news-details

القاضي الذي قال لا في بلد يراد له أن يركع على أبواب السفارة الأمريكية | حسن مصاروة

كان قرار القاضي في محكمة الأمور المستعجلة في مدينة صور اللبنانية، ذا قيمة تصريحية ما كان له أن يتحول إلى أمر تنفيذي ملزم قانونيًا، بمنع السفيرة الأمريكية في لبنان من ادلاء أي تصريحات على وسائل الإعلام اللبنانية، كفيلًا بأن يقيم بلدًا كاملًا ولا يقعده، وأن يستنفر صحافيين وسياسيين، نواب برلمان، وزراء ورؤساء حكومة سابقين، رؤساء أحزاب وزعماء طوائف، للدفاع عن "حق" السفيرة الأمريكية في الكلام وبثّ سمومها الفتنوية وعنجهيتها العدوانية على شاشات التلفزة اللبنانية.

اصطفوا جميعًا في مشهد من الذل والتذلل الجماعي تأسفًا واعتذارًا وتملقًا لسيدتهم الأمريكية على ذلك "التطاول" الذي قام به قاض "مغمور" بحق سلطانها المعظم، مشهد تبعية وخنوع وركوع وذل باسم الدفاع والحفاظ على "الأعراف الدبلوماسية" والعلاقات السياسية وحرية الإعلام .

لم يتصرف القاضي اللبناني صاحب القرار الذي شغل لبنان في الأسبوع الأخير وآثار كمية اعتذارات غير مسبوقة من عدد من الشخصيات السياسية اللبنانية، القاضي محمد مازح، الا بما يقتضيه المنطق الطبيعي أوّلًا، والحس الوطني والسيادي وبعض من الكرامة، وبما تقتضيه ثانيًا الأعراف الدبلوماسية التي يتكلمون عنها، وبنص الاتفاقات الدولية التي تحكم طبيعة العلاقات الدبلوماسية وحدود تصرفات السفراء والممثلين الدبلوماسيين.

وكان قد أصدر قرارًا يمنع بموجبه السفيرة الأمريكية في لبنان، دوروثي شيا، من الإدلاء بأي تصاريح إعلامية، ومنع أي وسيلة إعلامية لبنانية من أخذ تصريح لها في هذا الإطار. وشرح القاضي في حيثيات قراره أن السفيرة الأميركية تناولت في حديثها أثناء المقابلة أحد الأحزاب اللبنانية الذي له تمثيل نيابي في مجلس النواب وتمثيل وزاري في مجلس الوزراء وله قاعدة شعبية لا يستهان بها، في إشارة إلى مهاجمة السفيرة الأمريكية لحزب الله خلال حديثها مع وسائل إعلام لبنانية. وقال أن حديث السفيرة الأميركية تناول الحزب المذكور لجهة تحميله مسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في البلاد فضلًا عن أنه لا يحق للسفيرة التطرق إليه لكونه يمثل شأنًا داخليًا لبنانيًا، ويخرج عن الأعراف الدبلوماسية المتعارف عليها بموجب المعاهدات الدولية واتفاقية فيينا، فإنّه يسيء لمشاعر الكثير من اللبنانيين ويساهم في تأليب الشعب اللبناني على بعضه وعلى الحزب المذكور.

تخرج سفيرة دولة أجنبية، بغض النظر عن طبيعة هذه الدولة، في وسائل إعلام محلية لتحرض على الحزب الذي نالت قائمته الانتخابية عدد الأصوات الأكبر في البلاد والذي يملك وزراء في الحكومة وقاعدة جماهيرية ممتدة على طول البلاد وعابرة للطوائف والمناطق، وحاضنة شعبية متجذرة في البلاد والحياة الاجتماعية والسياسية وتمثل جزءًا طبيعيًا من النسيج الوطني والاجتماعي، وتتهمه بالإرهاب وتلقي عليه وزر الأزمة الاقتصادية التي تمر فيها البلاد. فما بالك لو كانت هذه الدولة الأجنبية هي الولايات المتحدة التي تحاصر وتجوع لبنان، ذات التاريخ الطويل في تمويل وتسليح الفتن الداخلية فيه، تلك التي دعمت وغطت عسكريًا احتلال عاصمته من قبل اسرائيل ووضعت كل ثقلها وقوتها وهيمنتها للوقوف أمام تحرره. وبتنا نعرف اليوم بالوثائق أن حرب الـ2006 التي دمرت بيروت كانت حربًا أمريكية بقرار أمريكي لخدمة مصالح أمريكية مباشرة ولكن بسلاح اسرائيلي. أيستدعي قرار يحقق الحد الأدنى من المنطق الوطني بمنع سفيرتها من بث الفتنة والتحريض في بلد مشتعل على شفا حرب أهلية كل هذا الاستنفار؟

وقد طرح بعضهم تلك المفارقة الواضحة، عن ماذا كانت ستفعل الحكومة الأمريكية لو أن سفيرًا أجنبيًا في الولايات المتحدة، خرج على وسائل الإعلام الأمريكية، حتى تلك الوسائل الإعلامية المحسوبة على معارضة الإدارة الأمريكية الحالية، وبدأ يتكلم عن الحزب الجمهوري ويتهمه بتدمير البلاد والإضرار بالشعب الأمريكي والتسبّب بالأزمة الاقتصادية ووصمه بالإرهاب-وهو هنا سيكون صادقًا على الأقل-هل كانت ستسمح وسائل الإعلام الأمريكية ذاتها بذلك، هل كانت ستدعه يكمل حديثه حتى؟ وكيف كانت ستتصرف الحكومة الأمريكية تجاهه؟ لكن طرد السفير سيكون أقل خطوة يمكن اتخاذها.

نحن بالطبع نعرف أن ازدواجية المعايير هي الشكل الطبيعي للسياسة الخارجية الأمريكية ولا نتوقع للخارجية الأمريكية بطبيعتها العنجهية الاستعمارية أن تتعامل مع بلد عربي مثل لبنان بالمعايير التي تقبلها على نفسها بالحد الأدنى، بل سيكون توقع ذلك ضربًا من ضروب السذاجة والانفصال عن الواقع. لكن ما الذي يجعل القيادة السياسية لبلد مستقل أن ترفض هي أن تتعامل مع بلدها بذات المعايير السيادية والاستقلالية الطبيعية بل يتبرعون هم بأنفسهم على تأكيد وترسيخ خضوع وخنوع هذا البلد وضعفه أمام عظمة السلطان الأمريكي؟

ماذا لو كان من خرج على وسائل الإعلام اللبنانية ليهاجم أحد الأحزاب الموجودة في السلطة هو السفير الإيراني مثلًا، تلك الدولة التي يتهمها المعسكر الذي يدافع عن السفارة الأمريكية اليوم، بمحاولة الهيمنة والسيطرة على لبنان؟ لاستنفروا في التباكي والعويل على "الاستقلال" و"السيادة" والتخويف من محاولة الهيمنة الإيرانية ولبرعوا في نسج الخرافات حول "ولاية الفقيه" التي ستخيم على لبنان بعد قليل. لكن لأنها السفيرة الأمريكية، سارعت القنوات اللبنانية التي تبث البروباغاندا الأمريكية بالمجان إلى كسر قرار القاضي واستضافة السفيرة الأمريكية واتاحة الأثير لها مجددًا لمهاجمة حزب الله. حيث أعلنت القناة  "LBC" اللبنانية المحسوبة على مصالح الغرب في لبنان أن قرار القاضي يعتبر "تدخلا بقدسية وحرية العمل الإعلامي التي يصونها الدستور، وهو قرار غير ملزم وغير نافذ، وبالتالي ستتقدم بطعن بوجهه، امام السلطات القضائية المختصة".

 وأما قناة MTV  المحسوبة على "القوات اللبنانية" المعروفة بولائها للمصالح الأمريكية والاسرائيلية في المنطقة فقامت بالتفاخر بكسر قرار قاضي لبناني لصالح بث بروباغندا السفارة الأميركيّة حيث روجت للقائها مع السفيرة اثر صدور القرار بعنوان: "إم.تي.في تكسر قرار القاضي: فكيف ردّت السفيرة الأميركيّة".

وبالنسبة لحكومة حسان دياب، تلك التي تتهم على أنها حكومة 8 آذار وتهاجم على أنها حكومة حزب الله، أثبتت أنها تتصرف بالضبط على أنّها حكومة 14 آذار، وبدلًا من أن يستدعي وزير خارجيتها السفيرة الأمريكية لتوبيخها وفق ما تقتضيه الأعراف الدبلوماسية، استدعاها ليعتذر.

وقام مجلس القضاء العالي بتحويل ملف القاضي صاحب القرار للتحقيق، ليقدم هو استقالته رافضًا هذا الذل والهوان في أن يعاقب هو، قاضي الأمور المستعجلة في محكمة مدينة صور، لأنه أخذ على عاتقه الدفاع عن الحد الأدنى من معايير السيادة اللبنانية في حين تقوم القيادة السياسية العليا بترسيخ خضوعه وانتهاك استقلاله، لأنه أخذ على عاتقه أن يقول لا بوجه عنجهية الامبراطورية الأمريكية في حين تتسابق قيادته السياسية في الركوع على أبواب السفارة الأمريكية.

وما جرى من استنفار للدفاع عن السفيرة الأمريكية، و"حقها" في الكلام على وسائل الإعلام اللبنانية، هو أيضًا وبالأساس دفاعًا عن الرسالة التي كانت تبثها، تلك الرسالة التي يتبناها ويحتضنها ويروج لها في كل محفل وخطوة سياسية المعسكر المدافع عنها في وجه القرار القضائي. وهي تحميل وزرالأزمة الاقتصادية- التي يتحمل مسؤوليتها النهب والحصار الأمريكي وكبار فاسدي معسكرها في لبنان وحيتان المال الذين يحمونهم، وعلى رأسهم حاكم بنك لبنان رياض سلامة الذي تدخلت السفارة الأمريكية بكل ثقلها لحمايته حينما حاولت الحكومة فقط مساءلته عن السياسات المالية- لحزب الله والمقاومة. رسالة تقول أن لبنان سيبقى مفقرًا وجائعًا ما دام فيه سلاح مقاوم، وأن ذلك السلاح هو الحائل الوحيد بين لبنان وبين الولوج إلى جنة الغنى والرفاه "العسل الأمريكي".

هذه رسالة الأمريكي القديمة للبنان منذ أول قذيفة مقاومة، لكن تصرفات السفيرة الوقحة وعلنية حديثها مع وسائل الإعلام اللبنانية وحديثها المباشر عن حزب الله، وعن أن "أمين عام الحزب حسن نصرالله يهدد استقرار لبنان وحزبه يمنع الحل الاقتصادي"، تشير أن الأمريكي في لبنان ما عاد يتورع عن أي خطوة في سبيل تنفيذ سياساته وهو يعطي إشارة لأتباعه في لبنان أنه سيدعمهم حتى النهاية في معركتهم ضد حزب الله.

إن تصعيد الأزمة الاقتصادية وتجويع الشعب اللبناني، تلك الحرفة الأمريكية القديمة في تركيع الشعوب المقاومة تصل أصعب مراحلها اليوم، ولن يرف للولايات المتحدة جفن أمام موت ملايين اللبنانيين جوعًا في سبيل تركيع المقاومة. بالضبط مثلما قالت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين اولبرايت، ببرودة أعصاب وعلى البث المباشر، أن موت أكثر من نصف مليون طفل عراقي خلال الحصار الأمريكي للعراق في التسعينيات، "كان ثمنًا مستحقًا". لكن المشكلة هنا ليست الحصار الأمريكي، فقد أثبتت الشعوب أنها تستطيع على ضعف إمكانياتها أن تصمد أمام حصار الامبراطورية، ومجال المناورة الدولية اليوم أوسع وأكبر مع صعود قوى عظمى أخرى على الساحة الدولية وتعاظم القوة الإيرانية رغم الحصار المفروض عليها هي الأخرى. وفي هذا المسار يصب تصريح حسن نصر الله الأخير بالتوجه "شرقًا". لكن المشكلة الحقيقية في وكلاء الأمريكي داخل لبنان واتساع تحالفهم بل وقاعدتهم الشعبية التي تصدق خرافتهم عن مسؤولية سلاح المقاومة عن الأزمة الاقتصادية وجوعهم. أولئك الذين هرعوا للاعتذار للسفيرة الأمريكية والركوع على أبواب سفارتها أسفًا على قرار القاضي الذي تجرأ وقال لا في وجهها. هؤلاء مستعدون أن يموت شعبهم جوعًا تحت الحصار الأمريكي ولا يقبلوا أي يد مساعدة قادمة من "الشرق" اذا كان ذلك سيغضب، لا الإدارة الأمريكية، بل اذا شكوا أن ذلك سيغضب حارسًا أمريكيًا على أبواب السفارة الأمريكية في عوكر.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب