news-details

الكاتبة شيخة حليوى: سيّدة العتمة ووجهنا المضيء 

استقبلنا بكلّ فخر واعتزاز فوز أديبتنا، التي منّا وفينا، الكاتبة الفلسطينيّة شيخة حسين حليوى، بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية بالكويت في دورتها الرابعة عن مجموعتها القصصيّة "الطلبيّة سي 345" الصادرة عن منشورات المتوسط (2018). وهي جائزة مُنحت باستحقاق لكاتبة استطاعت أن تراكم تجربة أدبيّة جادّة وترسم ملامح هويّة إبداعيّة خاصّة ومتميّزة. 

لحظة إعلان فوزها وتسلّمها الجائزة قالت شيخة:  "أهدي هذه الجائزة إلى قريتي البدوية التي علّمتني أصل القصة... إلى أفراد عائلتي بالأساس، الذين  علّمتني أميّتهم تقديس الكلمة، وعلّمني صمتهم تقديس الحكاية".

أهدت الكاتبة فوزها إلى قريتها "ذيل العرج"، وهي قرية تقع في باب وادي الملح الممتدّ من جسر الجلمة إلى "إلياكيم". كانت قرية غير معترف بها، بيوتها من الزنك والصفيح، ظلّت يد الاحتلال الإسرائيلي تضيّق على أهلها حتى تهجّروا وتوزّعوا لاجئين في قرى وبلدات المنطقة. أما هي، فتسكن مع عائلتها في يافا. 

"أنا بدويّة الأصل والمنشأ، بدويّة الهوى والفكر، لاجئة في مدينة عشقتُ هواها وأزقّتها في صغري، ولكنّها لم تنجح يومًا في استلابي نَزَق بداوتي... ما زلت أحلم بالبدويّ، وأغضب بالبدويّ وأشتمُ بالبدويّ... وأهوى بالبدويّ! حينما أكتب قصّة تشاركني فيها جِواهِر ووظحى وحِسِن وخَزنة ونَزْهة... حينما تمطرُ ليلًا يقضّ مضجعي "دالِفٌ" وَهْميّ... أنسى أنّ لبيتي في المدينة سقفًا...لا أطيقُ العتمة...أُنيرُ كلّ غرف البيت، وقد أورثني    "ظَيّ الكاز" الآيلِ للانطفاء رعبًا من الظلام... كلّما أمعنتُ في المدنيّة استفحلَت بداوتي وانبرت تدافع عن نفسها" (موقع عرب 48). 

تشكّل "البداوة" علامة فارقة وموتيفًا رحب الدلالات في كتابات شيخة، ولعلّها الكاتبة الوحيدة التي ضربت بقلمها بهذا العمق في عوالم البداوة في أدبنا الفلسطينيّ المحلّي. أقول البداوة لا البادية؛ فليست البداوة في قصصها تلك التي نعيشها في المتخيّل الشعبي، الموسومة بالارتحال الدائم وراء القوت والماء والرعي في مدارات الصحاري، أو المرتهنة بثقافة عدم الاستقرار؛ بل هي بداوة قريتها المهجّرة من أثر الاحتلال الإسرائيليّ، "ذيل العرج" المنسيّة والمغبونة على جميع الأصعدة، السياسيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة. 

"عشرون أُسرة، وعشرون كوخًا من الخشب والزنك، لا ضوء سوى مصابيح الكاز، المغبوط من كان عنده "لوكس"، أمّا المحظوظ فهو من اشترى "ماتور" شغّل بواسطته جهاز تلفاز قديم يتجمهر حوله معظم أفراد القرية، فالمصاطب في قريتي كبيرة وواسعة والقلوب أيضًا. شارع ونهرٌ صغير يفصلان بين قريتنا وبين المستوطنة اليهوديّة المقابلة، وهما يفصلان بين عالمين وعصريْن، مستوطنة يهوديّة "معترف بها" دائمة التطوّر، وقريتنا المصنّفة بحسب سياسة المحتلّ "قرية غير معترف بها"، وهي بحسب هذا التصنيف الأبرتهايديّ  محرومة من البناء والكهرباء وكلّ الخدمات الأخرى...محطّة الباص اليتيمة التي تربطنا بالعالم المتحضّر كانت الشاهد الوحيد على قريتنا الوادعة في أسفل جبل الكرمل".(موقع عرب 48).

في ظل هذا المجتمع الفطريّ والقاسي عاشت الكاتبة شيخة حليوى، ومن هذه النشأة أشهرت قصصًا اختلستها من ذاكرة القبيلة  وتقاليد العشيرة، وكرّست سردها لمنظومة أعراف وتقاليد نشأت ثم تمرّدت عليها: الإيمان بالغيبيّات، هيمنة الذكوريّة ودونيّة المرأة، وأد الحبّ بأشكاله، العذريّة والشرف؛ الحياة الرعوية البسيطة؛ تبجيل الكبير وخبرته في الحياة؛ تقديس الضيف، والكرم وغيره. 

وقصص شيخة حليوى عن الحياة البدويّة شديدة الخصوصيّة والأثر، حتى  لتبدو البداوة في نصوصها – على قساوتها وتخلّفها- حالة من المتخيَّل الرومانسيّ.

"وحدهما اسمي وجديلتي كانا يفضحان ما أخفي! لم أفلح في إقناعهم (أولاد صفها في مدرسة راهبات الناصرة في حيفا) بـأنني من سلالة ملوك الصحراء، وأنني حظيت دون غيري بشرف حمل هذا الاسم. القهقهات المكبوتة كانت تجلد روحي "شيخة"... ههههه؟ شو يعني؟ ختيارة؟ وجديلتي إرث بداوة بقصم ظهري. من لي بيد تعبث بشعر قصير يداعي عنقي؟ تغازل خصلاته المنفلتة قسمات وجه غلبت القسوة على الصبا فيه؟"(سيدات العتمة، ص12). 

"يلعن دين هالكينا! شو تِعبَديها إنت؟"

ستتحاشى النظر إلى عينيه، كما تتحاشى الردّ عليه. 

سيوقف سيّارته وهو عائد مع العمّال ويذهب مباشرة إلى شجرة الكينا.

لن يسألوا، ونصفهم نائم ونصفهم لا يفكّر.

يدور حول الشجرة وتسقط روحه وهو يقرأ: وَضحى وعليّ حُبّ للأبد. وقلوب محفورة في ساق الشجرة واسمان متلاصقان. 

لم يسألها عن عليّ ولم تسأل عن الشرّ في عينيه. تقمّصت الموت بهدوء لا يليق بذبيحة. 

في الوجوه المعزّية كان يبحث عن عليّ" (سيدات العتمة، عليّ، ص39). 

توظّف الكاتبة اغترابها من قساوة البداوة كمعادل لحصانتها الذاتية، تحمي به نفسها وتعالج نفورها وتمرّدها بمساءلة تلك المنظومة الثقافية والفكرية الفاعلة في بيئتها ومحيطها. وحتى مفهوم الوطن، تراه شيخة وتستظهر معناه من ثقب تلك القرية المهمّشة وواقعها المتردّي، بلهجة انتقادية حادة وتهكمية لاذعة  فتقول: 

"كنت صغيرة جدًّا. لم يجتهد أحدٌ من حولي كي يحدّثني عن الوطن.

 اعتقدت لشتاءين متتاليين أن الوطن هو كيس النايلون المتين الذي يصمد حول أحذيتنا يومًا كاملًا دون أن ينفذ منه وحل الطريق. 

الشتاء كان الغربة عن الوطن...

 الحذاء المتين كان الوطن البديل" (خارج الفصول، وطن، ص9).  

بالإضافة إلى هويّتها البدويّة، هنالك هويّة ثانية تتنازع الكاتبة شيخة حليوي هي الهويّة الانثوية. ولعلّ أبرز النصوص التي قدمتها فيما يخصّ الهويّة الأنثويّة تلك هي النصوص المكرّسة للنساء في مؤلّفها "خارج الفصول" (2016) وعددها 20 نصًّا، أسمتها "نصوص النساء". حيث تعرض فيها صورًا ولوحات زمنيّة، عاشت فيها مختلف نماذج المرأة، وحملت بين طيّاتها صورًا نمطيّة سكنت خلف أسوار الاستسلام وقسوة التسلّط . 

نعلم أن من أبرز ما يتّسم به أدب الأنثى هو التعبير عن الألم والغضب الدفينين في ذاتها، وتفاصيل حياتها الموشّحة بالقمع والردع، وهو قطب دلاليّ جامع يوحّد أغلب النصوص النسويّة، خاصّة نصوص السير الذاتية على اختلاف أساليبها الكتابية.  غير أن موضوع الغضب عند الكاتبة شيخة حليوى قد تجاوز حدوده الانفعاليّة الوجدانيّة ليعبّر عن موقف فكري أو أيديولوجي متكامل؛ فلا ينطوي أدبها على غضب ونقمة على المجتمع، بقدر ما ينطوي على موقف عقلاني تحليلي لوضعية الذات الأنثوية، باعتبارها كيانًا تجمّعت فيه تناقضات المجتمع والعصر. ولا أقول إنها متصالحة مع واقعها، ولكنّ أدبها يبيّن وعيًا مرهفًا وعميقًا بالواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه. 

"تعلّمنا من نساء العائلة ونحن نقطع طريق الزواج المحتمل أنّ القسمة والنصيب ليستا مترادفتيْن. وأن العطف بينهما من باب التأكيد على النقيض. وكلّ نقيض هو بالأساس باب من أبواب الشيطان. تعلّمنا دون حرج كيف نحتسي العلقم ونصعد رويدًا رويدًا في سلّم طبقات النساء الكبرى" (خارج الفصول، نساء العائلة، ص41).

"نجحتُ في تجاوز كلّ الرجال الجدران. تركتهم ورائي يعيدون ترتيب أسئلتهم ونهاراتهم المملّة. مشيت في الشوارع. فتحتُ زرًّا آخر في القميص الخانق وتركت شّعري يحمله الهواء ووردة حمراء تلاعبه. مشيتُ حافية. قطعت شارعيْن طويليْن وراقبتُ نفسي في الواجهات والوجوه الهادئة. دخلتُ دكاكين الملابس وتدرّبتُ على قطع تليق بحلم المستقبل. تحمّلتُ ألم قرط رابع سيحجبه شعري عن أمّي لأسبوعيْن أو يوميْن. لم أعدَّ أيّة حُجّة أعود بها إلى قريتي، ولم أجهد فكري في البحث عن أسباب. حيفا هي كلّ الأسباب. (سيّدات العتمة، سؤال خنجر، ص80).

إن شيخة حليوى في هذا المقام ليست الأنثى الغاضبة المنفعلة، وإنما هي تلك الذات الإنسانية القادرة على إيجاد مساحتها الخاصّة، وإقحام أنوثتها كمكوّن موضوعي في تأويل الذات والعالم. 

كذلك، تشكّل الهويّة الأنثويّة علامة فارقة عندما تكون متلبّسة بتجربة الأمومة الحميميّة. حيث تستمد الكتابة شعريتها من هذا الانصهار الرمزي بين الحميميّ البيولوجيّ والمتخيَّل الكتابي. وتذكر الكاتبة شيخة حليوي أمّها كثيرًا في نصوصها. وقد أهدت مؤلّفها "خارج الفصول" لأمها وكرست فيه أربعة نصوص مستقلة لها (أمي والوطن، أمي ولوركا، أمي والراحلون، سيزيفيّة)، إضافة إلى الشذرات الطويلة والقصيرة التي تذكرها فيها في ثنايا باقي النصوص.

وأمّها بلا شكّ امرأة متفرّدة في خصائصها البدويّة الراسخة؛ في ولائها الأعمى لتقاليد القبيلة، وغرقها في حياة القلق والاضطراب والانفعال، ونمطيّتها المتميّزة بالغيبية، في تهميش الحب وتبجيل القوة والقسوة. ولذلك تغدو أمّها الداء والدواء؛ فأمام نمطيّة الأم وقسوتها، وبدلًا من الانفصال عن الأم أو "قتلها" بالمفهوم المجازي، تتدخّل شيخة لتصوغ ذاتًا بديلة لنفسها، مناقضة لأمّها، ترفض فيها اختزال المجتمع لذاتها واستحواذه عليها، وترفض صور استعبادها واستبعادها، فتغدو علاقتها الروحيّة مع أمّها العربيّة البدوية علاقة تحوّل وتغيّر.

"سوّدتِ وجهي كِدّام الراهبة. خلّيتيني كَدّ اللقمة.. شْنو وِدْها تكول عني هَسّا؟ مِي عارفة تربّي بنتها؟

  • يُمّة...

  • حُمّة وحيِّة جَدْرَة!  ما تِسْتِحي عَحالِتْش. وِدِّتْش تُدُشْري؟ تْشَذّبي عليّ؟ والله لَكْصُفْ عُمْرتْش.

 سيستر بيرن الراهبة البريطانية وأمي تفصل بينهما عصور من النهضة وتلتقيان في ضرورة تهذيبي. الأولى تنعتني بالغجرية كلما خالفت قوانين المدرسة الصارمة، والثانية تخشى أن أصير غجرية يومًا ما. أنجو من شِرك البداوة لأقع في فخَ الغجر" (سيّدات العتمة، سأكون هناك، ص15).

"لو قلت لأمّي إنّها سيزيفيّة (طبعًا بنبرة مسالمة جدًّا)، أغلب الظنّ أنها ستمرّن لسانها على بعض الشتائم

القديمة. بعضها تصرخه وأخرى تتمتمها. هي أيضًا لا تسأل عن أسماء لا تتقن لفظها أو تتعثّر بها. تخجل أن أصحّحها أو أضحك ثمّ أصحّحها. لا تحتمل أن ينقض أحدٌ ما تعرفه. لن تصغي لأسطورة سيزيف وستكرهه. تكره كلّ من يشبهها ألمًا. لا أقصد التعقيد. أريد لها أن ترتاح. أن تترك الصخرة تتهاوى ولا تتهاوى هي. أريد لها ألّا تكون هي الصخرة أحيانًا" (خارج الفصول، سيزيفيّة، ص123). 

إنّ تشكيل ملامح الحياة والعالم على نحو مختلف كما تعرض لنا شيخة، يشرّع تحرّرها من سلطة النوع الأدبيّ؛ فنصوصها شعرية نثرية، يشيح فيها كثير من السيرة الذاتيّة،  وهي أقرب إلى جانر الومضة، حيث تبرق أفكارها في ومضات قصيرة ومكثّفة، وتعتمد التكثيف الفكريّ واللغويّ  ضمن تقنيّات الشعر. والكاتبة تعمد في كثير من نصوصها إلى العودة للماضي واعتماد النهايات المفتوحة، كما توظّف اللغة المجازيّة المطعّمة بالكثير من الجمل العاميّة واللهجة البدويّة المميّزة. 

إنّنا أمام كاتبة نجحت في إنتاج خطاب قصصيّ واستراتيجيات كتابيّة مغايرة، تنهض بصورة الفلسطينية البدوية ذات الملامح الفارقة، وتعيد تحديد انتسابها الى التراث والبداوة من منظور الرؤية المعاصرة. إن الحداثة وما بعدها، في الحياة والأدب،  لم تستطع تهديد منظومة الهويّة البدوية في ذهن الكاتبة أو كيانها، وهذا الخط السرديّ المتميز والمختلف عما هو معهود في الكتابة الأدبيّة المحلّيّة، لهو إضافة حقيقيّة لساحتنا الأدبيّة. إن ما كتبتُه في هذه المداخلة لا يغطّي كافّة ميزات الأديبة شيخة حليوى، خاصّة طرقها لقضايا وموضوعات إنسانيّة وفلسفيّة عابرة للبداوة المحليّة، والتي تشيع  في إصداراتها الأخيرة كما في مجموعتها التي فازت عنها "الطلبيّة". وإصداراتها بلا شك تستحق دراسة اكاديميّة أخرى متعمّقة مستفيضة، أعِدُ بها لاحقًا. 





 

تمحو الرجل أم تصقل المرأة؟! (تتمة من ص13)

 

التي ستكون وكيل أعماله وراعية مصالحه بعد رحيله. ومنذ ذلك الوقت، كل التطوّرات والتحوّلات الاجتماعية وغيرها في مجتمعنا، تحدث بشكل غير طبيعي. وكذلك المرأة، ما زالت تتخبّط في محاولاتها لتغيير نظرة الرجل إليها أو تغيير نمط علاقتها به. وهي تتحمّل جزءا كبيرا من المسؤولية، أولا لأنّها جزء من المجتمع، يجب عليها أن تنتزع حقّها بالحرية والمساواة، وثانيا لأنّها تغيّرت من حيث الوعي والثقافة، ولكنّها لم تتغيّر من حيث حاجتها كأنثى للرجل. والرجل كذلك تغيّر، ولكن نفعيّا وليس فكريّا، بدليل أنّ تفكيره الذكوري نحو المرأة وعلاقته بها، لم يتغيّرا. لذلك تُحاول هي أن توظّف وعيها وثقافتها ومكانتها الجديدة، في صقل شخصيتها من جديد. ولكنّها تصطدم بحاجتها إليه رغم تخلُّف نظرته إليها ونمط تفكيره بها. ولهذا اقتنعت "رغد" بعد تدخّل صديقتها، أنّ المرأة لن تفلح إلّا إذا عالجت علاقتها بالرجل، بالعقل وليس باختيار قلبها الأخرق الأبله له (22). ودليل ذلك أنّ البطلة قبل زواجها، انجرّت وراء عواطفها، وانزلقت عند أول إشارة، ورغم اعترافها بأنّ عقلها هو من اختار زوجها (21)، كادت تنزلق بعد زواجها للسبب ذاته، بينما عندما حكّمت عقلها في المقارنة بين تجربتها وتجربة صديقتها، وبين حبيبها "رجوان" وزوجها "حبيب"، استعادت توازنها واستطاعت أن تُخرج رجوان من حياتها. من هنا ولد الأمل لدى الكاتبة وبطلة روايتها، بأنّ المرأة لن تكون قادرة على محو هذا النوع من الرجال، إلّا إذا حكّمت عقلها وصقلت شخصيتها من جديد، بحيث تجتمع فيها عناصر تكوين الشخصيات الأربع في الرواية.

 

بعض ملامح الأسلوب واللغة

الزمن الموضوعي الذي اعتمدته الكاتبة قصير نسبيا، لا يتعدّى بضعة أيام، يمتدّ بين رنين هاتف "رغد" واللقاء الأخير مع رجوان عبر زجاج السيارة عند الإشارة الضوئية (106)، بينما الزمن النفسي يمتدّ ستّ سنوات، من لقائهما الأول عند الإشارة الضوئية (10) حتى مكالمتها لحبيب (109). ولهذا عمدت الكاتبة إلى تكسير الزمن وتيار الوعي بتقنيّاته المختلفة مثل الاسترجاع والمنولوج والتداعي والأسئلة البلاغية وغيرها. وهو ما سهّل عليها البدء من النهاية تقريبا، وتكسير الزمن كانعكاس لحالة التشظّي التي تعيشها. كما سهّل عليها التنقّل بين الأزمنة. وهذا يتلائم مع طبيعة الأحداث في الرواية وكونها أحداثا داخلية غالبا، تحفر فيها البطلة داخل طبقات نفسها ولاشعورها، لترصد ما يعتمل فيها أثناء تجربتها مع رجوان، وبعدها. وكل ذلك يعكس مدى التوتّر الذي تعيشه. 

برزت جرأة الكاتبة أيضا، شكلا ومضمونا، في توظيفها لضمير المتكلّم، الأنا الشاهد المشارك، وفي خوضها المباشر في المسكوت عنه، الجنس بشكل خاصّ، وكونها هي المبادرة إليه.

لغة الرواية وأن كانت مأخوذة من عالم المرأة وتجربة الكاتبة وثقافتها، بما فيها من فصحى في السرد ومحكية في الحوار، وأمثال شعبية واقتباسات مختلفة تدعم ثقافة الكاتبة ومصداقية بطلة روايتها، إلّا أنّها لا تخلو من بعض المآخذ غير الأخطاء المطبعية والنحوية.

لا يخلو السرد في الرواية من كثافة اللغة، ولكنّ الكاتبة كثيرا ما تجنح نحو التقريرية وتبتعد عن جمال السرد وكثافة لغته، في وصفها المباشر للشخصيات، وذكرها لأسماء بعض المفكرين واقتباسها المباشر لأقوالهم، حيث تتحوّل لغتها إلى لغة علميّة تظهر كأنّها تدعم فرضيةً في بحث علمي أكاديمى. وبذلك تُرهق القارئ ولا تترك له مساحة لمتعة التأويل، بل تنتزعه من انسجامه مع الأحداث والشخصيات وخاصة البطلة وأزمتها. ومع ذلك، فقد نجحت في اختيار لغة الشخصيات، وخاصة لغة رجوان الذي يضع لها السمّ في الدسم، فهو يعلم أنّها تقبل ما يُرضي غرورها فقط، كأقواله السابق ذكرها، أثناء لقائهما (11، 34). 

نجحت الكاتبه أيضا في اختيار أسماء الشخصيات التي يُؤكّد بعضها المفارقة. "رغد"، يشي اسمها بعكس معناه الحقيقي، فهي لم تكن تعيش رغدا بل وهما به. توهم نفسها بأنّ "رجوان" يرجو وصالها، بينما الحقيقة هي التي ترجوه أكثر، رغم جهلها بحقيقته. أمّا الكنية فعادة تُستخدم لإظهار الاحترام، بينما استخدمتها الكاتبة لـ "أم سميح" بسخرية مبطّنة، لأظهار رجولتها، ولـ "أبو محمود"، للسخرية من ضعفه أمامها، وظلّ الأب مجهول الاسم، لأنّه يُمارس خيانته في الخفاء. أمّا الاسم المتميّز الذي يحمل معناه، فهو "حبيب"، زوج "رغد". فقد اختارته الكاتبة، لأنّه الرجل الذي يقبله عقلها، ويستحقّ أن تُحبّه وتقترن به، فلمَ لا يقبله قلبها؟! 

وأخيرا، يُحسب للكاتبة، توظيفها للسخرية المبطّنة التي يحتاج القارئ إلى جهد كبير للوصول إليها. وقد برزت في المفارقة التي تحدّثتُ عنها كثيرا، وقد عبّرت بها الكاتبة عن الألم، وفضحت الوهم الذي تعيشه "رغد" والمرأة عامة. كما برزت السخرية في استخدام الكنية لـ "أبو محمود"، لضعفه  وفقدان رجولته أمام "أم سميح" التي سلبته رجولته، ولكن بعد فقدان أنوثتها.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب