news-details

اميل توما... الرفيق

تصادف هذه الايام الذكرى المئوية لولادة الرفيق والدكتور اميل توما، المؤرخ والمناضل والرفيق.

لم يقيض لي بالمستوى الشخصي ان التقيه سوى مرتين ضمن عملنا الحزبي والسياسي في موسكو، ولكني ما زلت اذكر ذلك الشخص الرزين يقف في احد مقاهي كفر قاسم يلقي محاضرة بصوت متزن وعميق امام جمع من اهالي قريتنا عن فلسطين والامبريالية والاستعمار والصهيونية والشعوب العربية، وغيرها من مصطلحات لم تعن الكثير لفتى في مقتبل العمر حينذاك.

ولكن الذي جذبني وشدني هو ذلك الاصغاء العميق من قبل جمهور اغلبيته الساحقة من العمال، لما يقوله هذا الشخص، الذي اتضح انه الدكتور والرفيق اميل توما كما وصفه عريف هذا اللقاء الذي ما زلت اذكره جيدا وهو المناضل عمر عصفور عامر.

وتدور الايام لالتقي به مجددا في موسكو في بداية ثمانينيات القرن الماضي، هو كمندوب للمكتب السياسي ليلتقي البعثات الطلابية للحزب في الاتحاد السوفيتي وانا كعضو قيادة فرع موسكو في ذلك الحين.

هذا اللقاء ما زال مغروسا في الذاكرة بسبب الاستعداد الهائل الذي تجلى في مقدرته على الاصغاء لمجموعة من الشباب الحزبي، ومناقشته بتروي وبعمق وعلى اعلى درجات المسؤولية. 

ولكن لقائي الآخر به كان من خلال صفحات مجلة " الجديد" الادبية التي صدرت في بداياتها ملحقا ادبيا لصحيفة الاتحاد، لتستقل لاحقا كمجلة ثقافية اكثر منها ادبية، كونها كانت تصدر متضمنة المقالة التاريخية والانتاج الادبي على انواعه والدراسات التاريخية المختلفة، ومع الاصرار الملفت للنظر بأن تشمل الانتاج الادبي لمختلف شعوب العالم.

هذه الصفات والخصائل التي برزت في "الجديد" هي تعبير عن خصائص الرفيق اميل توما، الذي شغل رئيس تحريرها لسنوات طويلة، وحتى عندما انتقل الى مهمات سياسية وحزبية اخرى، كان طيفه ومقالاته فيها باستمرار.

صحيح ان الصراع الاساسي بين الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية هو على الارض وعلى الوطن الفلسطيني. وقد استطاع الرفيق اميل توما ببراعة كاملة كشف المستور عن الروابط بين الحركة الصهيونية والاستعمار وتقاطع المصالح بل وكون الحركة الصهيونية جزءا لا يتجزء من رؤية الاستعمار لفلسطين وللمنطقة العربية بشكل عام وذلك في كتابة الشامل "جذور القضية الفلسطينية ".

لكن اميل توما الوطني الفلسطيني والاممي حتى النخاع والمفكر والمؤرخ استطاع ان يصل الى ما هو مهم في مراحل الصراع كافة، اذ لا يكفي ان تناضل ميدانيا وجماهيريا وشعبيا وانما عليك ان توثق روايتك بشكل علمي ومهني ومقنع. هذه الرواية ليست فقط تاريخك وتاريخ وطنك وتاريخ شعبك - وهذا ما قام به بشكل مبدع وخلاق ومهني وعلمي من خلال مؤلفاته العديدة - وانما بايصال هذه الرواية الى اصحابها، الى الجماهير الشعبية الواسعة صاحبة الشأن الأولى في تذويت هذه الرواية.

وقد قام اميل توما بذلك باتقان وحرفية ومواظبة منقطعة النظير، أولاً، من خلال التواصل مع الناس في كل قرية ومدينة، فاحتضن العشرات من الشباب وجندهم الى جانب مشروعه الوطني وبذلك اصبح نموذجا للمثقف العضوي الحقيقي.

ثانيا، حمل الرفيق اميل توما روايته، رواية شعبه، الى العالم فكان خير سفير لقضايا شعبة في العالم، لان هذه الرؤية الشمولية والاممية هي التي ميزت عمله. وقد اولى الساحة الدولية اهتماما كبيرا كونها ساحة صراع مهمة جدا في مقارعة الحركة الصهيونية.

ثالثا : كان اميل توما امميا صادقا وقدم جهدا كبيرا في سبيل تعميق هذه الخاصية وهذه التركيبة في حزبه الشيوعي وان النضال يجب ان يكون عربيا يهوديا مشتركا من اجل التصدي بنجاح لمطامع الحركة الصهيونية المتحالفة مع الاستعمار.

رابعا : صحيح ان اميل توما أوْلى صياغة "الرواية" الفلسطينية اهتماما كبيرا معتمدا على التاريخ وقواه المحركة وعلى الوقائع والوثائق والمستندات  لكنه عمل بنجاح وبابداع على استمرار انتاج الرواية وكتابة فصولها من خلال اقامة المؤسسات الثقافية والصحافية التي تتيح مثل هذا الانتاج وهذا الابداع. فكان اول رئيس تحرير لصحيفة "الاتحاد". وكان له الدور الكبير في اقامة مجلة "الجديد" التي اصبحت حاضنة لكل حالات الابداع والانتاج الثقافي والادبي لجماهيرنا العربية الفلسطينية.

والأمر الآخر الذي رافق هذه الحالة هو احتضان الأقلام والطاقات الإبداعية ورعايتها بمسؤولية وبوعي وطني وأممي وانساني عميق، بحيث اصبحت هذه الاقلام قامات ادبية كبيرة ساهم انتاجها مساهمة حاسمة في استمرار كتابة وصياغة الرواية العربية الفلسطينية ووضعها في مسارها الوطني التقدمي الانساني الصحيح.

هذا العطاء المتنوع والكبير والعميق هو الذي يجعل من هذه القامة حاضرة حتى يومنا هذا. وما زال تأثيرها على مجريات التاريخ وحركته حاضرا حتى اليوم.

*الأمين العام للحزب الشيوعي  الاسرائيلي

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب