news-details

الكاتبة أريج عسّاف داموني، تمحو الرجل أم تصقل المرأة؟! (1-2)

"أنا استثناء ... فاحذر!"، العمل الروائي الأول للكاتبة أريج عسّاف داموني، فيه موهبة واعدة. قدّمت نوفيلا، أو رواية قصيرة، خفيفة، جريئة وهادفة، تحمل رسالة فكريّة وإنسانية، موجّهة للمرأة بشكل خاصّ. في طياتها قدر لا بأس به من العمل الروائي. ولكنّها كتجربة أولى، فيها بعض المآخذ، خاصة في الشكل واللغة وعمق الطرح. 

 

الأدب النّسوي وتقنيّات الرواية بين الأدب الذكوري والأدب الإنساني

هل اتّفق النقّاد على نظرية أدب الرجال أو الأدب الذكوري، ليتّفقوا على نظرية النسوي؟ هذه المصطلحات ما زالت تُعاني من إشكاليّات كثيرة أوّلها إشكالية المصطلح نفسه. وليس لهذا السبب لست مغرما بهذه التسمية، "الأدب النّسوي والأدب الذكوري"، بل لأنّ الأدب في نظري، هو أدب إنسانيّ بغضّ النظر عن جنس كاتبه. والدافع إليه وركيزة انطلاقه هو أحوالنا الشخصية، رجالا ونساء، كجزء لا يتجزّأ من أحوال مجتمعنا الخاصّ والإنساني عامّة، لأنّ المجتمعات الأقلّ اتّساعا، كالعربي أو الفلسطيني وغيرهما، هي بُنيات صغيرة تأتلف أو تُحاول الإتلاف في بُنية كبيرة تحمل صفاتها. 

المرأة تاريخيا، لم تكن محرومة من المشاركة في الأدب، وعبر التاريخ هناك نماذج وإن كانت قليلة. ولكنّها دائما كانت محرومة من ممارسة دورها كشريك مساوٍ للرجل، بسبب الخلل المتراكم في المجتمع وليس في الأدب الذي هو مرآة المجتمع. وإذا لم تكن المرأة حاضرة بما يكفي ككاتبة، فقد كانت حاضرة في الأدب بكثافة، ومحرّكا له بكلّ أجناسه. ظلمها كتّاب وأنصفها آخرون ودافعوا عنها. وتأنيث السرد كذلك ليس جديدا. فهو موجود في أدبنا العربي، منذ "ألف ليلة وليلة" على الأقلّ. ولم يقتصر على المرأة، بل ساهم فيه الرجل أيضا. يحضرني الكاتب السوري، خالد خليفة، وروايته الرائعة، "مديح الكراهية"، التي سردها على لسان امرأة. لذلك، فإذا لجأت المرأة للكتابة باعتبار الأدب الذكوري فيه خلل ما يظلمها، ويجب إصلاحه، معنى ذلك أنّها قد تُعالج الخلل الذكوري بخلل نسوي. وليس هذا ما يتوق إليه المجتمع ولا الأدب الإنساني عامّة، أو في أطره الخاصّة. لهذا تتميّز "أنا استثناء ... فاحذر!"، بميلها لتصحيح الخلل عند المرأة قبل الرجل.

يذكر صديقي، الناقد محمد صفّوري في مقال له حول الرواية (ملحق الاتحاد، 9/8 و19/8/2019)، بأنّ التقنيّات الموظّفة في الأدب النّسوي، وما فيه من رفض للأعراف الاجتماعية والأدبية الذكورية وما فيها من احتقار وتهميش للمرأة، "ليست مقصورة على الأدب النِّسْويّ، ولا هي من صنيعه، إنّها معروفة ومستخدمة في الأدب الذكوري الرسميّ، إلّا أنّ الكاتبة النِّسويّة تلجأ إلى استخدامها؛ لأنّها تضمن لها تحقيق هدفها في زعزعة مقوِّمات النظريّة الأدبيّة الذكوريّة أكثر من غيرها". وكأنّي به يُشاركني الرأي أنّ المرأة مهما حاولت التحرّر، يجب أن تعترف أنّها لن تُحقّق ذاتها، كأنثى على الأقلّ، إلّا من خلال حضور الرجل في حياتها. وهذا ما تعترف به المرأة نفسها على لسان الكاتبة الأمريكية، التي كانت واحدة من الشخصيّات البارزة في الحركة النّسوية في الولايات المتّحدة، بيتي فرايدن: "لا تستطيع المرأة الحصول على النشوة من خلال تلميع أرضية المطبخ". وتعترف به أيضا أريج عسّاف في روايتها. فهي لا تُحارب الرجل بقدر ما تُحارب المرأة وتُحمّلها مسؤولية سوء اختيارها للرجل المناسب. وعليه فإنّ اللافت في هذه الرواية، هو أنّ الكاتبة تتمرّد على أعراف الأدب النسوي الذي في بعض جوانبه، يرى الرجل عدوّا أو وحشا فريسته المرأة. إنّها تُحارب المرأة التي تبحث عن الرجل لتُهيمن عليه انتقاما منه لهيمنته عليها، ولا تبحث عن الرجل الذي يُنصفها ويُؤمن بحقّها ودورها. وبهذا تُوقع المرأة نفسها والمجتمع، في مأزق لن يخرجا منه إلّا إذا غيّرت المرأة نمط تفكيرها. 

وعلى ما تقدّم، أرى أنّ الكاتبة وظّفت تقنيات تيّار الوعي بما فيها من تكسير للزمن وخلخلة للسرد، لتذهب إلى ما هو أبعد من خلخلة النظرية الأدبية الذكورية ودعم النظرية النسوية. إنّها تُخلخل الواقع الذي يشمل المرأة (الأنثى) وحالة التّشظّي التي تعيشها، والرجل (الذكر) وفكره الذكوري الاستعلائي الذي يُهمّش المرأة ولا يراها أكثر من لعبة للجنس. وكلّ ذلك يُبيّن بوضوح أنّ الكاتبة ونصّها ينطلقان من واقع لم يَغفلا عن جوانبه الأخرى. تُؤكّد ذلك، الإشارات السياسية إلى كون الكاتبة جزءا من واقع الشعب الفلسطيني ومعاناته وصموده (14، 26، 27، 92). ولا غرابة في أنّها تُركّز على قضيّتها الأساس، قضية المرأة وعلاقتها بالرجل، مستفيدة من تجربتها، أنّها جزء من شخصية تنشدها وتطمح إلى كمالها، تجتمع فيها صفات الشخصيات النسائية الأربع في الرواية، لتكوّن شخصية واحدة استثنائية. وعليه فإنّ حديثها عن استثنائيتها على امتداد الرواية،يقوم على مفارقة، فقد كان وهما أنثويا، إلى أن حقّقت خلاصها في نهاية الرواية. فهي المرة الأولى والوحيدة في الرواية، التي تحدّثت فيها بصدق عن استثنائيتها حين قالت: "لم أشعر بأنّي استثنائية قبل الآن!" (108).

 

الفقد والسعي والمفارقة بين المحو والصقل 

حين كتبت روايتي، "نجمة النمر الأبيض"، وصفها بروفيسور إبراهيم طه بأنّها رواية الفقد والسعي، ذلك لأنّ البطل، "محمد الأعفم" فقد "المنارة" وبذل كل جهوده سعيا إليها. و"رغد"، بطلة رواية أريج عسّاف، فقدت أو افتقدت في نفسها، المرأة القويّة الاستثنائية، وبذلت طاقاتها الأنثوية والمهنيّة والثقافية، سعيا لخلقها أو صقل شخصيتها من جديد. ولكن البون الشاسع بين الموجود والمنشود، أو الوهم الذي تعيشه والواقع الجديد الذي تبحث عنه الكاتبة، جعل روايتها تقوم على مفارقة كما ذكرت، خاصّة في رسم الكاتبة لشخصية "رغد". فهي من خلالها، تسخر من المرأة التي تُوهم نفسها بالقوّة والاستثنائية، وتدّعي أنّها تسعى لمحو الرجل، بينما هي في الحقيقة تمحو نفسها، لكونها تقع فريسة للرجل عند أول إشارة. لذلك تهدف الكاتبة إلى محو هذه الشخصية عند المرأة، وتطمح إلى صقلها من جديد. وبذلك، تعكس واقع مجتمعنا الذي يعيش مفارقة كبيرة. فكثيرة هي الأمور التي تسير بعكس ما نتوقّع، ونحن نعرف ونسكت بشكل يُثير سخريتنا من أنفسنا. وأظنّ أنّ الكاتبة تُدرك أنّ في المفارقة سخرية، والسخرية تقنيّة بارعة للتعبير عن الألم، وللفضح كذلك. وما أكثر ما يُشير إلى ذلك في الرواية، وخاصة في بداياتها. فالرواية موسومة بـ "وصفة لمحو رجل"، ولم تكن كذلك بقدر ما هي وصفة لصقل امرأة. وهذا ما تُظهِره صورة الغلاف، حيث المرأة تترك الذئب يعوي، ولكنّها بنصف وجه، ونصفه الآخر ممحوّ المعالم، ما يُؤكّد الحاجة لصقله من جديد. والكاتبة عاملة نفسية قادرة على فعل ذلك. 

وتظهر المفارقة في العنوان. هل عبثا جاءت مفردة "احذر" مائلة إلى الأسفل؟ أم أنّها تقول: "أنا استثنائية ولكن انتبه، لست حازمة في ذلك، وكسري أو الإيقاع بي ممكن". تدّعي "رغد" القوّة، ولكنّها كثيرة الاعتراف بهشاشتها وكونها متردّدة (10)، غبية (21، 22)، متشظّية ومبعثرة (25)، وتعترف أيضا بأنّها كاذبة (90)، وليس رجوان وحده الذي يكذب (24، 90). والمفارقة هنا، أنّ رجوان يكذب عليها، بينما هي تكذب على نفسها، ما يشي بأنّها ليست جادّة في استثنائيتها، بل تسخر من المرأة التي تكذب على نفسها لتُرضي غرورها كأنثى، وتقبل كذب رجوان (الرجل) الذي يعرف كيف يُرضيها: "كان ينعتني بالمسيطرة والاستثنائية" (18، 22). 

وتظهر المفارقة في الإهداء. "أهدي روايتي إلى من أحبّ متمنّية له" (5). الكلام هنا ليس بالضرورة موجّها لرجل، فاسم الموصول "من"، ينفع للمذكّر والمؤنّث، والضمير في "له" يعود على "من" وليس بالضرورة على الرجل، ولذلك، أراه اختباء ذكيّا، أو عفويّا لاواعيا، وراء اللغة. فمن تُحبّه وتُريد الخير له، قد يكون امرأة وليس رجلا. فالكاتبة تفضح أوهام المرأة، وقد جاء التّمنّي مخالفا لتوقّعنا. توقّعنا الراحة وهدأة البال والسعادة، ووجدنا "القلق والكآبة وسلخ الذات والتجربة والخوف والوجع والألم"، فهل هذا ما يتمنّاه المحبّ لمن يُحبّ؟ ومن جهة أخرى، مرّت البطلة بالتجربة، وليس عبثا ذكرتها فيما تتمنّاه. فقد استخلصت منها ما ينتظر بنات جنسها إن لم يُحكّمن عقولهن في اختيار الرجل (الحبيب) المناسب. الاختيار العاقل هو ما سيساعدهن في صقل شخصياتهن من جديد. 

تظهر المفارقة أيضا من بداية الرواية، في ضعف "رغد" أمام الهاتف، فهي من جهة تدّعي القوّة والاستثناء، ومن جهة أخرى تخاف جارتها، "أم سميح"، "أكثر نساء حارتنا رجولة" (7)، أن تسمع دقّات قلبها التي تُعبّر عن ضعفها وارتباكها، وعن حاجتها أن تكون قوية مثلها. وليس عبثا استعارت لها صفة الرجولة، واسما يقوم على الكنية، بل لقدرتها على مواجهة الرجل الذي بدا مسكينا أمامها. مثل هذه الشخصية، "أم سميح"، الموجودة في المجتمع، وإن لم تمنحها الكاتبة الاهتمام والعمق الكافيين، تمحو الرجل بعد أن تفقد أنوثتها، بينما "رغد" التي تخضع لغرور أنوثتها، تشفق عليه، "لا أنكر أنّني أشفقت على أبو محمود" (8)، وتُحبّ أباها رغم خيانته لأمّها.

وتظهر المفارقة أيضا في ضعفها أمام رنين الهاتف الذي تمنّت أن يصمت قبل رفعها السمّاعة، فينوب عنها في حلّ مشكلة تردّدها الذي يشي بضعفها وعجزها عن اتّخاذ القرار بعدم الردّ. وهي تعترف بتردّدها وتخبّطها أمام المتَّصِل (الرجل)، بدافع رغبتها في التواصل الجسدي معه، فالحبّ والأنوثة عندها لا يكتملان بدونه؛ بدليل تشنّج جسدها (9) واعترافها، "لا أرتوي إلّا إذا شممت نسيم الخريف الذي يُنذر بقدوم حياة جديدة تستحضر المطر، لأروي ظمأي من حبّه الغافل عنّي!" (10). والمطر هنا، ما هو إلّا ماء الرجل الذي يُخصب المرأة، لأنّ أرضها "لن تثب إلّا بفعل المطر القادر على إخصابها" (13). وتقول بجرأة ووضوح: "هكذا أعرف الحبّ" (13).

الرجل في الرواية، يبدو مسيطرا على تفكيرها وعواطفها منذ اللقاء الأول عند الإشارة الضوئية. هو من قرّر دخول سيارته في مؤخّرة سيارتها، وبدأ باعتذار مفتعل، وانتقل بموضوع الكلام، "على فكرة حدا قلك من قبل بأنّك مَرَهَ حلوة"، وصمتها كان تعبيرا عن رضاها (11). كلّ ذلك والبطلة القوية التي "تُقرّر البدايات والنهايات" (10)، تُوهم نفسها بأنّها هي التي أثّرت عليه (11)، غير مكترثة بذوبان شخصيتها أمام شخصيته، رجوان، زير النساء وصيّادها، الذي بقي على حاله ولم يتغيّر إلّا حسب ادّعاءاته غير الموثوقة. يعود الآن إلى البطلة، بعد انقطاع دام ستّ سنوات، لا نعلم من أخباره فيها شيئا سوى ما صرّح به لها، طلاقه وضياعه. وقد يكون سبب طلاقه من زوجته، الخيانة وكونه زير نساء، يُعوّض بهما النقص في شخصيته وحياته. يعود الآن وهو يعلم بأنّ ضحيته متزوّجة، ما يشي بأنّ محاولته مدروسة ومحسوبة النتائج، كما يظهر من سؤاله لها عن علاقتها الزوجية، "حدثيني عنكِ وكيف هي علاقتك بزوجك؟" (20). ومراده واضح: هل في حياتك الزوجية ثغرة أتسلل منها إليك؟ وقد نجح في محاولته جزئيا، بدليل أنّ عيوبه وشكوكها بمصداقيته، لم تمنعها من الردّ عليه، والاسترسال في الحديث معه، والامتعاض من طارق الباب حتى لو كان توأم روحها، صديقتها حنان، لأنّها قطعت عليها خلوتها به. وارتبكتْ لأنّ الطارق قد يكون زوجها (حبيب). تلبّكت واعتذرت من رجوان، أقفلت الهاتف غير راضية وفتحت الباب بحذر، "حنان! ما الذي جاء بك في مثل هذا الوقت؟" (65). سؤال إنكاري يشي بعدم الرضى.

(يتبع)



 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب