news-details

المرأة الفلسطينية العاملة ودورها في الاقتصاد الريفي في فترة الانتداب البريطاني

روضة مرقس-مخول

لطالما وصفَ الأوروبيون، ومن ضمنِهم موظفو وموظفات حكومةِ الانتداب ومَن قبلِهم من رحّالةٍ ورجال ونساءِ البعثات التبشيريةِ وغيرها، النساءَ الفلسطينياتِ على أنهن خاملات، عاجزات عن العملِ والتأثيرِ بمجتمعِهنَ بل وذوات موقعٍ ضعيفٍ داخلَ عائلاتِهنّ. وامتاز خطابهم الكولونيالي وخطاب نساء بريطانيات واسكتلنديات عِشنَ في حيفا ويافا والقدس والناصرة برسمِ صوراً نَمطيةً عن المرأةِ القرويةِ التي شاهدْنَها تصلُ الى المدينةِ ضمن مجموعةِ قروياتٍ أخريات، لبيع الخضار أو منتجات الحليب، أو مع أحد أفراد العائلة الذكور لزيارة طبيب أو غيره، فكتبوا استنتاجاتهم على كونها متأخرة، غير متعلمة، مسلوبة حق التنقل بذاتها ولوحدها، فكتب الباحثون الغربيون أبحاثهم الاجتماعية على أساس هذه الصور النمطية واستمدوا موادهم الأساسية من تقارير رسمية كتبها ممثلي حكومة الانتداب التي تجاهلت الى حدٍ ما دور النساء كقوة عمل.

إذا، كانت تلك كتابةَ عن بُعد لم تعطِ المرأةَ الفلسطينيةَ الفلاحة الكادحةَ حقَها. بينما، عندما يستذكرُ كلٌ مِنا نساء قريته نجدُ أن معظمهن عملنَ في الحقول والبساتين وبمجالات عمل أخرى. لكن تغيرت هذه الصورة بشكلٍ كبير عندما طرأ تحولٌ في أساليب ومصادر البحث في العلوم الانسانية والاجتماعية والسياسية، أهمها الاهتمام برواية المستضعفين والشرائحِ التي همشَها الباحثون عن طريقِ دراسات التابعِ، وبإسماعِ صوتَ مَن لا صوت له. من ناحيةٍ أخرى تطوَرَت الكتابةُ النسويةُ من كتاباتٍ بدأت بها الحركات النسوية الغربية، وبالأساس الأمريكية البيضاء، من نسويات كلاسيكيات طالبنَ بالمساواة في الخروج الى العملِ، فبادرت نسويات من أصول أفريقية الى مواجهتهن بالحقيقة التي لطالما تجاهلتها النسويات الأمريكيات الأوائل ألا وهي أن النساءَ من ذواتِ البشرةِ الداكنة قد عملْنَ في حقولِ وبيوت النساءِ البيضِ منذ مئاتِ السنين (راجع: بيل هوكس)، ولحقت بهن باحثات تبنينَ الفكر النسوي ما-بعد استعماري التحرري والماركسي مثل أوما نارايان، موهانتي، غاياتري سبيفاك ، نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وباحثات كويريات مثل جوديث باتلر وغيرهن، مِمَن طالبنَ بتفكيك الخطاب النسوي الغربي المهيمن وإعادة كتابة التاريخ من جديد ليشمل صوت ونظرة الطبقات المستضعفة والشعوب المستعمَرة ودراسة النوعِ الاجتماعي من هذه المنطلقاتِ.

لم تتأخر الباحثاتُ العربيات والفلسطينيات بشكلٍ خاص، عن الرَكب فالمؤرخات أعدنَ كتابةَ تاريخِ الشعوب العربية لتتضمن أدوار المرأة النضالية والسياسية ككتابات روز ماري صايغ ونادية حجاب وإصلاح جاد وفيحاء عبد الهادي، وباحثات العلوم الاجتماعية الصحيّة كنهاية داوود والقانونية والتاريخية كأبحاث لينا دلاشة، وبالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع ودراسات النوع الاجتماعي وعلم النفس التربوي فازدهرت مكتباتنا بأعمال ليلى أبو لغد وخولة أبو بكر وروضة كناعنة ونهلة عبدو ونادرة شلهوب ومنار حسن وفاطمة قاسم وهنيدة غانم وتغريد يحيى-يونس وأريج صباغ وسراب وصفاء أبو ربيعة ومنال شلبي وهمت زعبي وبعلم الاجتماع التاريخي- الاقتصادي كأبحاث لينا ميعاري، وروضة مرقس -مخول ومها صبّاح كركبي وبسمة فاهوم وتغريد قعدان، فكتبن عن مواضيع مختلفةٍ منها تاريخِ النساءِ بفترةِ الانتدابِ والنكبةِ وما بعَدها وعن أدوارهِن وتجاربهنَّ النسوية، النضالية التحررية، الاقتصادية والسياسية.

هل نعتبرُ عملَ المرأةِ الفلسطينية في الزراعةِ ضمنَ عائلتِها أو كأجيرةٍ مقابل صاعٍ أو صاعين من الحنطةِ عملاً؟ هل نعتبر الدايةَ او القابلةَ التي لم تأخذ مقابلَ عملِها المالَ، بل بضعَ ثمارٍ أو كميةٍ من الحبوبِ، أو قرصَ جبنةٍ وبضعَ حباتٍ من الحُلوى لأطفالٍها، امرأةً عاملةً؟ وماذا مع جداتِنا اللواتي قطعْنَ المسافات مشياً على الأقدام ليبيعوا اللبنَ والجبنةَ أو الخبيزةِ والميرامية في أسواقِ عكا وحيفا وصفد؟ هل نعتبر ما قُمنَ به من مجهود اسهاماً اقتصادياً؟  هل يعتبر مجهود النساء الذي لم يُسجَل في وثائق رسمية عملاَ؟ هل يستحقُ دورُ المرأةِ الاقتصادي وعملُها لبقاءِ العائلةِ والمجتمع ِوالعيشِ الكريم أن يُسجل؟ الإجابةُ على كلِ هذهِ الأسئلةِ، برأيي، هو نعم. الطرحُ الأساسي الذي اقترحُه بهذهِ المقالةِ هو أنه لولا القوةَ الإنتاجيةَ للمرأةِ الفلسطينيةِ القرويةِ لما حصلَ تراكمُ رأسِ مالٍ زراعيٍ فلسطيني، كان ذلك بأيدي الاقطاعيين اللبنانيين الذين ملكوا آلاف الدونمات أو بأيدي العائلات البرجوازية الفلسطينية من سكان الحواضرِ أو الريفِ.

إذا راجعنا الجرائدَ التي صدرَت بفترةِ الانتدابِ البريطاني لن نجدَ اسماً لإمرأة قروية حَصدَت دونماَ من الحنطةِ أو الشعير أو قطفَت التبغَ بين انبلاجِ الفجرِ وغيابِ الشمسِ دونَ توقفٍ. لكننا سنجدُ مقالاتٍ ومساهماتٍ لنساءٍ نشطْن بالنوادي النسائية والجمعياتِ الخيريةِ في المدنِ الفلسطينية تخاطبُ جميعَ النساء وتدعوهنّ لأخذ دورهنّ بالتحرر وبالتعلّم والتثقيف الذاتي، ولكن سنلاحظ أن خطابَهنّ منقطعٌ نوعاً ما عن حياة النساء الريفيات. فتجدهنّ يطالبون بالمساواة مع الرجل بالخروج الى العمل وبأخذ دورٍ اجتماعي واقتصادي (يُذَكِّر بخطاب النسويات الأمريكيات البيض) ولكنهنّ يتجاهلن، مثلاً، الدورَ المركزي للنساءِ القرويات بالمجال الزراعي (ان كان بالزرع وجمع المحاصيل والانهماك بإعدادها بشكلٍ يسمح بتصريفِها وبيعِها وتخزينِها، أو بالاهتمام بالحيوانات والطيور، الخ). فقد تميّز المجتمع الفلسطيني بكونه مجتمعاً زراعياً في معظمهِ وعليه فدور النساء بالمجتمع والاقتصاد الريفي كانَ دوراً هامّاً جداً، فتصريف العمل الزراعي بطبيعته يحتاج الى الكثير من الأيدي العاملة وهذه كانت أيدي النساء والفتيات والأطفال. واذا أضفنا عامل الواقع السياسي- الجغرافي، نجد أن الاستيطان الصهيوني الذي بدأ قبل الاحتلال البريطاني لفلسطين وقبل وعد بلفور، جلب معه أيضاً تكنولوجيا متقدمة نوعاً ما للعمل الزراعي سهلت على اليهود السيطرة على مساحات خصبة من أراضي الجليل الأعلى والغربي والحولة ومرج ابن عامر، بينما بقي العمل بالقرى الفلسطينية معتمداً على العمل اليدوي مما أضر بمستوى العائلة والقرية عامةً، لكنه بنفس الوقت اضهد المرأة أكثر فأكثر.

وتحت وطأة نظام الأراضي والضرائب الذي فرضه البريطانيون، والتقييدات على نوع وكمية المحاصيل التي سمح للفلاح أن يزرعها، احتاجت عائلة الفلاح الى أكبر كمية ممكنة من أفراد العائلة لجني محاصيل بيعت- بظل التنافس مع ما استوردته بريطانيا من أوروبا وسوريا ومصر- بأثمان بخسة ضمنت من ناحية مستوى معيشةٍ بسيط، لكنها أفقرت العائلة من الناحية الثانية وأضرت باحتمالات انضمام الفتيات للمدارس الابتدائية فما بالك بالثانوية. مع ذلكَ، نجحَ عددٌ لا بأسَ بهِ (اذا نظرنا بإيجابيةٍ) من الشاباتِ الفلسطينياتِ القرويات بإكمال الصفِ العاشرِ الثانوي وبعدها انضم هؤلاء الى سلك التعليم. وما سمعتُه عن المعلماتِ والقابلات الفلسطينيات في مقابلاتِ التاريخِ الشفوي التي أجريُتها في قرى الجليلِ الغربي والأعلى دفعَني للوصولِ الى الأراشيفِ (في البلادِ وفي إنكلترا). مراجعةٌ متعمقةٌ بأرشيف ملفاتِ المعلماتِ الفلسطينياتِ القرويات من سنواتِ 1922 وحتى  1948-تقودنا بفرح وشعور الانتصارالى كنزٍ تاريخيٍ يقلبُ الخطابَ الأوروبي الاستعلائي حول النساء الشرقيات رأساً على عقبٍ. ففي العام 1924، مثلاً، كانت نساء صفورية تعملنَ كمدرّسات في مدارس منطقة الناصرة وبيسان وطبريا، ومعلمات من الرامة وكفرياسيف تعملن كمديرات ومعلمات مدارس بنات في عكا وحيفا (بينما الفكرةُ السائدةُ هي أنّ نساءُ المدنِ علَمنَ نساءَ القرى!). وفي الثلاثيناتِ والأربعيناتِ سكنت كلُ المعلماتِ القروياتِ في غرفٍ مستأجرةٍ في القرى التي عمِلْنَ بها وكنّ يرجعنَ الى قراهن فقط بأيامِ الأعيادِ والمناسبات. في ملفاتِ تلك المعلمات نجدُ أيضاً معلوماتٍ حولَ وضعِهن المالي قبل زواجِهن، إذْ كان اجبارياً حسب قانون وزارة التعليمِ بحكومةِ الانتداب أن تصرحَ المعلمةُ عن أملاكِها الشخصيةِ (أراضٍ أو بيوت اشترتها أو ستشتريها). وفي ملفِ احدى المعلمات وهي معلمةٌ من قريةِ البعنة الجليلية، نجُد أنه خلال أربعِ سنواتٍ من العمل اشترَت هذه المعلمة قطعةَ أرضٍ بمساحةِ 104 دونمات بمبلغِ ألف جنيه فلسطيني لكلِ القطعةِ. جديرٌ بالذكرِ أنه بالعام 1936، كان المعدلُ السنوي لراتب المعلمة الرسمية- حسب ملفها بالوزارة- مئةَ (100) جنيهاً بالسنة الواحدة.

وإن بَحًثْنا بمصادر أولية، مثل "دليل فلسطين للمهن والتجارة" للعام 1937-1938، سنجدُ اسماءَ وعناوين كل القابلات الفلسطينيات اللواتي عملنَ في فلسطين بتلك السنوات (بعضهن مع رقم هاتف مكوَن من خانتين أو ثلاثة فقط). كيف نفسّر سكن وعمل القابلة "حجلة جريس" الكفرساوية في بئر السبع بالعام 1937؟ كيف يتفق وجودها بمدينة تبعد عن الجليل مسافة 3 ساعات بقطار أيامنا هذه – لنقارن الزمن بمفاهيم سكة حديد حيفا-غزة الانتدابية- مع خطابِ الخمول والكسل وانعدام الذات الذي بثه الغربُ عن نساءِ الشرق؟ لنعملَ حساباً بسيطاً: بالعام 1937 كانت الداية حجلة قد أصبحت رسمياً قابلةً مسجلةً، إذاً محتمل أن تكون ببداية العشرينات من عمرها عندما تسلمت وظيفتها إذا اخذنا بالحسبان أن قانون ترخيص القابلات قد سُنَّ بالعام 1925. على هذا، فهي من مواليد 1912 على الأقل. يعني هذا أنه، وقبل "كَرَم" الانجليز وإسرائيل على النساء الفلسطينيات، فقد كانت الطفلة حجلة قد تعلمت الابتدائية قبل بدء الانتداب ومن هذه الحقيقةِ نستشفُ موقفَ الأهلِ والأبِ حصراً من تعليم البنات. أيضاً، بإمكاننا التخمين بأنها حصلت على شهادة توليد رسمية تقريبا ببداية الثلاثينات وبما أنه لم تكن مدارس التمريض بالقرى ولا بمنطقة الجليل إنما في رام الله والقدس. نستنتج أن القابلة حجلة جريس قد تركت القرية لفترة وسافرت بعيداً لكي تتعلم أي ان التنقل بالحيّز كان عاملاً مساعدا لكسب المكانة الاقتصادية (عن هذا إقرأوا مقالاً لي عن التنقل بالحيز سيصدر قريباً عن معهد دراسات الشرق الأوسط- برلين). حقيقة كهذه أيضا تفضي الى استخلاص النتيجة حول موقف إيجابي لدى اهل القرية بالنسبة للتعليم والعمل خارج المنزل بتلك الفترة.

بالإضافةِ لذلك، المرأة الفلسطينية سعت بنفسها للدخول الى سوق العمل ولو كلفَها ذلكَ الابتعاد عن البيتِ والعيشِ باستقلاليةٍ ما عن الأهلِ. نستنتجُ أيضاً أن النساءَ انخرطْنَ بالعملِ بأجرٍ نقديّ أو بالمقايضة حيث سنحَت الفرصةُ. دليلُ المهنِ والتجارةِ المذكورِ سابقاً يُظهِرُ لنا أيضاً تفاصيلَ باقي القابلات المسجلات بالدليلِ (لا يشمل الممرضات) حسب اسمِ القضاءِ ويشملُ المدينةَ الرئيسيةَ والقُرى التي فيهِ: حيفا حوالي 20 قابلة، قضاء عكا 8، يافا 14، صفد 5، نابلس 11، وفي رام الله والقدس 26 قابلة. يبقى أن نذكرَ أن تحليلَ معطياتٍ ومعلوماتٍ من "دليلِ المهنِ والتجارة" وموادٍ أرشيفيةٍ ومقابلات تاريخ شفوي أجريتُها مع نساءٍ مسناتٍ في منطقةِ الجليل، ينسفُ ادعاءاتِ الخطابِ الذي افترض، بل وصرّحَ أنّ للمسيحياتِ كان وزناً أكبراً بسوق العمل وأن المسلماتُ والدرزيات عملنَ أقل وخرجْنَ أقل الى الحيّزِ العامِ. هذا طبعاً غير دقيق، فبمجرد التمعَنِ في أسماءِ المعلماتِ والقابلات نعرفُ أنهن مسلمات ومسيحيات ودرزيات. وبما أننا أدركنا بأنّ أسماء وقصص حياةِ وتجاربِ المُزارِعاتِ والحاصِدات، وجوّالات وقاطفات الزيتون والتبغ، واللبانات، وحائكاتِ السجادِ والحصرِ وناسجاتِ السلالِ وناقلاتِ جرار الماء من العين الى داخل بيوت العائلات البرجوازية، لم تُذكَر بالصحف ولا بالأرشيفات، وغُيِبَت لفترة طويلة عن السرد التاريخي لشعبنا، بتنا متيقظات واعيات فاستقينا المعرفةَ من حارسِ الذاكرةِ الفلسطينية البروفيسور مصطفى كبها، ومن المؤرخين الاجتماعيين الكثيرين ونذكر منهم على سبيل الحصر فقط الأساتذة قيس فرو ومحمود يزبك وجوني منصور ومن عرّاب توثيق القرية الفلسطينية الدكتور شكري عرّاف ومن مقابلات وتسجيلات التاريخ الشفوي والأبحاث عن نساء النقب والمثلث والجليل، وتيقَنّا أن النساء الفلسطينيات الناشطات اقتصادياً كُنَّ من كل الشرائح والطوائف ومن أجلهنّ نعترفُ لهنّ بأفضالِهنّ، وبمناسبة يوم المرأة العالمي نقول لهنَ أنهنّ مسجّلات بذاكرةِ الأحفادِ والأبناءِ وأن عملهنّ وعرق جبينهنّ هو مدادٌ من ذهبٍ يكتبُ تاريخَ كلِ النساءِ القروياتِ العاملات وبأنّ وقعَ أقدامِهِنّ على مساربِ الطرقِ الوعرةِ والترابيةِ بين الجشِ ودلّاثةِ وصفد، وبينَ البروة ِوعكا واجزم وحيفا، وهن يحمِلْنَ حملات الحطب، دسوت اللبن، ضمم النعنع والعلت، هو نداءٌ لنا كي ندوّن أكثر، لنعترف أكثر.

كفرياسيف

ملاحظة: (المادة أعلاه هي جزء من أطروحة الدكتوراة التي سأقدمها قريباً وهي خلاصةُ مقال لي سيصدر بمجلة مجمع اللغة العربية )

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب