news-details

 العنف ضد النساء: أداة للهيمنة والإخضاع| رهام أبو العسل

على هامش اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء

 

لا يمكن التطرق إلى العنف ضد النساء الفلسطينيات داخل إسرائيل بمعزل عن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتأثيره على وضعية النساء، وكذلك لا يمكن فهم ديناميكيات العنف القائمة ومصادرها دون التطرق للتشابك القائم بين عنصرية الدولة وبين البطريركية القائمة داخل المجتمع، وانعكاس هذا التشابك على حركة النساء وعلى حراكهن الفردي والجماعي. هذا المقال يسلط الضوء على البطريركية داخل المجتمع الفلسطيني كأداة أساسية لترسيخ دونية النساء والحد من تحررهن، ومؤشر يخبرنا عن الصراع القائم في المجتمع على مختلف المستويات، في حين يأخذ في الحسبان الدور الذي تلعبه البطريركية والذي يبدو ظاهريًا انه مناقض للدولة وسياساتها لكنه في الحقيقة متآلف ومنسجم معها ضد النساء، وضد كل منظومة تقدمية وتحررية.

 

//العنف نتاج للبطريركية:

تكمن جذور العنف الموجه ضد النساء في علاقات القوة السائدة بين النساء والرجال وانعدام المساواة بينهما، فهي أداة سيطرة فعالة لترهيب النساء وإخضاعهن وفرض الواقع القائم، وأداة فعالة لفرض التراتبية والهرمية القائمة في المجتمع، والاحتفاظ بالامتيازات والموارد والسيطرة بيد الرجال. كل مرة تحاول النساء زعزعة هذا النظام يأتي الرد المضاد في زيادة العنف وتثبيت الهيمنة، إذ يبدو أن هذه المحاولات تقض مضاجع البطريركية التي بدأت ترى أن هنالك من يحاول سحب البساط من تحت أرجلها. في السنوات الاخيرة أصبح وصف هذا الواقع من هذا المنطلق مثيرًا للجدل، يستعين أولئك الذين يستفزهم هذا التحليل بالمقارنة بين وضعية النساء في الماضي ووضعيتهن في الحاضر، والحقيقة أن الأدبيات الحديثة تشير بالفعل إلى تحسن ملحوظ في العقود الأخيرة، خاصة في تقييم مجال التعليم والعمل، وتتزامن هذه الإنجازات مع تغيير تدريجي في مبنى العائلة العربية، وانخفاض معدل الإنجاب، والتحول نحو مبنى عائلي نواتي. على مستوى الإنجازات الملموسة، يبدو أن وضعية النساء العربيات في تحسن مطر، لكن كيف نفسر أن العنف الموجه ضد النساء بمختلف أشكاله في تصاعد مستمر؟ كيف نفسر أنه بين عام 2000-2009 قتلت 70 أمرأة ومنذ عام 2010 وحتى اليوم قتلت 114 امرأة، وأن أعداد النساء اللواتي يعشن تحت الخوف والتهديد اليومي في ارتفاع مستمر؟

يفسر عالم الاجتماع الفلسطيني هشام شرابي هذا التناقض في كتابه "النظام الأبوي"، وإشكالية تخلف المجتمعات العربية، فيرى أن التغيرات التي طرأت على المجتمع العربي لم تؤد إلى استبدال النظام القديم بنظام جديد، وإنما أدى فقط الى تحديث القديم دون تغييره جذريًا. يقول شرابي: " إن هذا المجتمع يمتلك كافة مظاهر الحداثة الخارجية، إلا أنه يفتقر إلى القوّة والتنظيم والوعي الداخلي، وهذه هي العوامل التي تتسم بها التشكيلات الحديثة. لذلك فمهما كانت المظاهر الخارجية -مادية وقانونية وجمالية- للعائلة المستحدثة االمعاصرة ومجتمعها "حديثة"، فإن بناها الداخلية تبقى مجذّرة في القيم الأبوية وعلاقات القربى والعشيرة والطائفة والجماعة العرقية".  النظام القائم في المجتمع العربي اليوم، بكلمات شرابي ليس نظامًا تقليديًا بالمعنى التراثي، كما أنه ليس معاصرًا بالمعنى " الحداثوي"، بل عبارة عن خليط غير متمازج من القديم والحديث، من التراثي والمعاصر، وفي هذه الثنائية بين التقليد والحداثة ناحية هامة تتميز بها كافة المجتمعات الأبوية "المحدثة"، إذ يصعب الوقوع على مؤسسة حديثة حقًا أو تقليدية حقًا.

ينسجم هذا الوصف مع بعض الأبحاث الحديثة التي تناولت وضعية النساء الفلسطينيات، والتي تشير إلى أن هذا التحسن هو ظاهري أكثر من كونه جوهريًا، لأنه لم يتغلغل في صلب العلاقات التسلطية الأبوية، ولم يستطع إحداث تغييرات جذرية في أدوار الجنوسة القائمة، وفي هيمنة الرجال وانفرادهم في السلطة في مختلف المستويات. فبينما نرى تأييدًا ودعمًا في حق النساء في التعليم والعمل إلا ان التطرق إلى حق المرأة في الحركة وفي الحرية المتعلقة بالجسد ما زالت تابوهات لا يمكن الاقتراب منها. هذا الخليط "غير المتمازج" يخلق تناقضات صارخة، فما يظهر على السطح لا يشبه بالضرورة ما يوجد في العمق. وفي حين يمكن لهذه التناقضات ان تجد لها طرقًا للعيش والتآلف في بعض الأحيان، إلا أنها في أحيان اخرى تتصادم بشكل لا يمكن إلا أن تطفو على السطح بقوة وتخلق صراعات حادة.

 

 

//الخطاب التقدمي في مواجهة الخطاب الأصولي

يلعب الخطاب الأصولي الذي يتغلف بغطاء ديني دورًا أساسيًا في ترسيخ البطريركية، فهو خطاب فعال، يشدد على احترام المرأة (لا على مساواتها) ضمن دورها التقليدي داخل مؤسسة الزواج والعائلة، ويتحكم بجنسانيتها، يمنح النساء سمات العفة والشرف والفضيلة، ويمجد الأمومة ويعطي المرأة الأم مهمة الحفاظ على الثقافة ونقلها الى الأجيال القادمة. وفي السياق السياسي الاستعماري تصبح النساء والتعامل مع قضاياهن باعتبارها حاملة لعبء التمثيل المادي والرمزي لمتغيرات الثقافة التقليدية والعصرية، فهي صائنة الأمة وحاملة التراث والهوية. وفي هذا الجانب نرى أن شريحة عريضة من النساء أنفسهن من الممكن أن يتبنين هذا الخطاب، لأنه يعفيهن من الصدامية مع البطريركية القائمة ولو بشكل جزئي، لكنه بالطبع غير كفيل بتحقيق المساواة، وغير كفيل بمنع الصدامية بشكل دائم.

يصطدم هذا الخطاب مع الخطاب التقدمي، كونه خطابًا حقوقيًا، يعتمد على رؤية تقدمية، علمانية تضمن المساواة والعدل والحرية كقيم إنسانية عليا. من الواضح أن الخطاب التقدمي المرتكز على المساواة يخلق حالة من الصدامية التي لا تستطيع النساء المناورة فيه دائمًا، بل الاشتباك والمواجهة. في هذه الصدامية تتهم البطريركية النساء بأنها تسعى لانحلال المجتمع، وتفكيكه والتخلي عن هويته وأصالته. مهمة الخطاب التقدمي مهمة صعبة وشاقة، لأن الخطاب الأصولي يتسلق على مواطن الضعف الكامنة في المجتمع، ويغذي تلك الهوية الجريحة لمجتمع فقد أرضه وموقعه وشعوره بالسيطره على حياته. في وضعية كتلك تصبح النساء والسيطرة عليهن الحيز الوحيد الذي يتم اللجوء إليه للتعويض عن هذا العجز الجمعي، هذا الأمر يعني أنه في حين بدأت النساء بطرق نوافذ تستطيع من خلالها أن تحقق استقلاليتها وتنظر نحو أفق أوسع من فكرة الاحترام، وأقرب إلى فكرة المساواة، تقف البطريركية بكل أدواتها لتعيدها إلى مكانها التقليدي. ينتج عن ذلك أن النساء يقتلن يوميًا ليس فقط فعليًا، بل مجازيًا أيضًا، يقتلن بالكلام والتعليقات، وبإثارة الإشاعات، وبمئات وآلاف الردود الفردية اليومية المنفصلة، والتي ترتبط جميعها لخلق جو عام يجعلها عرضة للتشكيك والمس.

في الحقيقة النساء هن من يقرعن جدران الخزان وهن من يدفعن الثمن، نضالهن اليوم هو ليس نضالًا لصالح النساء فقط، إنه نضال على وجه مجتمع برمته، وعلى روحه وعلى أخلاقياته. إنه نضال يفتح كل الأبواب على مصاريعها، ويسأل أي مجتمع نريد أن نبني وأي أفق نريد ان نخلق، ليس فقط للنساء، بل للمجتمع بكل أفراده وبكل شرائحه، وهو نضال يضع الأصبع على الجرح ويذكرنا بأن قضية النساء ومواقفنا المجتمعية تجاهها وتجاه كل مجموعة مهمشة فيه هي موطن الضعف لدينا، ونضالنا هو موطن القوة، وهو المفتاح لتحررنا الوطني مهما بدت الأمور بعيدة وغير متصلة.

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب