احتدم القتال بين القوّات الفرنسيّة بقيادة "راندون" والقوّات الجزائريّة بقيادة "لالة فاطمة"، كانت تلبس لباسها العسكريّ الأحمر، ممّا أدخل الرّعب في الجنود الفرنسيّين، ورغم قيادتها الحكيمة وبسالة مجاهديها اضطرّت لطلب هدنة للتّفاوض وسحبت قوّاتها بشكل تكتيكيّ بعد أن لجأ الفرنسيّون إلى همجيّتهم وأساليبهم الوحشيّة في تنفيذ حرب إبادة بحقّ القرويّين، كان "راندون" بحاجة إلى تلك الهدنة أيضًا، خاصّة بعد أن تمكَّنت "لالة فاطمة" مرّة أخرى من ضرب مؤخّرات جيش الاحتلال الفرنسيّ واستنزافها وقطع المواصلات والإمدادات عنها، ممّا أربك الفرنسيّين وعلى رأسهم "راندون" الّذي وافق على طلب الهدنة وطلب إيقاف القتال بين الجيشيْن. ولكنّ الدّناءة والغدر في الاستعمار أينما وجد لا ينتهيان، إذ لا يحترم الاتّفاقات ولا يلتزم بالمبادئ والمواثيق، والاستعمار لا يلتزم إلّا بهيمنته الكولونياليّة السّياسيّة على مقدّرات الشّعوب المضطهدة ولا يحترم إلّا أطماعه الاقتصاديّة وأرباحه المادّيّة من ثرواتها. انسحبت "لالة فاطمة" بقوّاتها فاستغلّ الاستعمار الفرنسيّ انسحاب المقاومة ليقوم بواحدة من أبشع جرائمه في الجزائر، فدمّر المنازل على رؤوس ساكنيها دون سابق إنذار، وارتكب إبادة جماعيّة بحقّ السّكّان الأبرياء العزّل الّذين لا علاقة لهم بالقتال والمقاومة، وقد مسح الفرنسيّون عددًا من القرى عن وجه الأرض، ولم يسلم من سكّانها حتّى الأطفال، كانت التّهمة جاهزة لأولئك الأبرياء مساعدة المقاومة بالمجاهدين وإمدادها بالسّلاح والطّعام والماء. ومع ذلك تمّ إبرام الاتّفاق وأُعلنت بنوده وشروطه: إعادة انتشار القوّات الفرنسيّة وانسحابها إلى خارج القرى والمناطق المأهولة بالسّكّان، لا يدفع الجزائريّون الضّرائب للفرنسيّين، عدم ملاحقة قادة المقاومة والمسّ بهم أو معاقبتهم، حماية النّاس وممتلكاتهم. وعاد الغدر والدّناءة! فقد تظاهر "راندون" بقبول شروط الاتّفاق إلّا أنّه أمر باعتقال أعضاء الوفد الجزائريّ المفاوض لدى خروجهم من المعسكر الفرنسيّ. وقامت القوّات الفرنسيّة مستغلّة الهدنة والانسحاب بحصار "لالة فاطمة" مع مجموعة من النّساء وأسرهنّ، ومن ثمّ اعتقلت قائدة المقاومة العظيمة "لالة فاطمة" مع 30 مناضلًا من رجال المقاومة ونسائها وأبعدتهم إلى مدينة "بني سليمان" كي لا تتجدّد المقاومة، ولكن هيهات! فتاريخ الجزائر منذ (1830 – 1962) زاخر بقامات المقاومة وعظمائها ونجومها السّاطعة لا تعدّ.

 

اعتقالها واستشهادها:

إنّ أروع وأجّل ما يمكن أن تعتزّ الجزائر به وتتفاخر هو ما سجّله التّاريخ لها ودوّنه بحروف من النّور والذّهب في صفحاته المجيدة والخالدة، هو كفاح المرأة الجزائريّة العظيمة، وما أظهرته من الشّجاعة والبطولة والتّضحية في ميدان الكفاح والجهاد في سبيل الله وفي الدّفاع عن الوطن والذّود عن الشّرف الوطنيّ، لا سيّما خلال الفترة الحالكة للغزو الفرنسيّ للجزائر وانتشار موبقاته الاستعماريّة ومطامعه الدّنيئة على كامل التّراب الجزائريّ الوطنيّ وتدنيسه للأرض الطّاهرة الّتي أنجبت أولئك النّساء المكافحات والرّجال المناضلين. ويكفي الجزائر العربيّة والأمازيغيّة فخرًا أن تكون المناضلة العظيمة "لالة فاطمة" ابنة لها، ويكفي الابنة المطيعة لأمّها الجزائر أن تكون أولى النّساء الثّائرات والمقاومات للظّلم والاضطهاد والإذلال والقتل والسّلب والهيمنة والاستعمار بكافّة جرائمه وموبقاته وغطرسته.

في 11 تمّوز سنة (1857) اعتقلتها قوّات القائد "يوسف التّركيّ" الموالي للاستعمار الفرنسيّ ونقلوها إلى معسكر القائد الفرنسيّ "راندون"، وهناك وضعت تحت الإقامة الجبريّة في "تمزقيدة" تحت رعاية "الطّاهر بن محيي الدّين" أحد العملاء الجزائريّين، ويقال أنّها نقلت إلى مدينة "تابلاط" في شمال الجزائر، وبقيت "لالة فاطمة" في المعتقل الفرنسيّ لمدّة 7 سنوات إلى أن توفيت شهيدة الكفاح والمقاومة والوطن إثر مرض عضال تسبّب في شللها نصفيًّا، وكان شقيقها الأكبر "سي الطّاهر" قد توفّي قبلها سنة (1861) خلال مواجهة مع العدوّ الفرنسيّ، ويقال أنّها ماتت مسمومة في فرنسا، وكانت في عزّ شبابها وعنفوانها وماتت في أيلول سنة (1863) ولمّا يكمل لها من العمر 33 ربيعًا.

ولكنّ "لالة فاطمة نسومر" لم تمت إلّا جسدًا وما زالت روحها الطّاهرة كطهارة تراب الجزائر المحرّرة ترفرف فوق جبال الأطلس وجبال منطقة القبائل وفوق السّاحل والبحر والعاصمة، وفوق كلّ بقعة أرض جزائريّة وتحت كلّ كوكب في السّماء الجزائريّة السّاطعة. لقد دفنت في مقبرة "سيدي عبد الله" حيث توفّيت، ولكنّ الحكومة الجزائريّة تخليدًا لذكراها العاطرة وروحها الطّاهرة وتبجيلّا لمسيرتها الوطنيّة والكفاحيّة قامت بنقل رفاتها إلى مربّع "الشّهداء" في مقبرة "العالية" سنة (1995) وفي سنة (2009) تحوّل المكان إلى متحف يحمل اسم "لالة فاطمة نسومر" الكبير.

أطلق عليها المستشرق الفرنسيّ "لويس ماسينيون" (1883 – 1962) الّذي عشق روح الإيمان الإسلاميّ وأحبّ اللّغة العربيّة، أطلق عليها لقب "جان دارك جرجرة" تشبيهًا بالثّائرة الفرنسيّة الّتي حاربت الاحتلال البريطانيّ منذ القرن الخامس عشر، وقد لقّبت بِـ "عذراء أورليانز" ولكنّ "لالة فاطمة" ورغم تقارب بين شخصيّتيْهما في الإيمان الدّينيّ الرّاسخ والقوّة الإلهيّة الخارقة عند كلتيْهما ومقاومتهما العنيدة والباسلة أمام العدوّ الاستعماريّ، رغم ذلك كانت ترفض التّشبّه بالفرنسيّين، وكانت تفضّل لقب "خولة جرجرة" تشبّهًا واحترامًا للمقاتلة "خولة بنت الأزور" (ولدت في القرن السّابع) في جيش "خالد بن الوليد" (592 – 642) وإلى جانب أخيها "ضرار بن الأزور" (ولد في القرن السّابع) في معركة "اليرموك" سنة (636) وفي غيرها من معارك فتوح الشّام. وهناك من أطلق عليها لقب "خولة الجزائر" أو "لبؤة الجزائر"، وليس كثيرًا عليها كلّ الألقاب والنّعوت العظيمة الّتي تنطوي على معاني البطولة والمجد والتّفاني والرّفعة والتّضحية والحرّيّة والكرامة.         

 

إلياذة الجزائر:

شاعر الثّورة الجزائريّة وعضو "جبهة التّحرير الوطنيّ" "مفدي زكريّا" (1908 – 1977) مؤلّف أغاني الثّورة زمن احتدامها والنّشيد الوطنيّ بعد الاستقلال، صاحب القصيدة المشهورة "إلياذة الجزائر" خلّد ذكر الثّائرة الكبيرة "لالة فاطمة" في مقطع من مقاطع مطوّلته الملحميّة، كما خلّد التّاريخ الجزائريّ منذ فجر التّاريخ حتّى سبعينيّات القرن العشرين. لقد آمن "مفدي زكريّا" بأنّ التّاريخ وحدة لا تتجزأ وهو تواصل وامتداد، ولذلك تنقّل من التّاريخ القديم فالوسيط فالحديث للجزائر، وكأنّه سلسلة واحدة، مبيّنًا أنّ التّاريخ ليس وليدًا للصّدف ولا نتيجة لمكائد الاستعمار بل هو ما تصنعه الشّعوب، ولذلك تأتي "إلياذة الجزائر" استعراضًا وتصويرًا لما صنعه الشّعب الجزائريّ من بطولات وانتصارات وأمجاد على شاكلة "الإلياذة اليونانيّة" (يقال أنّها جمعت سنة 700 ق.م) الّتي ألّفها الشّاعر اليونانيّ القديم "هوميرس" (القرن التّاسع ق.م – القرن الثّامن ق.م) الّتي صوّرت أمجاد اليونانيّين وبطولاتهم وانتصارهم في حرب "طروادة" الّتي دامت 80 عامًا، بين (1260 – 1180 ق.م)

و"إلياذة الجزائر" قصيدة طويلة من 100 مقطع، في كلّ مقطع 10 أبيات إلّا المقطع رقم 93 فكان من 11 بيتًا، وبذلك يبلغ عدد أبياتها 1001 بيت، وفي آخر كلّ مقطع ثلاثة سطور تتكرّر، وهي عبارة عن لازمة غنائيّة قصيرة تمجّد الكفاح والجزائر، وقد يكون لذلك العدد دلالة تراثيّة إلى كتاب "ألف ليلة وليلة". يطغى التّاريخ وأحداثه على مضمونها بأسلوب ملحميّ مشحون بالرّموز الثّقافيّة والتراثيّة والدّينيّة، وبالرّغم من ذكر بطولات بعض الأفراد في معارك التّحرير، لكنّ يبقى بطل التّحرير الحقيقيّ فيها هو الشّعب الجزائريّ.

 

المقطع التّاسع والثّلاثون للالة فاطمة:       

"وتذكرُ ثورتُنا العَارمة            بُطولات   سيّدتي  فاطمة

يُفجِّر  بركانها   جرجرا            فترجف باريس والعاصمة

وخُلّد باسْم أمّهَا  ذِكْره           فزكَّى    قداسَتَه    الدّائمَة

وفاضت دمَاءُ بني رَاتنٍ           تفدِّي   قراراتِه  الحاسمة

نسُومرُ مذ نسَبوك لتاكلا         رفضتِ التّواكلَ يا  فاطمة

وألهبت نارًا تذيب الثلوج        وتعْصفُ  بالفئة  الظّالمة

وجندٍ  يُبَاع  ويُشترى  كمَا        تُبَاع   وتُستأجَر   السّائمة

وأرعفْتِ رَاندون  في  كِبره        ودسْتِ على أنفِه  الرّاغمة

وصعّرْتِ  للجنرالات خدًّا        فخابت   نواياهم   الآثمة

أتنسى    الجزائرُ  حوّاءها        وأمجَادُهَا  لم  تزلْ  قائمة

اللّازمة:        شَغَلْنا  الورى  ومَلَأْنا  الدّنا

                   بشِعرٍ      نُرتِّله     كالصَّلاة

                   تسابيحهُ من حَنايا الجزائر"

 

خلودها:

بعد حياة قصيرة ولكنّها عريضة، مشبعة بالكفاح والمواقف الثّوريّة والتّضحيات العظيمة، وبعد مسيرة نضاليّة حافلة بالمواجهة والقتال الوطنيّ ضدّ المحتلّ الفرنسيّ، وبعد قيادة حكيمة وحنكة سياسيّة ودراية كبيرة في شؤون الحرب، ماتت "لالة فاطمة" موتًا ساطعًا ومشرّفًا في سجون الاحتلال، موتًا يشرّف كلّ حياة. هكذا ظلّت في معمعان الكفاح منذ سنة (1847) تقاتل حتّى سُجنت وماتت في سجنها سنة (1863) قادت المعارك مع المجاهد "الحاجّ عمر بن زعموم" في منطقة القبائل، وقد هزما القوّات الفرنسيّة بقيادة "بيجو" وَ "راندون"، وظلّ المسار الكفاحيّ العسكريّ متتابعًا، من ثورة إلى ثورة ومن موقعة إلى موقعة ومن نصر إلى نصر حتّى قامت "جبهة التّحرير الوطنيّ" في 1 تشرين الثّاني سنة (1954) وقادت الكفاح والثّورة حتّى الانتصار الكبير والتّحرير الكامل بعد طرد الفرنسيّين المدنِّسين من على الثّرى الجزائريّ الطّاهر والمقدّس سنة (1962) لقد بلغ التّوحّش الاستعماريّ الفرنسيّ أكثر من النّهب والاضطهاد، بل إنّه غالى بارتكابه المجازر الفظيعة الّتي بلغت حدّ السّاديّة الّتي لا تشبع من الدّماء الجزائريّة الزّكيّة.

لا نبالغ إذا اعتبرنا مقاومة العظيمة "لالة فاطمة" وأمثالها العظماء من القادة والأبطال الجزائريّين في هذه المرحلة المتقدّمة زمنيًّا، كانت وكانوا مفتاح هذا النّصر الكبير وأولى الخطى الكفاحيّة على طريق كنس الاحتلال الفرنسيّ الغاشم واجتثاث آثامه وموبقاته وإنجاز الاستقلال الوطنيّ والحياة تحت علم من الحرّيّة والعدالة والكرامة الوطنيّة والإنسانيّة، تحت راية الجمهوريّة الجزائريّة الدّيمقراطيّة الشّعبيّة المستقلّة، برئاسة الرّئيس العربيّ الأوّل "أحمد بن بلّة" (1916 – 2012) وخليفته الرّئيس الثّاني "الهوّاري بو مدين" (1932 – 1978) لقد كانت هذه المسيرة المشرقة بالنّور والمقاومة والغد السّاطع بالحرّيّة والاستقلال هي سرّ خلود هذه الثّائرة الجزائريّة العظيمة "لالة فاطمة نسومر".    

وتقديرًا لدور "لالة فاطمة" التّاريخيّ البطوليّ والمشرّف لكلّ أمّة، والقدوة الحسنة لكلّ ثوريّ مكافح ضدّ الظّلم والاضطهاد ومن أجل الحقّ والعدالة والحرّيّة في كلّ مكان، أطلق اسْمها على جمعيّات نسويّة عديدة، كما ألّفت حول شخصيّتها الفذّة ومسيرتها المتميّزة أعمال أدبيّة وفنّيّة كثيرة. وتعرض في الجزائر حتّى يومنا هذا التّماثيل والنّصب التّذكاريّة للمناضلة "لالة فاطمة". وكثير من المدارس والشّوارع والمعاهد والمرافق الرّسميّة تحمل اسْمها الخالد.

وقد أنجز تمثال عظيم لعظمة "لالة فاطمة" من عمل الفنّان الجزائريّ "بعزيز همّاش" في "تيزي الجمعة" في منطقة "أبو يوسف". وقد أطلقت الجزائر مؤخّرًا اسْم "لالة فاطمة نسومر" على إحدى بواخرها العملاقة النّاقلة للغاز الطّبيعيّ المسال من البحريّة الجزائريّة التّجاريّة، الّتي تمّ استلامها سنة (2004) من اليابان تخليدًا لذكرى مسيرتها الوطنيّة والكفاحيّة. وقد وُثّقت حياة "لالة فاطمة نسومر" في فيلم يحمل اسْمها العظيم من إخراج المخرج الجزائريّ "بلقاسم حجّاج" (1950 – ما زال حيًّا) وعرض في سنة (2014) وانتجت مسرحيّة عن سيرتها من تأليف "إدريس قرقورة" بعنوان "لالة فاطمة نسومر المرأة الصّقر".

وقد بلغت سمعتها وشهرتها ومكانتها أعلاها وأسناها سنة (2020) حين قامت بلديّة "إيتربك في العاصمة البلجيكيّة "بروكسل" بإطلاق اسْم المقاوِمة الجزائريّة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ "لالة فاطمة نسومر" على أحد شوارعها الكبيرة. (انتهى)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب