news-details

تجلّيات الصورة الشعرية في ديوان: "فاكهة الندم"  للشاعر عبد الناصر صالح | جمال موسى بركات

 قليلٌ من الشعراء المبدعين، من جيل النكبة الفلسطينية، وصلوا بإبداعهم درجةَ التَّماهي المُميَّز بين العامّ والخاص؛ فالخاصّ لسانٌ يصدح بهموم العام، والعام اندماجٌ عضويٌ مهمٌ بالخاص، وأصحاب هذه المدرسة الشعرية كثيرون، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الشعراء: محمود درويش، سميح القاسم، كمال ناصر، معين بسيسو، فدوى طوقان، المتوكل طه وعبد الناصر صالح.

    ولعلَّ اختيار عنوان الديوان " فاكهة الندم " خير اختيار، لأن العنوان يلقي بإيحاءاتِ مَعناه على معظم القصائد، ويشكل حبلاً متيناً يربط بين تلك القصائد بكاملها.

    إنه اختيارٌ موفّق، لأنّ القصائد تنتقل بين الحلم والواقع، وما بين اليأس والأمل، وما بين مرحلة الثورة ـ الإنتفاضة، والبناء المتعثّر للدولة، بفعل ضغوطِ الجغرافيا الناقصة، وبتأثير السياسةِ الدوليّةِ المنبثقة عن حقٍّ يُراد به باطلاً.

    إنه اختيارٌ موفق، يتراوح ما بين عزيمةِ العمل وإحباطِ النتائجِ المفروضةِ بظلم الواقع الجديد، المُفرَزِ من قوّةٍ وحيدةٍ ترسم الخارطة الجديدة للكون حسب مزاجها وأهوائها.

    إنه اختيارٌ موفق، لأنه تأمّلٌ دقيقٌ لأحداثِ الذاكرةِ ما بين مرحلتيْن متناقِضَتَيْن متقارِبَتَيْن، يتنقّل بينهما النقد البنّاء للذات ممتزجاً مع تأمّلاتِ أحداثِ الماضي والحاضر والرؤى العطشى المتطلّعة إلى تخوم المستقبل القريب البعيد.

    إنه فاكهةٌ شعريّةٌ نادمة على سببٍ لم يحقّق النتيجةَ المشتهاة، وعلى طموحاتٍ صادقةٍ اصطدمت بجدار الواقع العنيد. أما النقطة الأخيرة المهمة في الديوان، فهي غوص السياسة في بحر الأدب؛ فهو أدبٌ تفوح منه نكهة السياسة وهمُّ القضية، وهو سياسة تندمج في واحة الأدب الذي يَمورُ بطعمِ السياسةِ المتقلِّبِ ما بين فاكهةٍ حُلوةٍ في الأحلام، وأخرى مُرّةٍ كالعلقم في الواقع المعاصر المعاش.

    وبعد هذه النظرة الشاملة لا بدَّ من تحليل القصائد من النواحي التالية:

  • المضمون.

  • اللغة الشعرية.

  • الصورة الشعرية ـ الخيال.

  • الأسطورة.

  • تماس القصيدة بالواقع والصدق الفني.


 

قراءة في قصيدة "جذع قديم على حجر"

 

    تصوِّر القصيدة حركة الواقع المستمرّ، في فعله، من خلال استخدام أسماء الإشارة: " هكذا "، واستخدام الأفعال المضارعة: " ينكسر، تشرق، يتبخّر، يرسم، يهبط "، وهو واقعٌ مؤلمٌ حزينٌ تحتشد فيه صورٌ ومشاهدُ مؤلمة، حين يبدأ هذا الواقع بالشجن المر الذي تتطاير في أجوائه ملامح الظمأ للحلم، كالورق المتعطّن، والذي يتبخَّر في فضائه الوهمُ المتمادي بألوانه.

    إنه واقعٌ مؤلمٌ تُلقي فيه المدن الأريحيّة خلاخيلها بالرمل، والعبارة تشعُّ بإيحاءاتٍ خفيةٍ تجسيمية؛ فالمدن الأريحيّةُ فتاةٌ جميلةٌ تُلقي بأعزّ ما تملكه في الرمل، والخلاخيل، هنا، الإرث النضاليّ الثوريّ، والعهد الذي شَفَعه القَسَم على المُضيّ في الطريق حتى الدولة والقدس.

    إنه واقعٌ مؤلمٌ ينداح فيه ورق الجمر، فيملأ غربتنا النفسيّة والمكانيّة والمعنويّة.

    إنه واقعٌ مفعمٌ بالعطش، يقف فيه العطش للحلم لا للماء رساماً ماهراً يرسم أقواس الحزن، وهو واقعٌ مرير يتجمّد فيه الليل كما يتجمّد الثلج، ويجثم على صدورنا ببرودةٍ ثقيلةٍ لا تقبل الذوَبان.

    واقعٌ يثمر ثماراً غضّةً، تسقط منه الثمار الغضة عَنْ شجر الضوء، رمز السواعد المضيئة الخيّرة، إننا نقف أمام مفترقِ طرقٍ يُبرز مفارقةً حزينةً نَفَذَت بها رؤى الشاعر إلى شجر الضوء التي اعتاد رؤيته سنداً وأملاً أورثَهُ المدى جمرة الثورةِ المستعِرة في عطرِ أيامنا الخالية.

    إنه يحاور شجر الضوء في صورةٍ إنسانيةٍ رمزيّةٍ حية، ويدخل معها في مونولوجٍ داخليّ.

    كنا وحيديْنِ نعشق أغنية في أعالي الجبال، نكتب عن الحياة الحرّةِ، وقد رمز لها بوردةٍ تتسلّق نافذةَ الشمس. إنه ينحاز للجوانب المشرقة المضيئة في شجر الضوء ويخاطب عصفورةَ الماء ليجتثَّ جذر الكآبة، إنه وعشيقته يتغنّيان بالمطر " رمز الخصب والحياة المفقودة المأمولة ".

    إنه يحزن عندما يجد نفسه يطلّ على واقعٍ مؤلمٍ قد فَصَله عن واقعه المثالي، ولهذا، كلّه، يبدأ الحزن على الماضي القريب البعيد عن الحلم، لأنه انتهى بواقع متعثّر الحركة، محدودِ النتيجة نحو الحلم، ولهذا فإنه، وواقعه القديم المأمول، يقفان وحيديْنِِ وحيديْنِ وحيديْنِ.


 

"مرحباً أيّها النيل"

 

     النيلُ والفراتُ ودجلةُ: أنهارٌ رمزيّةٌ للحياة الأولى، والتراث الأول لحكاية الإنسان مع الحياة في قلب العالم القديم، وكان الشاعر موفَّقاً عندما خاطب النيل خطاباً يصوّر كل ما يمثّله النيل من رموزٍ ودلالات.

    إنه يخاطب النيل التراث والتاريخ، ويخاطب النيل قلباً نابضاً للأمة، وبما يمثله من دورٍ رياديٍّ لمصر العروبة على الساحةِ العربية منذ الماضي السحيق، وحتى التاريخ العربي المعاصر.

    إنّه يتحدّث، وكأنه يقف أمام النيل بعظمتِه وسرمديَِّته، وعندما يقف أمامه يصبح جسدُه مرتعاً للصهيل، معادل الشعر الحماسيّ الرنّان المفعم بحب النيل، المكان، التاريخ والشعب.

    ويصور الشاعر حبَّه قلائد من أغنياتٍ تتساقط بمطرها الأرجوانيّ. إنه يرى النيل، تاريخاً وشعباً وموقفاً أصيلاً، ينحاز إليه الشاعر كما ينحاز النهر ـ الشعب العريق للقضية الفلسطينية وانحيازُه الأصيل يُعرّي الصراخَ المعلَّبَ من أفواه خفافيش الظلام، إنه يلمح النيل، ويتخيله بكافة مدلولاته الرمزية والوطنية والتاريخية، شهوةً للأرض، وموسماً مُرتجىً، وملكاً ورفيقاً للدمّ في الفصول الجديبة.
 

"عنوانها الماء"

 

    تتكوّن القصيدة من أقانيمَ ثلاثةٍ: الشعب، الأرض والأحداث الجارية عليها في فترة كتابة قصائد الديوان. والأقانيم الثلاثة المذكورة أعلاه هي ما تمثّله عبارة: الجسد ـ النهر.

    وفي الجسد النهر، تمثّل الطحالب الاحتلال ورموزه من التبعيّين     وأصحاب الطابور الخامس من أبناء هذا الوطن الذين لا همَّ لهم سوى التطفّل عليه وعلى منجزاته الفريدة على مرّ التاريخ.

    والقصيدة تحتوي على تساؤلاتٍ عفويّةٍ مقصودة يُطلقها الشاعر ويجيب عليها، لتعبّر عن حَدَس رؤيته الشعرية للواقع كما يتمناه ويحلم به.

    إن الطحالب في القصيدة لها دور سلبيٌّ هدّام، دورٌ مخربٌ يبني خرائبَه على ضفافِ جسد الشعب ـ الوطن ـ الأحداث، بينما تمثل الضفادع رجاله المسافرين في الماء من أجل الوصول إليه، تسافر وتؤوب إليه من أجل الحفاظ على سلالتها من غبارِ الشّتات وغموض الزوارق " كناية عن الزوارق المعادية" ولفح الحرائق.

    يسأل الشاعر عن مَهمّة الضفادع والطحالب؛ فإذا كانت الطحالب تستوطن وتدمّر، فإن الضفادع تترك حبرَها الدمويَّ كنايةً عن كتابةِ تاريخ نضالها المُرّ بالدم والتضحيات.

    ويسأل الشاعر عن مراد النواميس والمفردات والحجارة والكائنات في هذه المعادلة المتكونة من الوطن ـ الشعب ونهر الأحداث الجارية فيه.

    إنه سَفَرٌ متواصلٌ يبتغي تلمُّس جوهر الجسد المتوقّد والتعرف على كُنْهِ جواهرِهِ العائمةِ في بحر الوطن، إنه المغناطيس الذي يجذب الطيور الوفيّةَ من أبناء الوطن، من خلال قوانين نواميس الطبيعة السرمديّة الطافية على سطح كينونة الدهر، فهي تنجذب إليه لتَروي جفاف حُشاشتِها، عائدةً إليه كما يعود الطفل لصدر أمّهِ الأرض، ورؤية الشاعر تنبلج صافيةً من خلال حوارٍ ساخنٍ مع الجسد النهر.

    كيف تقاوم خوفك من صَخَب النبع، رمز التغييرات المتواصلة التي يحدثها الأعداء والظروف الظالمة، ويسأله كيف تُبَرْعِمُ العيون في واحة الانبثاق الجميل كواكبَ دفلى يُنَمْنِمُها شَدْوُه العبقريّ، ويوقد الفرحة كناية عن تأجيج الفرحة إلى غاية منتهاها.

    ويأتي الختامُ انبلاجاً صافياً للرؤية الشعرية عبر دعوته للسنابل، " أبناء الوطن الخيّرين " أن تتلاقحَ سيقانُها ليتكاثرَ العطاء والبناء والخير من أجل تزاوج واندماج عطائها حتى تُعطي للتضاريس ألوانها الحقيقية الزاهية، وحتى يكون للخرائط رائحةُ الزهر، عندما تصبح خرائط كاملة تُرضي الحلم والتراث وشهوة الاستقلال الحقيقي، متناسقةً مع الحلم الذي يصبو إليه الشعب، أما الخرائط الناقصة فلا تجد لها معادلاً سوى حرقة العندليب " دلالة على حزن شعراء الوطن وفنانيه ".

    والخرائط صورة تنزاح أبعادُها للوطن كما نرجوه، وكما تحلُم به الأجيال.


"البَوْح"

 

    جاءت قصيدةُ البَوْح على أثر أوّلِ انتشارٍ للشرطةِ الفلسطينيّةِ هديةً ومشاعر ترحيبية قدّمها الشاعر لها. فهي بوحٌ عن فرح المشاعر واندماجها مع تلك اللحظات المؤشرة على بداية تأسيس صرح الحلم والدولة؛ فالصباح الذي يبدأ الآن يشيرُ بانحراف فني للجملة عن معناها اللغوي، فهي تعني مشروع السلام المُكَلَّل بعودة قوات الأمن والشرطة.

    إنه شاعرٌ يتأثر بالتجربة ويرحّب بالصباح والسنابلِ والعشبِ والجبالِ المتعمِّدةِ بالنوارس " الطيور الفلسطينية العائدة لرحاب الوطن ".

    ومن خلال القصيدة يطلق الشاعر كلَّ التحايا لها، وفي غمرة الفرحة العارمة لا ينسى الشاعر المرأة التي توّجته مليكاً على عرشها في يوم من الأيام، ألا وهي الثورة ـ القضية ـ الوطن، وما زالت المعادلة معها خالدةً كالعهد.

    وفي غمرة الفرحة، يطلق الشاعر مشاعرَ ترحيبّية بالفقراء: عجين النضال ووقود الثورة، والصورةُ الحقيقيّةُ لعطرِ الأرض وشذى الشارع وصوت الجماهير. وفي غمرةِ الفرحةِ العارمة، يستذكرَ الشهداء، أولئك الذين توضّأت الأرضُ من دمهم فغدوا شجر الكبرياء.

    وفي ظل الفرحة العارمة، يتجدّد أمل الشاعر وعزمه ويتّقد خياله ليطلّ علينا بصورٍ جميلةٍ مبتكرةٍ حين نراه يحرثُ الصمت ويمتشقُ الريح وينبش ذاكرة العطاء " الغيم " حتى ينبلج الصبح " رمز الحرية والأمل " وينبلج الماء "معادل الحياة " ليؤكدّ، مرة أخرى، تجليّاته وحبه للبلاد التي التهَمتْه وريداً وريداً.


"السندباد يكشف عري العواصم"

 

    يعبر الشاعر عن رؤاه الشعرية في القصيدة من خلال محاورةٍ ساخنةٍ مع أحد الرموز التراثية المُضفاة على شخصيةٍ سياسيةٍ مهمّة، وذاكرةٍ جماعيةٍ خالدة للشعب الفلسطيني؛ إنه الرئيس الشهيد ياسر عرفات، أما السندباد ـ الرمز التاريخي الأسطوري القديم ـ فهو رجلٌ مغامرٌ اتخذ من البحر حياةً مغامرة طاف خلالها في الماء بحثاً عن جُزرٍ آمنة وملاذٍ آمن، ولما كان الرئيس الراحل أبو عمار سندبادنا البريّ والبحريّ والجويّ حيناً من الدهر؛ فإن اطلاق رمز السندباد عليه خطوةٌ موفقةٌ تماماً، ومضمون القصيدة محاوراتٌ عاطفية وسياسية ووجدانية مع الرئيس الراحل من خلال رمز السندباد، وإجابات على هذه الأسئلة ليشكل، من هذه وتلك، رؤيةً شعرية واضحة. فالسندباد " ينشد الفرح، ويتقاطر وجهه حباً، وتستوي القُبّرات على غصنِ عينيه من أجل ميلاد النجم ـ الحرية والاستقلال في واحة صدر الوطن، ومن أجل الشمس والبدر والخُطى المسرعة في تحديها هجيرَ المحنِ اللافحة ".

    إن طّلةَ الرئيس أشجارٌ باسقةٌ تتوافد للقادمين بلؤلؤة العشق، يجتازون الزمن، هذا الرمز الخالد تحميه الخيل " إرث النضال الثوري " والمدن الفلسطينية الوارفة، الناهضة، وتخلع عنه قشور التغرّب بعد العودة وتقيهِ بردَ الرحيل.

    وفي القصيدة تلوح مؤشراتُ التحذير من باب المحبة والنقد الذاتي والحرص عليه وعلى منجزاتنا والوطن، فهو يطلب منه الحذر، لإنّ الميادين ضاقت بما حملت، والميادين توحي بساحات النضال.

    والضباب ـ رمز عدم وضوح الرؤية السياسية للمشروع السياسي المطروح يجمّع أحقادَهُ على شطِ أحلامه المستريب، الخائف من عدم تحقيق الحلم المأمول. وفي ضوء ذلك تنأى المسافة نحو الحرية، وفي ضوء الحرص يظل الأخ القائد المرحوم رمزاً أسطورياً للذاكرة الجماعية الفلسطينية، فهو: أغاني الحصاد، وابتسام الصغار، وشروق المدائن.

    وفي ضوء الحرص ينشأ الحذر من الوقوع في الموت " رمز الحلول الناقصة التي لا توصلنا للوطن "، فينبغي الحذر حتى نصل إلى الوضع الطبيعي بعيداً عن الخوف؛ لأن الحذر والريبة ينتهيان عندما تفتح الشمس ـ مدلول الحرية والاستقلال الحقيقي ـ شبّاكها لتلامس أهدابَهُ العامرة، ولكن التحذيرات لا تلغي اعتبار القائد رمزاً للوجدان الجماعي لهذا الشعب ورمزاً تاريخياً له لأنّ يَدهُ هي الوحيدة التي تضيء الدهاليز " رمز المؤامرات والمحن والمشاريع الهزيلة "، وعلى ضوء هذا الحذر تأتي المفارقات بين الليل وثلج ظلامه؛ فثلج الظلام كنايةٌ عن تمطّي الظلام، معادل الاحتلال الغاشم لفترات طويلة لا تطاق، تَفوقُ مدّته طول الليالي الحقيقية في أعمارنا، والمفارقات الأخرى بين الحزن وجمر الرحيل، على اعتبار أن الحزن ملمحٌ ناصعٌ ينتج من نار الرحيل وجمارهِ الحارقة.


"ملائكة خضر وصبية فرحون"

 

    يرى الشاعر وطنه متحصّناً حيّاً وامتدادَ تضاريسٍ جميلة، يخاطب الوطن من أوّل القصيدة حتى نهايتها، يخاطب وطنه الغالي:

                   " لك الشمس تسطع في عنفوان التوجع

                     في ضجة الموت بين الميادين والطرقات ". 

" رمز الحرية والدفء والحياة "   

                  و " لك الماء يسقي براعم أغصانك الشامخات ".  

" رمز الخصب والحياة ".   ص34

    والماءُ، أيها الوطن، تشرب منه أغصانك الشامخات، ويغسل وجهك من ألم غثيان الشتات، هذا الشتات الذي يمثّل مصدراً للغثيان قد قدّرهُ الله على هذا الشعب المرابط على أرض الوطن، والماء، أيها الوطن، يجرف التماثيل ـ معادلُ الشخصيات التي نُصّبِت بأيادٍ غريبةٍ عن هذا الشعب لتدَّعي تمثيله،    إنه الماءُ، سيلٌ جارفٌ يجرفَ التماثيل والحِقَبَ الجاهليّة.

    في هذا الجو المشرق، يندمج الغصنُ بالغصن، والماءُ بالماء ويفتح الوطن يديه فَيَخْضَلُّ طينُهما وتدنو ساعةُ النصر رويداً رويداً.

    ويناجي الشاعر وطنه، فيرى الخرائط الظالمة التي زرعها الاحتلال تعلن بطلانها، ويرى الخفافيش ـ معادل أعداء الشعب ونماذج الطابور الخامس يخنقها وهج الشمس فهي التي أدمنت العيش في الظلام ولا تعرف سواه.

    وتتشكل القصيدة من هدايا يقدمها الشاعر للوطن، فله المجدُ والرّيح والمطرُ الدافقُ السَرمَديُّ، مفرداتُ الحياة والتغيير للأفضل، وله هديةُ تسمِيَتِهِ بسيّد الكونِ كلّه والعصور كلّها.

    والشاعر يرى وطنه مأوى الينابيع والصبية الفرحين القادمين من أعين المستحيل، ينفض عن وجهه ليل التغرّب، وله الصبايا المسامرَةُ عشّاقَها.

    وفي نهاية القصيدة يتماهى الشاعر مع شعبه ووطنه فهو قطراتُ دمهِ وقدرُهُ، ومن خلال هذا التماهي يطلب منه التهيّؤ للإحتفال العظيم حتى " يبعث الروحَ في هيكل الزمن المهترئ ".


 اللغة الشعرية:  

    استخدم الشاعر الأفعال المضارعة لتدل على الحاضر في: هكذا يبدأ الشجن المر، ينكسر الغيم ص 10، يتبخَّرُ وهمٌ، يملأ غربَتنا، يهبط الماء في الثلج. واستخدم الأفعال الماضية للإشارة إلى الماضي: الذين أضاءوا ص 16، أنقذتَ عمري من الإندثار ص 16، كان دمي في الزمان البعيد سمادَ التراب ص18، واستخدم أفعال الأمر للدّلالة على طموحٍ يريد تحقيقه: وليكن وجعي لغةَ الكون، وليكن الدمُ شاهدَ كل الفصول التي أوغلَتْ في السُّبات، واستخدم أفعال مضارعة مستمرّة للدلالةِ على واقعٍ مستمرٍّ: تجيئين مَزْهُوّةً بالبيارق، تميدُ بك الأرضُ يا سندباد ص 73، تناجيك، تخلعُ عنك قشورَ التغرُّب ص 73، وتأتي مفردة السيف بانزياحات فنّية متعددة عن معناها اللغوي، ففي جملة " السيف صوتك " إشارة إلى عهد الكفاح المسلح في فترةٍ ما من تاريخنا، أما عبارة: " السيف موتك " إشارة إلى فصل الكفاح المسلّحِ عن النضال السياسيّ في مرحلة أوسلو وما بعدها، ممّا يؤدي إلى موت المسارَيْن حسب معنى الجملةِ الفنيّ، أما عبارة: " السيف ناموسُ يقظَتِكَ الباكرة "، فهي إشارةٌ إلى مرحلة بداية انطلاقِ الرصاصاتِ الأولى للثورة الفلسطينية. ص76

    ويختتم الشاعر قصيدته ليؤكّد مرةً أخرى أن الأخ القائد أبو عمار رمزٌ أسطوريٌّ للذاكرة الجماعيّة من خلال مقاطع: قمّة الصحوةِ الزاهرَة، تصدَحُ له الألحان، وينطلق الشعر من شفة الجرح، وينمو العشب ـ معادل الخصب والحياة ـ على جذع أرواحنا ليتلمس جبهته العاطرة.  ص77

السراب: السلام الوهمي الذي يظنّه الظمآن ماءً.     

ثمة امرأةً: أراد معنىً فنياً للثورة ـ القضية.

خاتمها الذَهَبيّ: العهد الثوري المُتَمَسِكِ بالمسيرة.

تَمْشُط أهدابَها في المرايا: تبحث عن صورة جديدة لها. 

الشمس ترسو بمينائها: تغيبُ الحريّةُ من خلال ارتباطِ المرأة بمعاهداتِ تُصَفِّدُ حريّتَها.

    وبالنسبة للموسيقى الداخلية، فإنّ الإيقاعَ الداخليّ متوفرٌ بشكلٍ رائع؛ بحيث تتجاوز الكلماتُ ذات الحروفِ الموسيقيةِ المنسجمةِ مع الكلمات المجاورة لها، لتوازي تحسين الصورة الشعرية وتكثيفها لدى المتلقي.

    والكلمات، في القصائد، موحيةٌ، لها انزياحٌ عن معناها اللغويّ للمعنى البيانيّ البلاغيّ. ومن الكلمات الموحية التي ينزاحُ معناها الفنيّ عن معناها اللغويّ:

وَجَعي: معاناةُ الإحتلالِ المُسَبّبِة وجعي.

النجوم الخبيئة: معنى إيحائي للمناضلين الحقيقيين الذين يناضلون من وراء الكواليس، ولا يحبّون الشهرة وضوضاء الإعلام.

الطحالب: معنى إيحائي للوصوليين الذين يعيشون على حساب مصلحة الشعب، وأبناءِ الطابور الخامس.

صَخَب النبع: التغيّرات المستمرّة على الوطن.

القصائد ساخنةٌ: عاطفيّةٌ حارّةٌ يمورُ في وجدانها الحماسُ الوطنيّ.

الملائكةُ الخضر: يَنْزاح معناها الفنيّ إلى الشهداء.

لامرأةٍ توّجَتْني مليكاً على عرشها: قُصِدَ بهِ القضية، الثورة، الوطن.

 

الصورة الشعرية:

    استخدم الشاعر أشكالاً متعدّدة للصورة الشعرية منها:

أ. صورٌ مُفْرَدَةٌ جزئية: وهي صورٌ تتبادل فيها الماديات صفات المعنويات، والمعنويات صفات الماديات فينتج من تلك المعادلة تجسيمٌ للصورة يُفضي بالرؤية الشعرية المتشكّلة من إحساسِ وفكرِ الشاعر. ومن الأمثلة على ذلك:

يرسم الحزن أقواسَهُ، يهبِط الليلُ في الثّلجِ، الشَجَنُ المرّ ص12، انفجارُ القصيدةِ، علّقتُ روحي على كتفيكِ قلادَةْ ص21، عارياً كان صوتي ص16، للبلاد التي التهمَتْني وريداً وريداً ص57، نبعُ اشتهائي، حصادُ أغنيتي ص 92، غاباتُ الصهيل، قصيدتي الأولى ص63، مرفأُ الحلم ص72، جمرُ الرحيلِ ص76، جِذْعُ أرواحِنا ص77، ورقُ الجمرِ، مرتعٌ للصهيل.

ب. التجريد: وهو إلباس المحسوسات صفاتٍ معنويّة، ومن الأمثلة على ذلك: يحرثُ الصّمتَ، يمتَشِقُ الرّيحَ، جذرُ الكآبةِ، وهمٌ تمادى بألوانه، قلائد من أغنيات، مرايا الأناشيد ص26.

ج. الأسلوب التوفيقي: قصيدة ذات مقاطع قصيرة تَكْتَنز، في محتوياتها، معانيَ كبيرة موحيةً مثل قصيدة " ثمة أمرأةٌ في الحديقة ".


 

الخيال:

    يكشف الشاعر، في الديوان، عن خيالٍ مُحلِّقٍ يُرَصّع الديوانَ بالعديد من الصورِ الجديدة المُبتكَرَة الجميلة التي وُضِعت بالديوان كي تعبّر عن أحاسيس وثقافةِ الشاعر والتزامهِ الوطني، وكأنّ الشاعر أصدرَ صورَهُ تعبيراً عن مشاعره وأحاسيسه، وليس مجرد صياغتها بقصد تخليق الصورة لذاتِها.

    إن خيال الشاعر يسطَعُ بروعتهِ عندما نرى الدموع تُثمر وردةً في يباس الصخر، كناية عن إثمار الحزن فرحَ العودةِ ولو كانت جزئية عام 1993 ـ أيام توقيع اتفاقية أوسلو.  ص4

    وخيال الشاعر واضحٌ ومبتكرٌ عندما " يتبخر المدى " و "يتطاير الأسى ورقاً متعطّناً " ص10، وهو واسعٌ ورائعٌ عندما نرى الفراشات ترتدي حُلة النرجس الأريحيّ، وعندما ينضجُ التفاح في خُضرة القلب ويُخضّبُ الوجد أطرافها، ويبدو واسعاً وكثيفاً عندما يصبح الدّم سمادَ التراب وتبني الحساسينُ أعشاشها على راحة الكفِّ وتبيض السنونو. ص18، 19، 20

    إنه خيالٌ واسع تُقبِّلنا فيه الفراشات لتبشّرَنا بمواسمها القمرية وتتحرّك فيه الطبيعة منسجمةً مع الفراشاتِ، فَتُنزِلُ الريح سجّيلَها وتكوِّن ذرات الرمل عواصفها ويصبح الماءُ قنطرةَ الروح، والدمُ شاهدَ فصولِ أوَغَلت في السُبات وخاتمة المطاف.  ص22

    إنه خيالٌ واسعٌ يجود بصورٍ جميلةٍ جديدةٍ طبيعية وغير مُقْحَمَة على النصّ الشعريّ، عندما يُصوّر الثورةَ ـ القضيةَ امرأةً تتأمّل، ويصوّر المقاتلين المسافرين في الماءِ سرباً من عصافير.

    إنه خيال جديد، عندما يجسّم القضية ـ المرأة، وينفخُ فيها روح الحياة، فإذا هي امرأةٌ تقرأ في سفرها قصص العشق وتضحك للطير وترسم في صفحة الربيع المأمول تفاحةً وقمراً، رَمْزَيْ الحبّ، والوضوح معادلُ الحياة.  ص86

    إنه خيالٌ واسعٌ مأساويٌّ، عندما يأتي للمرأة فيرى الشمس ترسو بمينائها، ويتوارى في ظلال الخيبة والواقع الناقص المرير.  ص87

 

الرمز الأسطوري:    

    استخدم الشاعر الأسطورة في قصيدة واحدة عنوانها " السندباد يكشف عري العواصم "، وقد أطلق الشاعر هذا الإسمَ الأسطوريَّ على الأخ الرئيس أبو عمار، لأنه كان السندبادَ الفلسطينيَّ الجويَّ والبريّ والبحريّ، طيلة حياته من أجل الوطن والشعب والخلاص.

    وشخصٌ مثل المرحوم الشهيد ياسر عرفات، ذو الشخصية الفذة الحديدية، تلك الشخصية التي مثّلَتْ العبقريةَ النضالية، رمز الذاكرة الجماعيّة الفلسطينيّة عبر عقودٍ من الزمن، جعلت من الشاعر يخاطبُه تحتَ هذا الإسم الأسطوريّ حتى يكون هناك مجالٌ من حريةِ الحركة في الخطابِ والنقد الذاتيّ، مع أنّ القصيدةَ تقطُر بمشاعرِ الحبِّ والحرصِ والنصيحةِ من ابنٍ بارٍ لأبٍ حنونٍ يحبّ أبناءَه ووطنَه.

    ومن هنا، وجّه الشاعر قصيدتَه للرئيس الشهيد من خلال رمز السندباد لاشتراكهما في عبور الأصقاع والبحارِ بحثاً عن ملاذٍ آمن، وموطن الأجداد.

  
 

الموسيقى:

  1. قصيدة " جذعٌ قديمٌ على حجر ": شعرٌ حرٌّ يتكوّنُ من تكرارِ التفعيلة ـ ب ـ فاعلن وزحافاتها.

  2. قصيدة " مرحباً أيها النيل " ـ ب ـ فاعلن وزحافاتها.

  3. قصيدة " على غير عادتها ": تفعيلة فاعلن ـ ب ـ وزحافاتها.

  4. قصيدة " كيمياء للوجد سحر للممالك ": تفعيلة فاعلن ـ ب ـ وزحافاتها.

  5. قصيدة " عنوانها الماء ": تفعيلة فاعلن ـ ب ـ وزحافاتها.

  6. قصيدة " ملائكة خضر وصبية فرحون ": تفعيلة فعولن ب ـ ـ وزحافاتها.

  7. قصيدة " تضاريس الوردة ": تفعيلة فاعلاتن ـ ب ـ ـ وزحافاتها

  8. قصيدة " سندس المدينة كحلها ": تفعيلة فاعلن ـ ب ـ وزحافاتها.

  9. قصيدة " الينابيع أوصالها في دمي ": تفعيلة فاعلن ـ ب ـ وزحافاتها.

10. قصيدة " البَوْح ": تفعيلة فاعلن ـ ب ـ وزحافاتها. 

11. قصيدة " بورك عندمٌ يمتد فيك ": تفعيلة ب ب ـ ب ـ متفاعلن وزحافاتها.

12. قصيدة " فضاءٌ للجدائل الذهبيّة: تفعيلة فاعلن ـ ب ـ وزحافاتها.

13. قصيدة " السندباد يكشف عُرْيَ العواصم ": على تفعيلة فعولن ب ـ ـ وزحافاتها.

14. قصيدة " ثمة امرأةٌ في الحديقة ": تفعيلة فاعلن ـ ب ـ وزحافاتها.


 

االصّدقُ الفَنيّ:

    من يقرأ قصائد ديوان عبد الناصر صالح " فاكهة الندم "، وخاصة " جذعٌ قديمٌ على حجر "، السندباد يكشف عُرْيَ العواصم، ملائكةٌ خضرٌ وصبيَةٌ فرحون وغيرها، يلاحظ وجود عاطفة جيّاشة تنقل شحناتِها إلى روح القارئ وتحرّك عاطفته بمقدار ما تحرك عاطفة الشاعر.

    إنّ من يقرأ الديوان يلاحظ أحاسيسَه وهمومَه وأفكارَه وأحلامَه وآمالَه ويأسَه وأملَه، وحبُّ الوطن يتضافر تضافراً حيّاً في نفس القارئ، فتثير اهتمامه وتطرُق انتباه فكرِهِ وتحفزّهُ على تخليقِ رؤيا شعريّةٍ يستشفّها حسب ثقافته وتجربته، وبذلك تكون قصائدهُ قد صدمت شعورَ وفكر القارئ وحفَّزَته على تحليل شيفرَة النصّ الشعريّ وتكوينِ الرؤيا الشعريّة، التي تفجّر مكنونات الواقع. 

( بروقين ـ نابلس )

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب