news-details

انتظار  مملّ - البحث عن مفقودين | دينا سليم حنحن

لودان كوكران، اسم جندي أسترالي، شارك في الحرب العالمية الأولى، بحث أقرباء له عن آثاره بعد مضي أكثر من مئة عام، فُقِد في معركة (بربر) سنة 1917 في النقب، قرب كيبوتس روحاما اليوم. شاركت القوات الأسترالية في عدة معارك عظمى إلى جانب الحلفاء.

قتل الجندي الأسترالي عن عمر 24 عاما، ودفن في المكان ذاته، انتهت المعارك بانتصار بريطانيا وبدأ الانتداب الإنجليزي، حسب إحصاء لجنة الانتداب، دفن 12179 شهيدًا في مقبرة عسكرية، حوالي 6% من جنود أنزاك أستراليا، لم يكن كوكران من بينهم، ولم يُعرف مكان دفنه، اُرسلت رسالة عسكرية إلى والدته وبعض متعلقاته، حقيبة ظهر، موس حلاقة، كتاب مقدس، جوارب، ودفتر ملاحظات، وصورة لقبره وعليه إشارة الصليب.

لم يسلّم أهل الفقيد بالأمر الواقع، وبذلوا جهدا كبيرا بحثا عن آثار ابنهم، تمت اتصالات مباشرة مع موظفة في الصندوق القومي التابع لـ كيبوتس المذكور في النقب، وبدأ البحث المضني استنادا إلى المستمسكات القليلة الموجودة، بمساعدة خبير أسترالي، استخدم جهاز الكشف عن المعادن، كشف أيضا عن بقايا خمسة جنود من الفوج الخامس، قتلوا في الوقت ذاته في منطقة تدعى، خربة أم بطيخ القريبة.

كان قد كتب الكاتب ياسر جوابرة من نابلس في كتابي الذي صدر مؤخرا "ما دوّنه الغبار" قائلا:

"يضعنا عنوان المؤلَّف أمام خطين متوازين متناقضين، "التدوين" الذي يعني الديمومة والتوثيق، و "الغبار" يشير إلى التلاشي والزّوال، وكأني بالكاتبة أرادت القول بأن الحكاية سيرويها من تبقى من الراحلين، ومما علق في الذاكرة التي تأبى النسيان، هناك رواية ينبغي أن تسرد ولو كانت بفعل الغبار، وأظن أن لوحة الغلاف موفقة إلى حد ما، في استنطاق النص، وتهيئة المتلقي، لفعل البوح عن طريق الاستذكار، أو الاستدعاء الذي يسمح للمخيلة بالانسياب، وسأرى ما دوّنته الدواة، وما خطّ على الغبار".

أستاذ جوابرة، دوّنت الدواة فصولا متتالية حول جدي رشدي المفقود، صفحات كثيرة تحكي عنه، وللأسف اعتدنا جميعا انتظار عودته، وصار الانتظار بالنسبة لنا الأمل الوحيد الذي نحيا من أجله، أقصد جدتي جميلة، زوجته، وبناته، ونحن الأحفاد، لكن، بعد أن قرأتُ مذكرات، وسير الضباط اليهود الذين أخضعوا مدينة اللد وأسقطوها، حتى أدرج في كتابي الأحداث الحقيقية التي حصلت، استغرق التدوين أكثر من سبع سنوات، لكن الفكرة كانت قديمة جدا. أظن بعد اطلاعي على ما نشر باللغة العبرية، خرجتُ بفرضيات زادت من حيرتي، أن يكون رشدي قد دفن في الخندق ذاته حيًا أو ميتًا، خطيرة الفرضية، ويلزمها البحث، والتنقيب من جديد، لكن لا براهين ملموسة!

لم نجد له أثرا طبعا، اختفى جدي رشدي بلمح البصر، غاب بين الغبار المتناثر، وإن أردنا افتراض المكان الذي اختفي فيه، لن نستطيع البحث عنه حتى لو استخدمنا أدوات حديثة، استلم اليهود البلد، ومسدّت الطريق، وأصبح المكان من أهم الطرق التي تؤدي إلى المدينة المقدسة، هناك اندلعت حرب شرسة بين العصابات اليهودية، وبين الذين دافعوا عن المدينة بأرواحهم، معركة حامية في منطقة تدعى (الاسم)، لم يُكتب عنها (حسب ما قرأته من ملفات وكتب عن سقوط مدينة اللد)، لأنها حصلت عندما فرغت مدن المركز الرئيسية الثلاث، اللد، الرملة، يافا، من الناس وشهود العيان.

ماذا حصل في آخر ساعة قبل الانكسار؟ حتى لا تستطيع مركبات اليهود الثقيلة العبور من الرملة إلى اللد، شق المقاومون الأرض وحفروا خندقا، نوع من التصدي، لكن بعد أن سيطرت العصابات اليهودية، هرب الجنود العرب والمجاهدين، وتحوّل خندق التصدي إلى مقبرة جماعية ودفن فيها المدنيين، (ص 122)، أما الذين سقطوا من اليهود، فقد شيدّت لهم المقابر العسكرية المرتبة.

استطاع عم الجندي الأسترالي كوكران، إيجاد أثر ابن أخيه الذي فقد بعد أكثر من مئة عام، كان الجندي قد خرج مع وحدة الفرسان من أداليد الأسترالية إلى أفريقيا سنة 1947. في السنة ذاتها، خرج فيها جدي رشدي من القاهرة، في آخر رحلة له، كان سائق قطار، ولم يعد إلى مصر من بعدها، ظنت العائلة إنه التجأ إليها، واحدة من الفرضيات، لا يفعلها تاركا خلفه زوجة حامل وبناته الأربعة، كان رجلا مسؤولا، وكان وما يزال إضراب القطارات ساري المفعول قبل سقوط فلسطين بسنة، وأجمعت جميع الأدلة الرسمية أنه غادر في السنة المذكورة.

في اليوم الأول لسقوط مدينة اللد 1948. خرج جدي رشدي من بيته وقصد منطقة (الاسم)، بحثا عن معين يعينه على حمل الأمتعة، والهرب بعائلته الكبيرة إلى رام الله، لكنه لم يعد نهائيا، (تفاصيل أوفى في صفحات الكتاب).

"حصلت معركة حامية الوطيس بين الطرفين، وقتل فيها عدد كبير من المواطنين، في اليوم ذاته الذي حصل فيه الاشتباك، تجمّع الأهالي في مكان الاشتباك، ربطت المنطقة بين المدينتين، وصلها المواطنون للاستفهام عن وسيلة النقل التي تساعدهم في النزوح. احتوت منطقة الاسم، مركز الصليب الأحمر وبناية مركز القيادة الأردني، والمنطقة بالنسبة لهم مكان أمين، أمّا بالنسبة لليهود فاعتُبرت أكثر المناطق خطورة وصعوبة في اخضاعها. بعد أن أخضع اليهود مدينة الرّملة القريبة، ألزموا المواطنين العرب بتنظيف منطقة الاسم من المتاريس، وإزالة التحصينات حتى يتسنى لمركباتهم العبور من جهة الجنوب والاستيلاء على المدينة. بعد يومين من السقوط، واستشهاد بشهادة أحد المناضلين، ويدعى سعيد العكّش، وقام مع الشباب بدفن الجثث في مقبرة جماعية، ولأن للخيبة والأسى أذرع طويلة أيضا، تمّ دفن الجرحى في الخندق ذاته أيضا. قال العكّش

  • استغاث الأحياء من تحت التّراب، لكن لم يُستجب لهم، صوّبَ اليهود البنادق تهديدًا فوق رؤوسنا حتى نسرع في عملية الدّفن، والبلوى الكبرى هي أننا لم ننقذ أحدًا!" ما دوّنه الغبار"، (ص 123.)

لم تتسلم جدتي رفات جدي، ولا شهادة وفاته، ولا شيء من أثره، وتسجل في النفوس (مفقود)، تهجّرت الأسرة، وخسرت العائلة بيتها وأملاكها، ولم يبق أي أثر يدلّ على الرجل، سوى ما دونته في هذه الصفحات!

 

(الصورة: اللد قبل النكبة)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب