news-details

العيون الآن معلّقة على المختبرات وليس على السماء | هشام نفاع

لو أنّ إحدى جدّتيّ الحبيبتين الراحلتين، ندى وصديقة، دعتني وغيري للصلاة درءًا لفيروس كوفيد-19، لرأيت خلف الدعوة أعماقًا وفضاءات من الحب الإنساني والإيمان الصافي والوفاء للناس. هاتان الفلاحتان الكادحتان الفائضتان بالطيبة كانتا لا تبخلان بالصلاة والدعوة اليها حتى لو رأت عيونهما الكليلة البصر طيرًا جريحًا.

أما أن يدعو الناس للصلاة "من أجل الحماية والقوة في أوقات كهذه" شخص مثل دونالد ترامب، معتدٍ محتقِر مستغلّ لنساء، وعنصري وضيع كريه كاره شعوبًا بأكملها لأنها ليست بيضاء البشرة، فلا يثير ذلك سوى مزيج علقميّ الطعم من الاشمئزاز والمقت والنقمة على هكذا نفاق. ترامب العنصري الذكوري اليميني خاطب من سيفتك بهم الوباء من الأمريكيين، بسبب سياسته المجرمة، عبر "تويتر"، قائلا "إنني أشجعكم على التوجه إلى الصلاة كفعل إيماني. معا سننتصر بسهولة".

هذا السياسيّ لا يحترم الدين ولا الله. بل يستخدمهما وكأنهما مادة مخدرة لإعماء أبصار وبصائر المواطنين الأمريكيين عن الحقيقة: هو نفسه من أفشل حتى الخطوات الضئيلة المتعثرة التي رسمها سابقه براك اوباما سعيًا لبدء تصحيح جهاز خدمات الصحة الأمريكي، الذي لا نُفرط لو وصفناه بالمتخلّف. في ربيع 2014 كان مكتب الموازنة في مجلس الشيوخ توقع أن يفقد 14 مليون أمريكي (إضافي) غطاء التأمين الصحي في عام 2018 بموجب خطة الجمهوريين للرعاية الصحية.

منعًا للاستغراب من إطلاق نعت التخلّف على أميركا العظمى، يجب التوضيح أن البحث العلمي الطبي رائد وهائل في هذه الدولة. ليس مستوى البحث العلمي هو السؤال، بل سياسة الصحة. هذان مجالان منفصلان تماما. الدولة تمنع انعكاس التقدّم العلمي الطبي على عموم المواطنين. هذا متاح في القطاع الخاص. في الأحواز الخاضعة لما يقرره الإله: السوق الحرة. لا طب للفقراء هنا. كلّ مَن سيقدّم مبررات وذرائع لهكذا حقارة باسم أية قيمة كانت، فإنه سيجلب الاحتقار عليه. سلامة وحياة البشر لا يسبقها شيء. لا عجلة الاقتصاد ولا عربتها ولا حميرها وبغالها. فليساعدوا عجلة الاقتصاد بالتنازل عن عجلات طائرة مقاتلة وليس عن عجلات أسرّة طوارئ طبية متحركة.

لو دعا الأزهر للصلاة فهذا مفهوم. وقد دعا اليها فعلاً في إطار سلوكه الحالي بمسؤولية حين قرّرت، أواسط اذار، هيئة كبار العلماء بمؤسسة الأزهر، في فتوى رسمية، إيقاف صلوات الجمعة والجماعة لحماية الناس "تماشيا مع أعظم مقاصد شريعة الإسلام، حفظُ النفوس وحمايتها ووقايتها من كل الأخطار والأضرار". ودعت للصلاة "في البيوت أو في أي مكان غير مزدحم.” وفي 12 نيسان، كتب الأزهر على صفحته بموقع "فيسبوك" أن "لجنة البحوث الفقهية" اجتمعت مع "نخبة من علماء الطب المتخصصين في الطب الوقائي والأمراض المعدية والفيروسات" لبحث قضايا فقهية تحتاج مشورة علمية، منها تجهيز الموتى بسبب الإصابة بالفيروس. وأكد على "الالتزام بالإجراءات المحددة من قبل الطب الوقائي بوزارة الصحة"، ووجه "الشكر للطواقم الطبية التي تبذل جهدًا كبيرًا في مواجهة هذا الوباء".

أما بابا الفاتيكان فقد ذهب أبعد في موقفه التقدمي حين دعا إلى التضامن الدولي وتخفيف أعباء الديون على دول العالم الفقيرة، ووقف إطلاق النار في جميع الصراعات. وأثنى على الأطباء والممرضين وغيرهم ممن يخاطرون بحياتهم لإنقاذ الآخرين. وتابع: الوقت قد حان ليتجرد السياسيون والحكومات من الأنانية ويتخذوا تحركات حاسمة ومنسقة لمساعدة الشعوب على اجتياز الأزمة واستئناف الحياة العادية.

في نصّ المؤسستين الدينيتين المرجعيّتين لملايين وملايين الناس ممن يؤمنون بالله، إقرار بأولوية العلم الآن، وبوجوب اتباع ما يفرضه المعيار العلمي من سلوكيات اجتماعية بينها الدينية ممثلة بشكل الصلاة. أمام الوباء لا يمكن البقاء في إطار الشعائر والتقاليد والأنظمة. الصلاة بصورتها الجماعية تؤجّل الآن تجاوبًا مع ما هو أهمّ، حياة الناس. هذه سيحميها سلوك اجتماعي آخر، يحدده القرار العلمي ومعطيات البحث العلمي.

ليست مكانة الأجهزة الصحية العامة وحدها ستقف في مركز الجدل بعد انحسار الوباء، ولا أقول اختفاءه. يُفترض أنه لن يكون بمقدور أي جهاز سلطة إقناع الناس بعدم الحاجة لجهاز خدمات وتأمينات وضمانات صحية متساوٍ للجميع. ستكون الحكومات مضطرة لإعادة صياغة أولوياتها. كذلك، سيكون في مركز الجدل السؤال عن قيم أخلاقية (ورؤى سياسية) كالمساواة والتضامن وأولوية الإنسان على الربح. هذا الاستنتاج الاضطراري سيكون من منطلقين مختلفين تماما: منطلق اخلاقي (أولوية الانسان على الارباح) والثاني نفعي ومصلحي: لأن مرض الفقير يهدد صحة الغني. لن يكون مفر من انزياح باتجاه اشتراكي او عادل اجتماعيا أكثر، على الأقل، حتى لو لم يعترف البعض بتسميته هذه.

لكن سيكون أيضًا سؤال شديد الخطورة، سؤال معرفيّ عمّا يجب الاتكال عليه وانتظار الفرج منه. وهو يتجلّى في أن العيون معلّقة اليوم على مراكز البحث والمختبرات أكثر مما هي على السماء.

حين طرح العالم والفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل سؤال: ما هي قيمة دراسة الفلسفة؟ وخلص الى أنها لا تكمن في العثور على إجابات لأسئلتها هي نفسها، بل في دراسة الأسئلة ذاتها؛ كان أشار في مطلع النصّ الى العلوم الطبيعية. وكتب" العلوم الطبيعية تعود بالفائدة بواسطة اختراعاتها، أيضًا على كثير من الناس الجهلاء تماما في هذه العلوم. بالتالي يجب التوصية على تعلّم العلوم ليس فقط، أو بالأساس، بسبب أثرها على الدارس، بل بسبب أثرها على النوع البشري برمّته". (قضايا الفلسفة، 1912).

بهذا أنشأ راسل تطابقا، أو أقام رباطا وثيقا على الأقل، بين السؤال المعرفي والسؤال الأخلاقي. ليس العلم قيمة معرفية فقط، بل قيمة أخلاقية: فائدة للجميع وأثر على كل النوع. وفي هذه اللحظة التي يعيشها كل البشر، تشرق هذه الفكرة بشكل غير مسبوق في "بث مباشر فعلي واستعاري" نتابعه وننتجه جميعنا. والسؤال: كيف تتحدّد القيمة الأخلاقية للقيمة المعرفيّة ومن يحددها؟ هنا تأتي السياسة بمفهومها الأعمق.

(يتبع)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب