news-details

المدماك الإيديولوجي في بنية الفساد السلطوي الإسرائيلي | هشام نفاع

يقيم المحرر في الموقع الإعلامي الإسرائيلي "شكوف" (شفّاف)، تومر أفيطال، رابطًا وثيقًا بين تركيز السّلطة بأيدي سياسيّين سلطويين حين تشمل إمكانيات التصرّف بالمال العام بدون رقابة ولا معايير حياديّة راسخة، وبين سوء استخدام السلطة حدّ الفساد.

ومما كتبه: "في كل عام تقريبًا، أطلب من ومكتب الإعلانات الحكومي الاطلاع ميزانيات الإعلان الحكومية. الهدف: دراسة وسائل الإعلام التي أفسدتها الوزارات الحكومية في ذلك العام.. ويُظهر كل تقرير كيف أن السياسيين يمنحون أفضلية في الإعلان لوسائل الإعلام ذات الصلة بالوسط الذي ينتمون اليه أو بمقرّبيهم.. بعد تعيين نفتالي بينيت وزيراً للتعليم، زاد إنفاق الوزارة على الإعلان في وسائل الاعلام المرتبطة بالتيار الديني-القومي. في عام 2015، العام الذي دخل فيه بينيت وزارة التعليم، لم تنشر الوزارة على الإطلاق في "سروغيم". بعد مرور عام واحد، لوحظت أولى علامات الاستيقاظ: اشترت الوزارة إعلانات من هذا الموقع، ولكن بمبلغ هامشي نسبيًا يبلغ حوالي 8000 شيكل. ولكن في عام 2017، ارتفع الإنفاق في وزارة بينيت على الإعلان في هذا الموقع إلى 100,000 شيكل. هذه النزعة تواصلت أيضًا في عام 2018: في هذا العام، ضاعفت الوزارة تقريبًا استثماراتها في نشر الإعلانات بهذا الموقع - وبلغت بالمجمل 193,000 شيكل. وهذا مجرد مثال واحد". 

يحضُر في حالة بينيت، خصوصًا، ما يتجنّب أشد النقّاد حدّة تسميته باسمه في خصوص الفساد، وهو علاقة الصراع الحاد الناجم عن الاحتلال ورؤى تكريسه بواسطة تأبيد مشروعه الاستيطاني، بظاهرة تفشي الفساد. فهذا المعسكر الأشدّ مغالاة في عنصريته وعنفه لتقويض كل ما قد يفتح كوّة على احتمال تقليص رقعة الاحتلال والاستيطان، يسعى ويجاهر بسعيه الى فعل كل شيء للسيطرة على مفاصل الحكم والتأثير، السياسية منها والعسكرية والإعلامية، لتحقيق برامجه الغيبيّة الرجعيّة وفرضها بالقوّة على الأرض.

هذا التشخيص لذاك المدماك الإيديولوجي الصلد في بنية الفساد السلطوي الإسرائيلي، يكاد يغيب تماما من الخطاب المنتشر السائد في معجم الإجماع القومي بصيغته الإعلامية والسياسية. فها هي وزارة القضاء تورد هذا النصّ المعقّم والمليء بالإطراء الذاتي تحت العنوان "إسرائيل تعزز محاربة الرشوة والفساد"، فتقول من بين ما تقوله:

"يشكل الفساد والرشوة تهديداً للمؤسسات الديمقراطية، التي يمكن أن تضر بسيادة القانون وتضر بالتنمية الاقتصادية. منذ سنوات، تلتزم إسرائيل بمكافحة الفساد وتعزيز قيم الاستقامة والنزاهة، وإنشاء آليات للقضاء على الفساد في القطاعين العام والخاص. وتحتل مكافحة الفساد والرشوة أولوية عالية في عمل وزارة العدل (هكذا في الأصل). في السنوات الأخيرة، عززت إسرائيل جهودها في المعركة الدولية ضد الرشوة والفساد".

هذه الوزارة تتوقف فقط عند المفهوم النفعي الفردي المباشر للفساد، بصيغة الرشوة و"الترويج لمعاملة أو منحها ميزة في الترويج"، وما شابه. لكن الفساد السياسي الذي يستخدم المال العام لشراء ما يكفل تعزيز أجندات التوسّع والاستيطان، والهيمنة على كل هيئة قضائية ورقابية لغرض خفض صوتها وسقف تأثيرها (المحدود أصلاً، وحتى بشكل إراديّ طوعيّ) لا يُشار إليه ولو بكلمة. 

 تقود هذه النقطة الى الملفّات الجنائية المتورّط فيها بنيامين نتنياهو، زعيم اليمين ورئيس الحكومة الحالي والسابق والقادم - بفضل زحف الجنرال المتقاعد بنيامين غانتس وحزبه "كحول لفان" اليه. المقصود خصوصًا الملفان المعروفان بـ 2000 و 4000.

وفقًا لمصادر إعلامية وقضائية إسرائيلية مختلفة، فإن الملف 2000 يتناول الاجتماعات التي عقدها نتنياهو مع أرنون موزيس رجل الأعمال وناشر صحيفة "يديعوت أحرونوت" الضخمة، بهدف التوصل إلى اتفاق يتيح لنتنياهو حصول على تغطية إعلامية إيجابية له ولأسرته، مقابل التضييق على صحيفة "يسرائيل هيوم" المنافسة، تقليص انتشار الملحق الأسبوعي، التي ما انفكّت تخدم أجندات ومصالح زعيم اليمين نفسه. لم يبرم الاتفاق لكن نتنياهو متهم بموجب هذه الوقائع بالاحتيال وخيانة الأمانة.

أما الملف 4000 فيتعلق بتقديم نتنياهو، تسهيلات ضريبية لشركة الاتصالات الإسرائيلية "بيزك"، بقيمة تقارب 276 مليون دولار، مقابل قيام موقع "واللا" الإخباري، الذي يملكه المدير العام السابق للشركة، ومالكها شاؤول ألوفيتش، بتغطية إخبار إيجابية لنتنياهو وأسرته 

واضح أن نتنياهو "يتفوّق بسلوكه" على مجرّد استخدام صلاحية تخصيص وتوزيع المال العام، كميزانيات الإعلان الرسمية مثلا، خدمة لمصالحه وأغراضه. بل قام وفقًا لسجلّ الاتهامات بخطوات فاعلة وبادر الى التأثير بطرق ضاغطة وأخرى ترغيبيّة، فاسدة وجنائيّة على وسائل الإعلام كي يحظى بالخبر الجيّد. خلافًا لبعض البنود التي تحدثت عن انتفاع مادي شخصي، المسألة هنا تتعلق بالتشبث بالحكم لتحقيق غايات سياسية مغالية، كلها تقع في سياق المشروع التوسعي الكبير.

فالأحزاب اليمينية المتحالفة معه بذلت كل جهد وما زالت، لمنع الاقتراب من أي سيناريو تُسقط فيه المحاكمة الجنائية المرتقبة زعيمَها العقائدي عن سدة الحكم. نتنياهو يدرك هذا ويهتم بالحفاظ على اتصالات مباشرة مع زعامة "مجلس المستوطنات" يؤكد لهم فيها نواياه ضمّ مناطق من الضفة الغربية المحتلة، وهذا المجلس يستنفر ويحشد جمهوره كي يحمي نتنياهو من خلال شنّ هجوم تشكيكي وتحريضي ضد المؤسسات القانونية ذات الصلة بمحاكمة رئيس الحكومة اليميني. هذه الفترة توقعت مصادر صحفية أن يقوم أنصار نتنياهو قريبًا بحملة ضد المستشار القضائي للحكومة، قُبيل بدء المحاكمة.

التقارير الدوليّة للمنظمات المهتمّة بالفساد السلطوي تتابع ما يجري في دولة إسرائيل، وتقول منظمة الشفافية الدولية المستقرة في العاصمة الألمانية برلين، عبر تقرير في كانون الثاني الماضي، إن إسرائيل "وهي من دول الشرق الأوسط المعروفة بنظامها الديمقراطي العريق وباستقلالية سلطاتها الثلاثة" على حد تعبيرها، قد شهدت تراجعا في مؤشر مكافحة الفساد، فقد احتلت المركز 35 بحصولها على 60 نقطة من مجموع 100 نقطة. وهذه هي السنة الثالثة على التوالي التي تنخفض فيها مكانة إسرائيل في المؤشر. قبل ذلك بين عامي 2014 و 2016، كانت قد ارتفعت.

منظمة الشفافية الدولية كتبت "إن تحليل هذا العام يظهر أن الفساد أكثر انتشارا في البلدان التي يمكن أن تتدفق فيها الأموال الضخمة بحريّة في الحملات الانتخابية وحيث تستمع الحكومات فقط إلى أصوات الأغنياء أو المقرّبين بشكل جيد". هذا ينطبق بدقّة على إسرائيل. فالحكومة يجمعها صمغ إيديولوجي قوامه الهيمنة على معظم الضفة الغربية المحتلة، وهي لا تخفي بالمرة هويتها الاجتماعية اليمينية والتسهيلات الهائلة التي تقدمها لقروش المال.

وحتى اليوم، وسط أزمة انتشار فيروس الكورونا، يقول عدد من المحللين الإسرائيليين إنه بينما خصصت دول رأسمالية مركزية في أوروبا ميزانيات ضخمة لمواجهة الوباء ودعم المتضررين في الطبقات العمالية والفقيرة، فإن حكومة نتنياهو تمتنع عن هذ مكتفية بتخصيص أموال ضئيلة لا توفر حلولا حقيقية. إنها لا تجرؤ على الاقتراب من الأموال التي تكسبها وتديرها شركات ضخمة من الممتلكات العامة، كعائدات الغاز، واحتياطي أموال التأمين الوطني وغيرها. الكاتب تسور شيزاف كتب في "يديعوت أحرونوت" إن إسرائيل "سجّلت ذروة في الانفلات الرأسمالي"، فهي "لم تستعد لأزمة الكورونا في جانبين. الأول يتعلق بالجهاز الصحي: ليس فقط بسبب نقص الاختبارات والمعدات، ولكن أيضًا بسبب إهماله لسنوات، بما في ذلك العقد الذي خدم فيه نتنياهو. هناك نقص في المستشفيات وأسرّة المرضى والأطباء والممرضات. عدد الكليات الطبية وعدد الطلاب محدود من قبل الدولة (...) لكن أبعد من ذلك، فإن السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي طبقتها الحكومة في الأزمة هي سياسة قاسية ووحشية على المستوى المدني، وقاتلة على مستوى الركود العميق. لم يجرِ في أي مكان من العالم المصاب بالكورونا، إخراج العمال بالجملة بشكل متوحش الى عطل غير مدفوعة الأجر. ولا يوجد أي مكان في العالم بهذا التجاهل الشديد لمشاكل المصالح الصغيرة والعاملين لحسابهم الخاص". 

يجب التوقف عند جانب آخر يجري إغفاله: هناك عمليًا بيئة حاضنة للفساد على مستوى المجتمع، وهذا أيضًا يعود الى المواقف العقائدية والتوسعيّة المغالية. فقد أظهرت استطلاعات الرأي ثم نتائج الانتخابات الإسرائيلية أن هناك غالبية في المجتمع تغفر للفاسد الشعبوي القومجي العدواني ضد الفلسطينيين. قال استطلاع لمعهد "مأغار موحوت" في أحد أبحاثه أن غالبية المستطلَعين لم يتأثروا بقرار المستشار القضائي للحكومة تقديم نتنياهو للمحاكمة. 75% من المستطلعين قالوا: إن القرار لم يغير موقفهم من التصويت .بل حصل نتنياهو على أعلى نسبة في السؤال عن الأنسب لرئاسة الحكومة: 42% من المستطلعين في حين حصل بنيامين غانتس على 38%.

هذه الكتلة الداعمة لنتنياهو وائتلافه والتي لا يهزها فساد ولا انتهاك للقانون ولا هدر للمال العام ولا ضرب لأكثر الخدمات أساسية ولا إيذاء حقوقها الاجتماعية والاقتصادية هي نفسها، هي كتلة يحرّكها الموقف السياسي التوسعي العنيف. وحين يحظى زعيم تقول جميع مؤسسات إنفاذ القانون إنه فاسد يجب محاكمته، لكنه مع ذلك يظلّ يحظى بهذا السور الواقي القوي لإبقائه على رأس هرم الحكم، فيتبدّى مجددًا وبشكل أكثر جلافة وصلافة كيف يساهم مشروع تأبيد الاحتلال والاستيطان في زيادة تفشي وهيمنة الفساد في إسرائيل. ليست المسألة سيجارًا فاخرًا ولا زجاجة شمبانيا غالية الثمن، هذه الخسّة الشخصية المادية الجشعة، لا تقارَن أبدًا مع تحطيم جميع الحواجز ودوس جميع المحظورات كي تكرّس المؤسسة الحاكمة احتلالها واستيطانها وطغيانها.

هناك علاقة تكامليّة وتغذية متبادلة بين التعنّت على التوسع الكولونيالي وبين صرف النظر والأنف تمامًا عن روائح الفساد المنبعثة من أروقة الحُكم، لأنه يخدم ويدفع للأمام عقيدة التوسّع تلك. لن ينحسر الفساد ويتحاصر ما لم تُهشّم هذه الدائرة المفرغة.

(نشرة "المشهد الإسرائيلي"- مركز "مدار")

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب