news-details

القوطية الأمريكية (جرانت وود، 1930) | هشام روحانا

هل نختار أن نحتار كيف علينا أن نقرأ نحن أيضًا هذه اللوحة؟  هذه اللوحة التي رسمها عام 1930 الفنان الأمريكي جرانت وود (1891-1942) وقدّمها لمسابقة قام بها متحف الفنون في شيكاغو ففازت بالميدالية البرونزية و300 دولار. أهي هجاء لحياة الريف في ولايات الريف الأمريكي؟ أم هي دعوة إلى العودة إلى "القيم الأمريكية" والحياة الريفية والدفاع عن بساطتها؟ أم هي تعبير عن الصدمة الشاملة التي عاناها الريف الأمريكي المعاصر لها؟   

القوطية

وللوهلة الأولى سنقع تحت تأثيرات الصرامة الدقة والانضباط المنبعثة من هذه اللوحة التي رُسمت وفق أفضل تقاليد الرسم الأوروبي المتبع في المنطقة التي تسمى الدول المنخفضة- الفلمنكية- وتعيد انتاج بعض القواعد الفنية لعصر النهضة الإيطالية.

أراد جرانت وود، بالإضافة لكونه رسامًا محترفًا، أن يحترف فنون زخرفة وتصميم الزجاج المعشق. الا أن فترة العام الواحد (1923) التي قضاها في أكاديمية جوليان بباريس Académie Julian لم تكن كافية له من أجل هذا. فسافر إلى ألمانيا للتتلمذ على يد الحرفيين فيها فلم يستطع إلّا أن يقع تحت تأثير التصاميم التفصيلية الدقيقة للوحات الأساتذة الألمان والفلمنكيين في القرن السادس عشر. تخلى وود لاحقًا عن أسلوبه الانطباعي متجهًا الى الواقعية الجهوية (Regionalism) التي يعرف بها الآن (1)

علينا أن نعرف أن هذه اللوحة لوحة ممنتجة، بمعنى أنها لم تنتج في أية لحظة كلوحة تعيد انتاج مشهد فعلي، رغم أن الشخصين فيها حقيقيان والمنزل الذي يقف خلفهما حقيقي هو أيضًا، وقائم حتى يومنا هذا ويعد مزارًا معتبرًا للسياح. جرانت وود العائد إلى مسقط رأسه في ولاية أيوا (Iowa) وخلال تجواله في هذه الولاية الريفية، التي اعتمدت على الزراعة وحدها حتى زمن ليس بالبعيد، يكتشف هذا المنزل بنافذته الخاصة واللافتة للنظر؛ نافذة صمّمت وفق معايير الفن القوطي (2) التي أحضرها المستوطنون الأوربيون إلى العالم الجديد. يأخذ جرانت وود معه رسومه الأولية (السكيتشات) للمنزل ويبدأ بالتفكير، على حد قوله؛ من هم سكان هذا المنزل، كيف يبدون؟ لاحقًا، يضيف إلى المنزل حظيرة تبدو على الجانب الأيمن، ويقوم باختيار طبيب أسنانه ليمثل الرجل وأخته لتمثل المرأة الى جانبه. كل منهما رسم على حدة ولم يجتمعا معًا أمامه أبدًا. واقعية اللوحة هي واقعية تم بناؤها بالتدريج وبكل تفاصيلها وكما تبنى أية عمارة طابقًا فوق طابق، في مسار يمكن تشبيهه بمسار المونتاج (3) في السينما.

صيغت اللوحة بوصفها مساحة هندسية نادرة يجب أن تُستغل فيها كل نقطة لتكون موقعًا يحتلّه عنصر شكلاني محدّد يتحد ويردد ويعكس في إيقاع متنوع وغني العناصر الشكلانية الأخرى. ويوضع كل تفصيل بعناية في مكانه المحدد وفق مصفوفة معقدة من الخطوط الأفقية والخطوط العامودية الرأسية تطعم بأشكال مستديرة وبأقواس قُوطيّة تتردد جميعها لتشكل لوحة زركشت كما تزركش النوافذ.       

اللوحة مبنية كعنوانها؛ إنها وكما يتلاعب عنوانها بالمعاني تتلاعب هي أيضًا بعناصرها المكونة.  فمفهوم القوطية كمفهوم يعود إلى القرنين الثاني والثالث عشر في أوروبا ويبدو هنا متناقضًا مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي المعاصر لأمريكا في عصر الكساد الكبير (4).  لننظر الآن إلى العناصر المكونة للوحة صيغت كما يصاغ مشهد سينمائي وإلى الإيقاع الداخلي لعناصرها المنسوجة كالنغم. المنزل ذو النافذة يتخذ موقعًا مركزيًا في خلفية المشهد، النافذة المزخرفة تتكون من قوسين ينضمان معًا وينضويان في عقد مشقول الى الأعلى، يلتقي كلا القوسين فيكونا زاوية مفتوحة الى الأعلى لا تترك يتيمة بل تقابلها زاوية يكونها تلاقي كتفي الرجل والمرأة بجانبه، كتف الرجل تعلو كتف المرأة، هو متقدم قليلاً باتجاهنا مقارنة بها. من هي هذه المرأة؟ وما العلاقة بينها وبين الرجل؟ هل هي زوجته أم هي ابنته؟  يبقى هذا السؤال دون إجابة، يجيب وود عليه بضبابية، لكن لها علاقة واضحة بالمنزل وراءها، انها ترتدي فستانًا لا يختلف بتطريزه عما يبدو من تطريز الستارة الواضحة من النافذة؛ النافذة مطرزة والفستان كذلك. يطيل الفنان ذقن الرجل وذقن المرأة أيضًا ويرسمهما على شكل القوس المتكون في أعلى النافذة، مكرران لكنهما مقلوبان. بثبات يقبض الرجل على المذراة وهي أداة العمل الأكثر شيوعًا عندها. المذراة تعيد هي أيضًا العنصر الشكلاني الأكثر ثباتًا في اللوحة؛ القوس القوطي. يعاد انتاج شكل المذراة على قميص الرجل الذي يرتدي ملابسه بأناقة الرجل العامل المجتهد الحاضر متوثبًا وكأنه في لحظة يتكثف فيها جوهر وجوده كله؛ إلى العمل، وبثبات ينظر إلى الامام، تبقى نظرته داخل الإطار. المرأة تزوغ بنظرها قليلاً خارجه. يد الرجل القوية ثابتة على المذراة، كتفه تعلو كتف المرأة بجانبه؛ تقسيم العمل الاجتماعي واضح هنا.

تشبكنا العناصر الإضافية التي يُطعم الفنان فيها لوحته بالمعاني الخبيئة ولكن المتدفقة إذا ما أعرناها انتباهنا. الخطوط الطولية تتردّد في جميع أجزاء اللوحة، نجدها على قمة المنزل، وعلى النوافذ، على الحظيرة والمذراة وقميص الرجل. انها تكرر عنصرًا هامًّا من عناصر فن العمارة القوطي التي تؤكد على الاتجاه بها عاموديًا إلى الأعلى. يُكسر هذا التوجه في فستان المرأة وشكلها العام وكذلك الشجيرات في الخلفية القصوى للوحة وجميعها تتجه نحو انتاج الشكل الكروي. لنأخذ الآن النبتات التي رسمهما الفنان على الجانب الايسر من اللوحة. لدينا هنا زهرة البيغونيا (Begonia) ونبتة لسان الجن أو لسان حماتي (Sansevieria). كلا النبتتان تتكرران في رسومات أخرى لجرانت وود. ترمز البيغونيا في لغة النبات إلى الحذر واليقظة والترقب واستبعاد سوء الطالع سوية مع استحضار الرخاء والسعادة، بينما تشير نبتة لسان الجن في الميثولوجيا الصينية وفي الطاوية تحديدًا إلى "الخالدين الثمانية" حيث يجلب كل خالد وفق الفينج شو إلى المنزل فضيلته معه؛ القوة، والجمال، والازدهار، والصحة الجيدة، والعمر المديد، والشعر، والفن، والذكاء. لا نعلم إذا ما كان الفنان يقصد بإحضار هذه النَبْتات تضمين اللوحة هذه المعاني الميثولوجية لكن مقاصده الشكلانية واضحة، يعكس من خلالها الأشكال الكروية للأشجار في البعيد والأقوس المستطيلة إلى الأعلى في النافذة. لكننا لا نستطيع إلقاء هذه المعاني بعيدًا إذا ما نظرنا إلى دبوس الزينة الذي تضعه المرأة وتظهر فيه بيرسيفون وهي في الميثولوجيا اليونانية ربة الحصاد، جميلة الجميلات والتي اختطفها هاديس إله العالم السفلي زوجة وأبقاها فيه فلا تعود إلى عالمنا إلّا في الربيع من كل عام. تماثيل هاديس ورسوماته تظهره مع مذراة ذات قرنين، فهل المذراة في اللوحة هي صدى مذراة هاديس وخصوصًا أن الفنان رسمها بثلاث قرون وليس أربعة كما كان يستعملها الفلاحون عندها؟

لكنني أحتاج التأكيد هنا بأن اللوحة هي ابنة زمانها أبنة، حقبتها التاريخية بالصيغة التي يفهم التاريخي بها؛ الاجتماعي والاقتصادي. وهي من انتاج رسام هو واحد من، بل أهم مؤسس للمدرسة الفنية التي تدعى المدرسة الجهوية (Regionalism). لقد شكّلت هذه الحركة الفنية رد فعل على ما يمرّ به المجتمع الأمريكي خلال فترة الكساد الكبير. لقد نظرت هذه الحركة إلى المدينة الأمريكية نظرة عداء وكما وصفها جرانت وود نفسه فإن المدينة شكلت موقعًا "معاديًا لكلّ ما هو جديد وأصلي وحي بالروح الأمريكية الحقيقية…." (5) كما ونظرت إلى التمدن والفن التجريدي والنخبوية على أنها جزء لا يتجزأ من الحضارة الأوروبية. ولهذا فإنها دعت إلى العودة والاحتفاء بالمزارع البسيط ومربي الماشية والعامل الزراعيّ في المدن الصغيرة رموزًا لأمريكا الوديعة والمسالمة والديمقراطية.  وكنا قد رأينا في مقال سابق (6) - رجال أحواض السفن لجورج بيلوز- أثرًا آخر من آثار الفن الأمريكي في نفس الفترة والذي ينضوي تحت تيار الواقعية الاجتماعية في فترة قريبة من فترة الكساد الكبير. وإذا ما وضعنا كلا التيارين الواحد مقابل الآخر، للمقارنة، فسنجد كيف إن هذا التيار الجهوي والذي تعد هذه اللوحة واحدة من أبرز عيناته يمثل انكفاء نحو تصور مُأمثل لحياة اجتماعية متناغمة ومتخيلة تتغنى بقيم أصيلة لا يجري تحديدها أبدًا.

لكنها ورغم تمنع تيارها الفني الذي تنتمي إليه من التطرق للاجتماعي والاقتصادي فإن لوحة القوطية الأمريكية محمّلة بهما حتى تكاد تنوء بحملها. إن إبرازها لقيم الزهد والتقشف والعمل الجسدي والمثابرة والانضباط بادية بوضوح وهي قيم بروتستنتية كان قد وضعها ماكس فيبر في موقع صدارة العوامل التي أدت الى نشوء الثورة الصناعية والمجتمع الحديث في مؤلفه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية". وإذا ما كان الضد بضدّه يعرف فسرعان ما يتبادر إلى الذهن لوحة "ولادة فينوس" لبوتيتشلي (7) كممثل للروح الكاثوليكية ولاتحاد الحبّ الأرضي بالحب الإلهي، فيبرز في هذه اللوحة الجمال متحدًا بالبهجة والحبور. ولا نثير هذا إلّا لكي نذكر كيف أن السعادة رغم حضور كل هذه القيم المذكورة أعلاه تبدو هي الغائب الأكبر في لوحة جرانت وود هذه. أين هي البهجة والسعادة وأين هو الحبّ في هذه اللوحة؟ بل إن ما يحضر هنا هو صدمة وجودية ساحقة بتعبيراتها المتعددة البادية على شخوصها؛ حيث يبدو الرجل القابض بيده الثابتة على المذراة كالسلاح، خط الدّفاع الأخير أمام زحف يبث القلق والترقب والوجوم، زحف الحداثة الصناعية المنتصرة حتمًا على الريف الذي سيفقد عذريته مرة واحدة وإلى الأبد.

لكن هذا الرجل الصارم على وشك أن يفقد معنى وجوده داخل منظومة زراعية حديثة آخذة بالاتساع ومتجهة نحو اتمتة الزراعة أيضًا، والجارية تحت نظره. فإذا ما أطلنا النظر به سنصل إلى حدود السّخرية السّوداء بهذه الذات التي تقابل مصيرها المحتوم كذات وحيدة في العراء. انه أشبه برجل القش الذي يضعه الفلاح ليخيف الطيور لكنه لا يخيفها. ومصيره يتقدم دونما اية ذرة من الخوف التي يعتقد أنه يبعثها بمذراة هاديس التي يحملها أمامه كتعويذة. أما المرأة بجانبه، وإذا ما قبلنا وجهة النظر القائلة بأنها ابنته، فإنها وبنظرتها التي تعبر فيها عن مقتها لحياتها، حبيسة هذا التزمت الصارم وثيابها بألوان الحداد وبتوجيهها لهذه النظرة إلى خارج الإطار فإنها تعبر، بالتماهي مع بيرسيفون على دبوس زينتها عن رغبة قد تكون دفينة، بأن يتم اختطافها إلى عالم آخر، فلا تعود إلى هنا إلّا كل ربيع. لقد فقد الأب حربه معها أيضًا.  

الكرمل

تموز 2021

 

مراجع وإحالات:

  1. (https://www.britannica.com/biography/Grant-Wood)
  2. الفن القوطي؛ تعبير متأخر يعود لعصر النهضة سمي به الأسلوب الفني الذي ساد في القرنين الأول والثاني عشر واستمرت تأثيراته فيما سمي بالفن القوطي المتأخر فترة أطول. تميز الفن القوطي مقارنة بالإغريقي والروماني -والذي اعتبر كلاسيكيًا- كما يظهر في العمارة على وجه الخصوص بالبناء المتجه إلى الأعلى والمعتمد على الأقواس المحدبة والبارزة من خارج العمارة وداخلها حيث تميل بكثرتها داخل العمارة إلى الانضمام سوية في قبة موحدة متألفة من أقواس عديدة وباستغلال الحيز المكاني مفتوحًا على بعضه بكامله وبإضاءة قصوى لهذا الحيز مستغلاً كثرة النوافذ المزركشة والمخصبة. القوطيون هم القبائل الجرمانية التي كانت روما تحت وقع غزواتهم منذ القرن الثالث حتى سقوطها في القرن الخامس وكان هيرودوتس قد أطلق عليهم مسمى البرابرة.     
  3. المونتاج؛ يُشير المُصطلح وخصوصًا في علاقته مع الحداثة إلى التقنيات الفنية الحديثة من تحرير وتركيب وتوليف للصور وللصورة والنص أو لوسائل الاتصال المختلفة من أجل إنتاج عمل فني جديد. وفي مفهومه العام قد يستعمل كمرادف للـ"كولاج". يرتبط المصطلح في اللغة الألمانية بالتكنولوجيا والإنتاج، ولهذا شكل استخدامه في الممارسة الفنية من قِبل "الطليعة الفنية" الأوروبية، مطلع القرن المنصرم، إعلانًا عن وجود علاقة إيجابية ما بين الفن والصناعة وتقنيات الانتاج الجماهيري للعالم الحديث. (هشام روحانا، سيكولوجيا السينما).
  4. الكساد الكبير (Great depression)؛ واحدة من أكبر الازمات الدورية التي أصابت العالم الرأسمالي برمته وبدأت بانهيار الأسواق المالية الامريكية في الثلاثاء الأسود 29 أكتوبر عام 1929 واتسعت فلم تترك بلدًا الا وزعزعت حالته الاقتصادية والاجتماعية ورمت بملايين العمال والفلاحين في أمريكيا وأوروبا عداك عن المستعمرات في أتون الجوع والفاقة. واستمرت هذه الأزمة قليلاً إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية.           

 

  1. (https://ir.uiowa.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1018&context=bai)

 

  1. https://short.link.alittihad44.com/v7iM رجال احواض السفن لجورج بيلوز-هشام روحانا.

 

  1. لدراسة مفصلة لهذه اللوحة يُنظر، https://short.link.alittihad44.com/dMwY ولادة فينوس بوتيتشلي، هشام روحانا.
أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب