news-details

بين الحقيقة والنظرية - البابليون، خسوف القمر والكورونا

أتطرّق في هذا المقال الصغير إلى سؤال هامّ يتعلّق بكيفيّة فهمنا للواقع حولنا. ستكون الأمثلة الأساسيّة التي استحضرها مستقاة من أزمة الكورونا والنظريّات العجيبة التي يتناولها الناس لتفسيرها. لكنّي في البداية استذكر قصّة من تاريخ إمبراطورية بابل القديمة، أستعين بها لإيضاح بعض النقاط.

كان لخسوف القمر أهميّة كبيرة في الحضارات البابليّة والآشوريّة القديمة، إذ كانت الناس تؤمن أنها تعبّر عن غضب الآلهة منهم، وبالذات من مَلِكهم. لهذا كانوا يُعدمون الملك ويقدّمونه تضحيةً للآلهة عند حدوث الخسوف، لعلّ ذلك يرضي الآلهة فتكفّ غضبها عنهم. لكن في حوالي القرن الخامس أو السادس قبل الميلاد، قام فلكيو بابل باكتشاف عظيم، وهو أن خسوف القمر يتكرّر كل 18 عامًا و11 يوما و8 ساعات تقريبا. تُعرف هذه الدورة في علم الفلك باسم دورة ساروس. 

قد يظهر اكتشاف دورة ساروس كشيء بسيط لأول وهلة، لكنه في الحقيقة تطلب رصدًا شديد الدقّة لحركة القمر نتج عنه قياس طول الشهر القمريّ. فعلى سبيل المثال، استطاع الفلكي نابو-ريمانو أن يقيس طول الشهر القمريّ بدقة مذهلة، حيث توصل إلى أنّ طوله 29.530641 يومًا، بينما القياس الحديث يعطينا الطول 29.530589 يوما (أي بفارق أقل من خمس ثواني). هذه المعطيات عن طول الشهر القمري ودورة ساروس، إضافة إلى عدة اكتشافات من هذا النوع، مهّدت الطريق أمام البابليين إلى وضع تقويم متكامل كان له تأثير كبير في العالم القديم. وهذا يعني أن البابليّين كانوا أول من اكتشف نظرية علميّة ذات طابع رياضي، لها جمال وقوّة هائلان، وذلك قبل أيّ حضارة أخرى بقرون عديدة.  

شكّلت دورة ساروس دليلًا واضحًا على أنّ خسوف القمر يتبع دورة ثابتة طبيعية، وأنّ غضب الآلهة أو رضاها ليس له أية علاقة بها. لكن هذا الدليل القاطع لم يغيّر إيمان الناس، ولم يقنعهم بأنْ لا دخل للآلهة بخسوف القمر الذي كان سوف يحدث بغضّ النظر عمّا إذا كانت هذه الآلهة غاضبة أم راضية. من المفارقة في الأمر أن الناس أصبحوا يستعملون دورة ساروس لحساب موعد الخسوف القادم لكي يبدلوا الملك بشخص آخر من الممكن الاستغناء عنه (مجرم قابع في السجن مثلا). حيث يرسمون هذا الشخص ملكًا عليهم ليقوموا بإعدامه مباشرة بعد حدوث الخسوف وذلك لاسترضاء الآلهة، ومن ثم يعيدون الملك الأصلي إلى عرشه. 

 تُجسّد هذه الحادثة التاريخيّة التناقض الذي يواجهه الناس في كثير من الأحيان بين معتقداتهم وقناعتهم من جهة والحقائق الموضوعيّة من جهة أخرى. لكن إذا تمعنّا فيها، نجد أنّ تفاصيل القصّة تقول لنا أكثر بكثير من مجرّد هذا التناقض. الشيء الأول الذي نتعلّمه منها هو أنّ المعرفة العلميّة هي حاجة ماسّة في كلّ المجتمعات، وأنّ الذي يفصل بين المجتمعات المتقدّمة والمجتمعات المتأخّرة هو الدافع لدى الأولى بالسيطرة على مصيرها، وفي فهمها أنّ أحد أهم الأدوات للسيطرة على هذا المصير هو المعرفة العلمية. وهذا يذكرنا بما نحياه الآن، إذ لا يختلف اثنان على أنّ الطريقة الأساسيّة لمحاربة الكورونا هي المعرفة العلميّة حول هذا الفيروس (مبناه، كيفية انتشاره، طرق تخفيف العدوى به، وإيجاد تطعيم أو دواء له). لهذا لا يوجد مجتمع أو دولة لا تحتاج إلى هذه المعرفة العلميّة الصرفة الآن. لكن ليس بمقدور كلّ مجتمع أو دولة إنتاج مثل هذه المعرفة. فهناك دول تنتج مثل هذه المعرفة، وهناك دول، مثل دولنا العربية للأسف، تنتظر أن يجد غيرها الحلّ لكي تتبعه.

العبرة الثانية البارزة في قصّة دورة ساروس هو أنّه من الصعب جدًّا تغيير معتقدات الناس حتى حين نواجههم بالحقائق الدامغة التي تناقض هذه المعتقدات. بعد اكتشاف دورة ساروس، كان الاستنتاج المنطقيّ من ورائه أنّه لا توجد علاقة ما بين الخسوف والآلهة، لكن هذا لم يحدث، بل بقي البابليون على إيمانهم بأنّ الخسوف يدلّ على غضب الآلهة. هذا في الحقيقة يميز الغالبية الساحقة من الناس، لا البابليين القدماء فحسب، إذ هم عادة لا يغيّرون معتقداتهم وآراءهم أمام الحقائق والدلائل، بل ببساطة يتجاهلون هذه الدلائل.

نرى هذه الظاهرة بوضوح في سياق جائحة الكورونا. مثلا، هناك اعتقاد عند الكثير من الناس أنّ المرض هو نتيجة مؤامرة، وهذا ينبع جزئيًّا من شعور عميق لدى الناس بأنّ المؤامرات تحيطهم في كلّ مكان. فهي إمّا مؤامرة أمريكيّة لضرب الاقتصاد الصينيّ، أو صهيونيّة لضرب إيران، أو صينيّة لضرب أمريكا، أو مؤامرة من قبل شركات الأدوية لتسويق تطعيم ضدّ مرض لا نعرف عنه شيئًا تقريبًا، وإلى ما ذلك من نظريّات عجيبة كلّ واحدة أغرب من سابقتها. لكن في المقابل أيضا، في كلّ مرة نفحص فيها الحقائق المتعلّقة بالمرض وانتشاره، تدحض المعطيات هذه النظريات. لكن للأسف هذا لا يساعد، لأنّ هذا الوباء في أعين الكثيرين لا يمكن أن يكون إلا مؤامرة، ولتذهب الحقائق إلى الجحيم.

لا أنكر طبعًا أنّ هناك مؤامرات مختلفة تحدث في إطار السياسة الدوليّة أو المحليّة أو غيرها من مجالات الفعاليّات الإنسانيّة التي تتضارب بها مصالح الناس. فمثلا لا شكّ أنّ صفقة القرن مؤامرة تهدف إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة، أو أنّ العدوان الثلاثيّ على مصر عبد الناصر عام 1956 كان مؤامرة (لدينا وثيقة واضحة تثبت ذلك)، وإلخ... لكنّ للمؤامرة شروطًا أهمّها ليس فقط أنّ لأصحاب المؤامرة هدفًا واضحًا، بل أنّهم كذلك يستطيعون السيطرة على، أو على الأقلّ توقّع، سيرورة الأمور بشكل واضح بحيث يصلون إلى هدفهم المنشود. في حالة وباء الكورونا لا يستطيع أحد أن يتنبّأ ماذا سوف يحصل في نهاية المطاف، وبالذات تأثير هذه الجائحة على الاقتصاد العالميّ وعلى المبنى الاجتماعيّ والسياسيّ في كلّ الدول. ردود فعل الدول، المرتبكة غالبًا، هي الدليل الأكبر على ذلك.

مصدر هذا الفيروس هو على الأرجح طبيعي، هكذا تشير أغلب الدلائل، إذ أنه من عائلة فيروسات التاجيّة الموجودة في الطبيعة، مثل فيروس الـSARS-CoV الذي ضرب الصين في أوائل سنوات الألفين ومصدره ربما خفاش حدوة الفرس. وحتى إذا كان هناك احتمال ضئيل جدًّا بأنّ أحدًا ما أنتج الفيروس مختبريًا (أنا لا أعتقد ذلك بتاتا)، ومن ثم وضعه عمدًا أو سهوًا في سوق مدينة ووهان الصينية في نهاية عام 2019، فهذا يجعل سبب الوباء إهمالًا أو عملًا إجراميًّا، لكن ليس مؤامرة. لأنّ المؤامرة، كما ذكرت سابقًا، تتطلب أن يملك المتآمرون قدرة السيطرة على، أو توقُّع، سيرورة الأمور ومجريات الأحداث لضمان نجاح مآربهم، وهذا غير قائم أبدا في حالة الوباء الحالي.
للأسف، وكما ذكرت سابقًا، هناك جزء من الناس الذين لا تُبلبلهم الحقائق أو التحليلات المنطقية، فهم يعلمون بواسطة "قواهم الخارقة" أنّ هذه الجائحة هي نتيجة مؤامرة لا شكّ فيها. أية مؤامرة؟ هذا السؤال ليس مهمًّا، المهم أنها مؤامرة، ولتحترق الحقائق وليمُت المنطق.

انتقل الآن إلى الموضوع الآخر الذي تتناوله قصة دورة ساروس والبابليين، وهو ما فعله الناس عندما علموا بهذه الدورة. يحتاج هذا إلى تحليل أكثر دقة وإلى التمييز بين جانبين. الجانب الأول هو أن الناس كانت على استعداد لقبول الجانب العملي من الاكتشاف الجديد بشرط ألّا يمسّ هذا إيمانهم ومعتقداتهم كثيرًا. فهم على استعداد أن يتقبّلوا مثلًا أنّ الآلهة ليس غاضبة على تصرفات مَلِكِهم، بل هي غاضبة على الشخص الذي يعبّئ كرسيّ الملك عند الخسوف، بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا هو الملك الحقيقي أم لا. نستطيع بسهولة أن نتخيّل كيف من الممكن إقناع الناس بذلك، على الرغم من أنهم لو فكروا قليلا لَأدركوا أن قبولهم لتبديل الملك يعني أن آلهتهم حمقاء لا تستطيع التمييز بين الملك الحقيقي والملك البديل.

قبول الجانب العلمي بشكل جزئيّ هو أيضا ما نراه في التعامل مع وباء الكورونا. على سبيل المثال، هناك الكثيرون ممّن يعتقدون أنّ وباء الكورونا جاء ليعبّر عن غضب ربانيّ لا بدّ منه (بعضهم حتى ادّعى أنه غضب رباني على الصين، لكنهم تجاهلوا ماذا سيفعل هذا الوباء في مجتمعاتهم حين يصل إليها)، لكن هذا لا يمنعهم مثلا من الانصياع لنصائح العلماء بضرورة الحجر الصحي والابتعاد الاجتماعي. أي أنهم يقبلون الفهم العلمي ما دام هذا الفهم لا يتناقض مع معتقداتهم. 

الجانب الثاني الذي أودّ أن أشير إليه هو أن هناك من استغل المعرفة التي وفرتها دورة ساروس، ألا وهو الملك الحقيقي. فقد أقنع هذا الملك الناس أن عليهم أن يُبقوه في سدّة الحكم وأن كل ما عليهم فعله هو أن يستبدلوه لبضعة أيام، حتى يأتي الخسوف ويأخذ معه الملك البديل. هذا أيضا يحدث في زمن الكورونا، فهناك من يستغلّ الأزمة ويحسن أوضاعه، أو ليخدم برنامج ورؤية سياسية أو اقتصادية معينة. وهنا أيضا يجب أن نُفرّق بين من تأتيه الأزمة بفرصة لتحسين أوضاعه لمجرد أنّ لديه ما تحتاجه الناس خلال هذه الأزمة. على سبيل المثال الشركات التي تصنع الكمامات، أو مواد تطهير اليدين، أو تلك التي توفر وسائل اتّصال سهلة عن طريق الإنترنت (مثل شركة Zoom).

ولكن أيضا هناك من يستغلّ الأزمة ليفرض قواعد لعبة جديدة تخدم مصالح معيّنة وتضرّ بالغالبيّة العظمى من الناس. على سبيل المثال، استعمال وسائل الإلكترونّية، مثل التليفونات الخلويّة، لمراقبة المواطنين كما قرّرت دولة إسرائيل أن تفعل، حري بأن يثير الرعب في قلوبنا جميعًا. وممّا لا أشكّ فيه أنّ النخب الحاكمة في أغلب الدول، وبالذات الدولة الرأسمالية الشرسة، سوف تستغل كلّ قطرة توفّرها لها هذه الأزمة بشكل بشع، لكن هذا لا يتعلّق بموضوع العلاقة بين الحقيقة والنظرية وسأتناوله في موقع آخر.

ذكرت في بداية هذا المقال أنّ عند التناقض بين الحقائق الموضوعية والمعتقدات يكون المنتصر دائما الحقيقة الموضوعية (كما في قصة دورة ساروس). ما يميز الطبيعة وقوانينها أنها لا تحسب حساب معتقداتنا ولا مواقفنا الدينية والفكرية والسياسية. برز هذا في مواقف بعض القيادات الغربية المتطرفة مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون اللذين ارتأيا أن الحفاظ على الاقتصاد هو أهم ما يجب فعله، أما فيروس الكورونا فمن الممكن تجاهله أو تحمّل نتائجه. فقد وقف بوريس جونسون أمام شعبه وطلب منهم وداع أحبائهم (قصد المسنين، على أغلب الظنّ)، هذه الموقف الذي يقرّر فيه زعيم دولة من أغنى دول العالم أن يتنازل مسبقًا عن حياة سكان دولته المسنّين، لأن الاقتصاد بالنسبة له أهمّ من حياتهم، هو موقف مرعب وإجراميّ. كذلك الأمر بالنسبة لموقف الرئيس الأمريكي المعتوه الذي رفض أن يقبل في البداية أن المرض وباء جديّ سوف يقضي على حياة الكثيرين ونصح شعبه بالسفر في الطائرات والقيام بالأعمال العاديّة لأن الكورونا "مجرد انفلونزا".

كذلك الأمر لا تأخذ الطبيعة بعين الاعتبار ما إذا كان الشخص يصلّي كثيرًا أم قليلًا، أو يتبع لهذا الدين أو ذاك، فالفيروس، إن اقتربت منه، لن يتعامل معك بشكل مميز عن باقي البشر. فقد سمعنا مثلا عن نصائح الكاهن القبطي الذي طلب من رعيّته أن تلزم بيوتها وتتوقّف عن الاقتراب من بعضها البعض، لكنه أصرّ على أنّ هذا لا ينطبق على يوم الأحد والصلاة في الكنيسة لأن الله يحميهم خلالها. مثل هذه المواقف، وهي للأسف كثيرة، تعكس مدى الجهل العميق في كيفيّة عمل الطبيعة، يبرز هذا الجهل عندما يضع أمثال هذا الكاهن معتقداتهم فوق ما يقوله العلم وفوق دروس الواقع المرير وبالتالي يشكلّون خطرًا على الرعيّة التي تثق بهم وتصدّقهم. أو في موقف ذلك الشيخ الذي يدّعي أنّ الكورونا أتت عقابًا للصينيين على معاملتهم للأقليّة المسلمة فيها. أين هذا اليوم الادّعاء بعد أن تفشّى المرض في الدول العربية؟ من الأفضل أنّ لا نُقحم الله في هذا الفيروس لأنّه إذا كان هذا من فعل الله فمن الصعب أن نفهم كيف يسمح إله رحيم ومحبّ لوباء كهذا أن يقتل الناس من غير تمييز، وبالذات الفئة المسنّة منه التي هي أكثر فئة إيمانًا.  مثل هؤلاء لا يختلفون بقيد أنملة عن البابليّين الذي رفضوا الحقيقة البسيطة أنّ الخسوف لا علاقة له بآلهتهم.

هناك ادّعاءات أخرى كثيرة تناقلها الناس تُبيّن أغلبها الجهل العميق الذي يعيشه بعض الناس فيما يتعلّق 

بالتفسيرات العلميّة وكيف نصل إليها. هذا للأسف يعكس حالة يعيشها البشر منذ مدّة كبيرة وهي حالة رفض العلم والاستنتاجات العلميّة. فنحن نعيش في العقود الأخيرة في جوٍّ واضح من انحسار العقلانيّة والتشبّث بالغيبيات والشائعات والتفسيرات السطحيّة ورفض العلم والحقائق في كلّ ما يدور حولنا. وما فعله هذا الوباء أنّه كشف لنا بشكل مأساويّ عمق هذه الحالة التي نعيشها، فلسنا نحن فقط في هذه المنطقة المنكوبة بالجهل من العالم، وإنّما هو الحال في كلّ مكان. لعلّ هذه النكبة بالرغم من مآسيها تذكّر البشريّة مجددًّا أنّ المعرفة هي أهمّ أدواتنا التي نشكّل بها مستقبلنا، كما لعلّها تعلّمنا من جديد أنّ العقل والمنطق والحقائق الموضوعيّة هي الأساس المتين الذي نبني عليه معتقداتنا وأفكارنا، وليس العكس. فالويل لنا إذا لم نتعلّم الدروس الصحيحة من هذه المأساة. 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب