news-details

المؤتمر الـ28 لحزبنا وتحديات الـ"حجر الذي أهمله البناؤون فصار رأس الزاوية"| حسن مصاروة

كان من الطبيعي أن يخيم ظل نتائج الانتخابات الأخيرة على مباحثات المؤتمر الـ28 لحزبنا الشيوعي، الذي اختتمنا أعماله يوم السبت الماضي. ليس لأن أزمتنا، الواقع المأزوم الذي يعيش فيه الحزب، كلها تتلخص وتختزل هناك، فأزمتنا أعمق من ظاهر ما أفرزته هذه الانتخابات على مستوى النتائج؛ لكن هذه الانتخابات بما حملته من نقاش وصراع ومن اصطفافات وكشفت عنه من تغيّرات وتبدلات عميقة على مستوى الساحة السياسية العربية في إسرائيل، وعلى مستوى الواقع الاجتماعي وتشكيلاته المتحوّلة ثم ما أفرزته من نتائج، قد مسّ بوضوح أعراض الأزمة التي نواجهها وكشفتها لنا بشكل أجلى وأوضح. ليست أزمتنا الأساسية أزمة ممارسة تنظيمية وأزمة تنظيم، مع أن لدينا أزمة في ذلك لكن ليس فقط، وليست أزمتنا الأساسية  مجرد أزمة استراتيجية اعلامية، مع أن لدينا أزمة في ذلك ايضًا لكن ليس فقط، وليست أزمتنا الأساسية أزمة خطاب ومشروع سياسي، مع أن لدينا أزمة في ذلك لكن ليس فقط.
إن أزمتنا الأساسية، تلك التي تتعدى حدود الحزب والجبهة، وتعصف بكل الجماهير العربية المواطنة في إسرائيل، هي بالأساس أزمة ثقافة سياسية، إنها الثقافة السياسية السائدة بين جماهيرنا، هناك ثقافة سياسية مشوّهة وفاسدة أخذت تسود بشكل متصاعد في السنوات الأخيرة بين جماهيرنا العربية. وحينما أتكلم عن الثقافة السياسية فانا أقصد مجموعة التصورات والأفكار والمقاربات والمفاهيم العامة وطرق التفكير التي يتبناها عموم الناس حول السياسة والعمل السياسي. أي كيف يفهمون العمل السياسي ودوره ووظيفته، كيف ينظرون إلى أنفسهم كمجموعة سياسية لها أهداف سياسية، كيف ينظرون إلى علاقتهم مع الدولة والمؤسسة، كيف ينظرون إلى وظيفة التمثيل البرلماني، إلى عضو الكنيست وطبيعة عمله ووظيفته، كيف ينظرون إلى كيفية التأثير السياسي، كيف ينظرون إلى علاقتهم مع شعبهم الفلسطيني وقضيته وعلاقتهم مع الاحتلال والواقع السياسي القائم في الدولة. كل هذا جزء من مفهوم الثقافة السياسية. وهناك ثقافة سياسة مشوهة وفاسدة سادت في السنوات الأخيرة، بشكل متصاعد منذ أكتوبر 2000، بين قطاعات وفئات واسعة في جماهيرنا العربية. هناك بالطبع الكثير من العوامل الموضوعية والذاتية، هناك الدولة والسلطة ومشاريعها لكيّ الوعي، وهناك التحولات والتغييرات على المستوى الدولي والاقليمي، وتراجع القضية الفلسطينية، وتغييرات اقتصادية اجتماعية طبقية داخل المجتمع العربي في إسرائيل - كلها ساهمت في هيمنة هذه الثقافة السياسية المشوهة.
لكننا نحن أيضًا كحزب وجبهة لا يمكننا التنصل من المسؤولية، نحن الذين تقع علينا مسؤولية أن نحمي الثقافة السياسية للجماهير من التشوهات وأن نعمل على سيادة ثقافة سياسية ثورية نضالية مكافحة مواجهة، تخلينا عن مهمتنا التاريخية، بل إنجررنا في بعض المحطات وأشكال جزئية، وراء هذه الثقافة السياسية السائدة وسايرناها، بدل العمل على تغييرها وتثويرها، بل ساهمنا في تنميتها وبل وحتى حاولنا استغلالها، عبر السماح لخطاب ومفاهميم غريبة عنا وعن تاريخنا وعن تقاليدنا السياسية بالتسلل إلى خطابنا السياسي، أو بالأساس إلى خطاب القائمة المشتركة بقيادتنا. جرى هذا عبر تبني خطاب الانجازات والـ"تأثير" بمفهومه المائع والمشوه،هذا التأثير الذي صُور على أنه لا يحصل إلاّ عبر الدخول إلى حكومة أو دعم حكومة من الخارج، وأسلوب النجمومية الفردية لعضو الكنيست والقيادي، واختزال دور التمثيل البرلماني من تمثيل سياسي لجماهير مقهورة تسعى إلى قلب المنظومة إلى مجرد وكيل تحصيل خدمات وميزانيات تسد الرمق وتحسن ظروف المعيشة في ظل تأبيد المنظومة القائمة.
لا بد لنا أن ندرك أن منصور عباس والاسلامية الجنوبية لم يخترعوا شيئًا من العدم، هم استطاعوا أن يشخصوا جيدًا هذه التحولات والتشوهات في الثقافة السياسية السائدة بين الجماهير العربية واستغلوها حتى النهاية، حتى آخر الطريق، بقدرة غير مسبوقة على التعري الوطني والسياسي. تلك التشوهات ذاتها التي إنجرت خلفها بشعبوية القائمة المشتركة بقيادتها قبل صعود منصور عباس، ونافقتها وغضت الطرف عنها، عبر بث الأوهام عن التأثير بالمفهوم المائع وتبني خطاب الانجازات ومحاولة إبراز المدني على حساب تغييب القومي والسياسي العام المرتبط بالاحتلال والقضية الفلسطينية، لكن وجود هذا الحزب استطاع أن يكبحها ومنعَها من التفلت أكثر. حتى جاء منصور عباس  باستعداده للتخلي الكلي عن أي عامود فقري سياسي وافتقاده أي كوابح تمنعه من الانغماس في هذا الطريق حتى نهايته، فسار به حتى نهايته.
نحن نمر في مرحلة خطيرة، نشهد فيها عملية متواصلة لتفتيتكل أرضية قيمية سياسية  لمجتمعنا في الداخل وسلبه كل منظومة مرجعية سياسية يستند عليها في نشاطه الاجتماعي والسياسي وتعامله وتفاعله مع مؤسسات الدولة ومشاريعها والتغييرات السياسية والاجتماعية المتحركة في داخله ومن حوله، عملية تشويه وإفساد لثقافته السياسية، محالة لتفتيت المجتمع وتذرير افراده وردهم الى جماعاتهم العضوية الاولية الـ ماقبل-قومية، العائلية والطائفية، واعادة هندسة ايديولوجية لأفراده نحو أن تكون القيم الناظمة الوحيدة لحياتهم وتفاعلهم الاجتماعي هي: قيم المصلحة الشخصية، الرفاهية الشخصية، الأمان الشخصي، الربح والتربّح الشخصي، المحافظة على نمط حياة الاستهلاك الشخصي أو الرغبة نحو تحسينه لا أكثر، أي تقديم التقدم الفردي على المستوى المهني والاكاديمي والتجاري على أنه المخرج الوحيد من واقع عدم المساواة الاجتماعية والقومية البنيوي.

تلك الهندسة الأيديولوجية تسعى الى استدخال وتذويت جمعي للهزيمة وللقهر القومي والدونية الاجتماعية بوصفه "واقعًا" لا أفق لتغييره ويجب قبوله والتسليم به والتعايش معه دون أي أفق تغييري أو ثوري، ولا منفذ منه الا النجاة الفردية ومحاولة تحصيل مجرد ما يسد الرمق، بالترافق مع تشويه التقاليد السياسية في معاني الكفاح السياسي الجماعي والشمولي ومحاولة استبدالها بمنطق المقايضة والسمسرة وتذلل العبد للسيد بواسطة الاستسلام لمنطق تسيده وبنيته من أجل بعض الفتات، وتمييع العمل السياسي واستبداله بشبكات مصالح ووظائف وتمويل واستموال واسترزاق، مع هجمة ايديولوجية تحاول تغييب فصلنا الايديولوجي عن قضايانا الكبرى، عن شعبنا الفلسطيني وقضيته وعن دورنا في المعركة ضد الاحتلال وعن تشخيصنا للطبيعة البنيوية للتمييز والعنصرية والافقار والعنف الكامنة في طبيعة دولة العلوية الاثنية اليهودية.

أمام مثل هذه المرحلة الخطيرة، لا نملك ترف تدوير الزوايا، فهذا الحزب هو قلعتنا الأخيرة، هو القلعة السياسية الأخيرة لهذه الجماهير العربية، وآخر الجدران الحامية لها من هذه العاصفة والتيار الخطير الذي يعصف بنا، تيار تشويه الثقافة السياسية وكي الوعي، ولن نسمح لقلعتنا الاخيرة، في وجه مساعي التفتيت السياسي والاجتماعي، بأن تسقط أو أن توهن جدرانها.
هناك من سيحاول جرنا وراء الشعبوية السائدة، ومن سيحاول أن يجرنا إلى منافسة منصور عباس والموحدة على ساحتهم وبمنطقهم، وسيتذرع ويقول "الناس تريد ذلك.. ماذا نفعل"..."لا نستطيع أن نسير ضد التيار" سيقول، ومهناك ن سيحاول أن يقنعنا بالانحناء أمام العاصفة، هناك من سيحاول اقناعنا، مستغلًا خيبة الأمل التي نعيشها واليأس، بأن نتخلى عن نقاشنا الجذري مع الصهيونية ومع يهودية الدولة، سيقول لنا دعونا لا نتحدث الآن عن حق العودة، دعونا لا نتحدث عن الحقوق القومية لجماهيرنا العربية ونكتفي بالاتفاق على الحقوق المدنية. ولا يجب علينا الاستسلام لهذا المنطق باسم الواقعية وعدم التحجر.
انها البداهة أن يكون الشيوعي ثوريًا أو لا يكون، فلا يكون هذا ولا ذاك. والثورية لا تتناقض مع الواقعية، لكن ليس الواقعية بمفهومها المشوه التي تعني الاستلام للواقع بوصفه معظى أبدي والانجرار خلفه والانحناء أمامه والاكتفاء بمحاول إيجاد موقع فيه، بل الواقعية بمفهومنا الثوري، التي تعني فهم القوانين التي تحكم الواقع والدينامكيات التي تحركه من أجل قلبه وتغييره نحو واقع آخر.
قد يتصاعد التيار الاستسلامي في الفترة القادمة ويخدع الكثير من الجماهير في خضم هذه العاصفة العابرة لا محالة، لا يجب أن نخشى السير ضد التيار مهما كلفنا ذلك، بل يجب علينا أن نستعد لأن نسير ضد التيار. إن هذا الحزب والخط يتعدى اليوم مئة عام، مئة عام وهو صامد وفاعل وقائد، هذا ليس معطى للتفاخر الرمزي، مئة عام تعني مخزونا عظيما وغنيا من التجربة التاريخية والثورية التي يجب أن نتعلم منها. نحن نميل لأن ننسى أن رفاقنا الأوائل والمؤسسيين ساروا بعكس التيار ولاطموه بقوة وجلَد قبل أن يصبحوا هم التيار المركزي، لم يواجهوا فقط السلطة وقمعها بل أيضًا ثقافة سياسية سائدة بعد النكبة تستكين للهزيمة وتذوتها، إلى أن قادوا هذه الجماهير لنفض غبار الهزيمة والنكبة واستطاعوا إقناعها أن الكف يمكنها ملاطة المخرز، في ظروف أصعب وأحلك، منهم علينا أن نتعلم، وأن لا نخشى السير ضد التيار القادم علينا بشكل عاصف، وأن نتذكر أن هذا الخط، الذي كان "الحجر الذي أهمله البناؤون فأصبح رأس الزاوية"، كما وصفه القائد والأديب اميل حبيبي، كان أولاً الحجر الذي أهمله البناؤون، قبل أن يصبح رأس الزاوية.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب