news-details

المعنى التاريخي للصهيونية (2-2)

ان غالبية المؤرخين العرب الذين تناولوا في كتاباتهم موضوع الصهيونية، أجمعوا أن هرتسل هو من أسس وأقام الحركة الصهيونية، والحقيقة أنه يوجد فرق ليس بالفكر فقط بل بالنهج التنظيمي بين الحركة الصهيونية والمنظمة الصهيونية، فالأولى سبقت الثانية، والثانية قامت بالترجمة العملية للأولى.

لقد عرفت الصهيونية كاسم ومصطلح ديني وسياسي قبل أن يفكر أو يؤمن بها هرتسل، ويعتبرها العقيدة الدينية والسياسية التي تهمه، لأن هرتسل كان علمانيًا ملحدًا، لا يؤمن بالفكر الصهيوني ولم يتقرب الى من عُرفوا برواد الصهيونية الأوائل، أمثال ليو بنسكر وموشه هيس وآحاد هعام وغيرهم، وهناك من اسماهم بالمبشرين بالصهيونية، كان الشعار الذي آمن به هرتسل أن: الحل الأفضل للقضية اليهودية هو الاندماج مع الشعوب الأخرى، وعلى كل يهودي حمل الجنسية للشعب الذي يعيش بينه.

لقد مر هرتسل في ظروف لها علاقة بعمله كرجل قانون  وصحفي، هذه الظروف قلبت مواقفه المذكورة، فقد أرسلته صحيفة "دي فيلد" الألمانية التي كان يعمل بها لتغطية محاكمة "درايفوس" وهو ضابط يهودي فرنسي اتهم بالخيانة لصالح المانيا في حربها مع فرنسا عام 1870، حاول ضباط الجيش الفرنسي إيجاد كبش فداء للتغطية على هزيمتهم وفشلهم في الحرب فاتهموا الضابط درايفوس بالخيانة.

ان تحول هرتسل في مواقفه من الصهيونية نتيجة بايمانه بأن درايفوس يحاكم بهذه التهمة لأنه يهودي فقط، وقد اعتبر هذا التحول  نقطة هامة في مواقفه من الصهيونية والقضية اليهودية، آمن بعدها هرتسل بأن حل القضية اليهودية يجب أن يكون سياسيًا يجب أولًا وضع كل الآراء والتيارات الصهيونية تحت سقف واحد، ومن ثم التوجه الى الدول العظمى التي كانت معروفة في ذلك الوقت لكسب عطفها.

 رفض هرتسل موقف الصهيونية العملية التي كانت تؤمن بضرورة تنظيم هجرات غير شرعية الى فلسطين، مثل  حركة محبي صهيون وغيرها.

من أجل ذلك بادر الى عقد المؤتمر الصهيوني الأول 1897، وكان هذا المؤتمر من وجهة نظره نقطة البداية، وكان يعرف أيضًا أن ضعف وعجز الدولة العثمانية وانشغالها بالحروب يمنعها من رفض مطالب زعماء الدول الكبرى بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين.

كان من أهم نتائج هذا المؤتمر جمع شتات كل الأطر والحركات والمنظمات التي آمنت بالفكر الصهيوني تحت سقف واحد أهدافه معروفة، بفضل هذا المؤتمر أقيمت المنظمة الصهيونية، وهذه المنظمة لعبت دورًا بارزًا في قيادة وتوجيه معظم الجاليات اليهودية في العالم، لكن ثبت أن هرتسل ليس قديسًا لأنه عاد وغير رأيه ووافق على ما طرح في المؤتمر الصهيوني الخامس بأن تكون أوغندا في افريقيا وطنًا قوميًا لليهود.

لقد ادعى الرواد الأوائل للصهيونية أنهم وجدوا بها فكرًا وطريقًا لايجاد الحلول لما أسمته أوروبا بالقضية اليهودية، هؤلاء يدعون بأن الشعوب الأوروبية سئمت من اليهود ولم تعد تطيق وجودهم داخلها، لذلك أخذوا يفتشون عن طرق للتخلص منهم وابعادهم، كما أن هناك عوامل أخرى دفعت هؤلاء للتبشير بهذا الفكر الانتهازي بكل ما تعنيه الصهيونية من معاني واهداف وتطلعات، من هذه العوامل :

الأول: العامل الديني من وجهة نظر العديد من المفكرين الصهاينة فإن هذا العامل يشكل النواة الأولى في نشأة الحركة الصهيونية، وما كان اختيار هذا الاصطلاح بالذات، الا للدلالة على وجود الجسر الديني التاريخي بين صهيون بالأمس والصهيونية اليوم، أي بين أرض التوارة ومملكة داود وسليمان في القرن العاشر قبل الميلاد وبين الصهيونية كحركة سياسية حديثة.

يميز الكاتب الحاخام اولمر برجر بين صهيون والصهيونية، يقول أن صهيون ما هي إلا المقدسات في اليهودية التقليدية، أي أن صهيون عبارة عن مفهوم ديني لا سياسي قومي، لكن لولاها لما قامت الصهيونية كحركة سياسية حديثة اضافت الى اليهودية شيئًا جديدًا وهامًا أن اليهودية قومية أيضًا، رغم أن غالبية من ينتمون لليهودية ليسوا من عرق أو جنس واحد، انهم خليط من الاجناس، منهم من تهود دون الاعتراف بالديانة اليهودية ولأهداف اقتصادية، ومنهم من يعترف باليهودية كديانة لا علاقة لها بالقومية.

اما هربرت بارسن فيذكر في شرحه للطبيعة الصهيونية أن التراث اليهودي هو الأب الحقيقي للصهيونية، وحسب رأيه ان الأدب الرباني الديني ما هو إلا الوعاء التثقيفي الذي يعمل على تعميق الايمان بالتحرر من قيود المنفى، ويجزم بارسن أن اليهود وان عاشوا في المنفى فانهم عاشوا عاطفيًا فيما اسموه بأرض فلسطين أو أرض إسرائيل.

أما بالنسبة للتناقضات الواردة في هذا المفهوم، فيكفي الإشارة الى التناقض الأهم وهو التناقض في الدمج المفتعل تاريخيًا بين ما هو ديني وما هو قومي، أما بالنسبة للمبالغات في اندفاع اليهودي أينما كان وحلمه للعيش في الأرض المقدسة فتكشفها الاعداد الضئيلة  لليهود الذين اختاروا العيش في فلسطين.

العامل الثاني  الاستيطاني الاستعماري: كل المعطيات تؤكد بأن الاستعمار الأوروبي بفكره وممارساته هو الأب الروحي للصهيونية، فلا صهيونية بدون استعمار أوروبي، ولا نجاح للاستعمار الأوروبي إن لم يكن استعمارًا استيطانيًا، لم يكن دور الاستعمار في انطلاقة الحركة الصهيونية مجرد حلف مرحلي، وانما كان حليفًا استراتيجيًا ومبدأ ثابتًا من ثوابت الصهيونية، فالمؤرخ الصهيوني سكولوف لم ير مستقبلًا للصهيونية إلا من خلال استعمار فلسطين، لأن النظرة للاستعمار في عهد سكولوف أي في عهد الصهيونية الأول أنه ليس عملية عدوانية بل حقًا شرعيًا للقوى الكبرى.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب