news-details

الهويّة والثَّابت والمُتغيِّر وانتخابات الكنيست| مصطفى عبد الفتاح

 

نحن فلسطينيو البقاء، فلسطينيو الجذور، نملِك هويَّتين، الهويَّة القومية الثابتة وجدانيًا، نعيشها، ونحبها ونريدها، ونحبها أكثر لأنَّنا محرومون من أن نُمارس طقوسها، سرًا وعلانيةً، رغم أنف السُّلطان، هي الهويّة الثابتة، لا تتغير لأنَّها نحن، لأنها تُشبهنا، بتاريخنا، ولغتنا، وحضارتنا، وثقافتنا، ووجودنا، هوية تُعبر عن أنانا، وعن ذاتنا الجمعيَّة، هي هويَّتنا العربيَّة الفلسطينية في الوطن، غير مفروضة علينا لأنَّنا ولدنا بها، فلا أحد يستطيع انتزاعها منّا، انتهاؤها بانتهائنا، وزوالها بزوالنا، جسديا وروحيا. 

هويَّتنا الثَّانية هي الطَّارئة المتغيّرة، فُرضت علينا بفعل النَّكبة وتبعاتها، قبلناها لنمارس حياتنا كمواطنين، في دولة فُرضت علينا، وأصبحنا فيها أقلية رغم أنوفنا، هويَّة مدنية نعمل من خلالها على أن نكون مواطنين متساوين في الحقوق، في وطن ليس لنا سواه، نناضل من أجل حياة مُستقرّة آمنة، ليس منَّة من أحد، فنحن لسنا طارئين على هذا الوطن، هي الهوية المدنية الإسرائيلية، نمارس بها حقوقنا، ونعيش حياتنا، لا نستجدي في ذلك أحدًا، فنحن نملك فائضًا من الكبرياء وعزة النفس، وحب الوطن والانتماء، حتى لو وجد بيننا بعض المتسولين على أعتاب السّلطان.   

منذ أن بقينا كالأيتام على موائد اللئام، بعد عام النكبة ونحن الشَّعب الفلسطيني المُتجذّر والباقي في أرضه وعلى تراب وطنه، نحمل هويتنا الفلسطينية الثَّابتة، ونحمل همومنا كشعب فلسطيني، ونمضي كالمارد. رغم ما أصابنا من ذهول واندثار، وتفرّق شملنا، وتشتيت هويّتنا الوطنية والقوميّة، فكثرت التسميات وتعددت التوجهات، من أجل كي الذاكرة وتفتيت الهوية، ولكن الجوهر بقي صامدا، ووجودنا كشعب وهوية وبقاء بقي ثابتا صامدا لا يتزحزح، لم ننحن ولم نتخاذل ولم نتراجع قيد أنملة في الدفاع عن بقائنا ووجودنا الوطني والإنساني، والوقوف كالمارد أمام التَّمييز والقهر والفقر والمصادرة، وعدم الاعتراف بنا وإلغاء وجودنا ومحو هويتنا.

من هذا المنظور البسيط، بقي الثَّابت فينا هويتنا الوطنية والقومية، نحن أبناء الشَّعب العربي الفلسطيني في الدَّاخل، هذه الحقيقة، لم تتغيَّر ولم تتبدَّل، لن تتغيَّر ولن تتبدَّل، ما بقي فلسطيني واحد يتنفس، لأنَّها هي البوصلة الَّتي نهتدي بها، هي طريقنا للحفاظ على وجودنا وبقائنا كشعب، قد يضلّ البعض ويتوه آخرون، ولكنَّ بوصلة الهوية ستوجههم، وقد تتغيَّر عندما تمتزج الهويَّتان، الثَّابتة والمُتغيِّرة، بتغييرٍ في المظهر والجوهر في النظريَّة وفي التَّطبيق على الأرض، وبإرادة الشعبين، أما في حال تغيّرها قسرًا، فسيقرأ الفلسطيني الأخير، خطاب الاستسلام، كما فعل آخر الهنود الحمر في أمريكا، وهذا لن يحدث.

هذه الحقائق الَّتي أوردتها، رضعناها من أثداء أمَّهاتنا، وحملتها بعض قيادات شعبنا ومضت، تقاوم وتدافع عنها وعن وجودنا في كلّ المحافل، وقد ميَّزت هذه القيادات بين هويتنا الفلسطينية الثابتة، و"هويتنا الإسرائيلية" المتغيّرة، او الجديدة الطارئة، فقاوم الشعب جيلا بعد جيل وحمل الرّاية، وسار خلف القيادة.

 كانت بعض هذه القيادات بعيدة النظر، واعية ترى النّور في آخر النَّفق، تعرف إلى أين تقود الجماهير، تسير في المُقدمة، فتتبعها الجماهير، نقاشها حضاري وطني إنساني، حول قضايا حياتية كالفقر والتمييز والعنصرية، ومصيرية كالهوية ومكوِّناتها، الأرض والإنسان، واللغة والتَّاريخ والتّراث، هذه القيادات هي التي حملت البوصلة، وسارت إلى الأمام بخطى ثابتة، فأين هي القيادات اليوم حتى أصبحنا كالرّيشة في مهب الريح؟

عندما أصبحت بعض القيادات الجديدة تحكم عن بعد بالرموت كونترول، وعندما تركت السّاحة لتنعق بها الغربان، عندما تُرك الميدان لحميدان، عندما أصبح عاليها واطيها، وتمكَّن بعض الجاهلين والمتسلقين من الإمساك بزمام الأمور، ضاعت القضية وتاهت العامّة، وصمتت الخاصة، عندما كثُر المتسلقون والانتهازيون، كلحت الوجوه وتغيرت أخرى، وأصبح القابض على مبادئه وأخلاقه ورسالته، وأصله وهويته كالقابض على الجمر، أصبح نضالنا الوحيد، ضد العنف، غسلنا أيدينا واتهمنا الحكومة، وهذا مطلب حق وضروري، ولكننا نسينا هويتنا الثابتة، وتركناهم يلوكون بها الهواء، وذهبنا إلى النوم، وكفى الله المؤمنين شر القتال.

ألم يكن دور الأحزاب الَّتي سيطرت في الماضي على الشارع رائدًا بالنقاش والحوار والتوجيه، والندوات الثقافية والحوارية الحضارية، بالمنشور والدعوة، والتَّدخل في كلّ كبيرة وصغيرة، وإن لزم الامر التَّوجيه بالقوَّة؟ لم تكن شرطة ولم يكن عنف، ونحن لا نريدهما، فلماذا تُركت القيادات المحليّة وحيدة بالسّاحة، وغابت القيادات الحقيقية؟ حتى راح المتسلقون يبحثون عن مقاعدهم وأماكنهم في القيادة وفي الكنيست، ولم يلتفتوا إلى هؤلاء الذين حملوا الرّاية حتى ملّوا، وأنا لا أشير إلى أحد بعينه، ولكني أتكلّم عن ظاهرة يجب مراجعتها، وحساب الذَّات قبل كل شيء.   

بهت النّقاش الوطني، غابت القضايا المصيريّة، الَّتي تهم وجودنا وبقاءنا، ضاع انتماؤنا الوطني والقومي لشعبنا وقضيتنا، تاه تعريف هويَّتنا الوطنية بين الكراسي في معركة الوصول إلى الكنيست، وفي نقاشات سطحيّة، عن العنف والطحينة، ومنصور، الَّذي ترك قواعد الإسلام والمسلمين، ولحق أبو يائير، حتى أصبحت هويَّتنا الوحيدة هي الهويَّة المدنيَّة الإسرائيليّة، وقد طغت على هويتنا الفلسطينية الوطنية والقومية، فألغيَت كلّ المحظورات والممنوعات، وأصبح الانتماء تهمة، والخدمة أصبحت وطنية، والقومية أصبحت قومجيَّة، فكل شيء وجهة نظر في ظل "الديمقراطية"، فإلى أين نحن ذاهبون!  

أستشيط غضبًا بعد كلّ نشرة أخبار، وكأننا حجارة شطرنج، على لوحة نظيفة وجميلة ومرتبة، تنتظر فارسًا ذكيًا وفهلويًا لنقلها خطوة واحدة، ليعلن موت الملك، وانتهاء الّلعبة. فالفارس المُنتظر سيأتي قريبًا على حصان عربي أبيض، ليخلصنا من براثن بلوانا، من عنف وفقر وتمييز، ويَمنّ علينا بفتح مراكز شرطة، لتكون مرتعًا للمتسلّقين والانتهازيين، وبابًا لصبّ الزَّيت على النَّار بدل أن تكون حاميًا وحارسًا وأمنًا للمواطنين، ونحن على ناصية الطّريق قاعدون، ليس عندنا غير ردّ الفعل، أو البُكاء على الأمجاد الغابرة.

أيتها الأحزاب الوطنيَّة الشّريفة، أيُّها القادة القلائل الَّذين ما زالوا يقبضون على جذوة النّضال كأسلافهم، عودوا إلى قواعدكم قبل فوات الأوان، إلى جماهيركم وإلى ناسكم، إلى القيادات الحقيقيّة الموجودة على السَّاحة، فهم ملح الأرض، هم من يصنعون التَّاريخ والكرامة والأمجاد، وليس المتسلقين، والمتسلّلين من بين أصابعكم إلى الكراسي، أعيدوا للأحزاب ديمقراطيتها، أعطوا كوادركم حرية الكلمة والرأي، كي تكون سدًا منيعًا في وجوههم، أعيدوا النقاش الوطني الحضاري الإنساني إلى الواجهة ولا تستخفوا بعقول البشر، لأنَّهم هم الأذكى والأقوى والأبقى.  

يقول محمود درويش: "الهوية هي ما نورث لا ما نرث"، فدعونا نورث الأجيال القادمة، العزَّة والكرامة والوطنيّة الصَّادقة، والهويَّة الثَّابتة، لا الخيبة والذل والهوان وقلة الحيلة، والركض خلف السراب.        

(كوكب)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب