news-details

تداخُل بورتريهات النّص اللّوني في رواية هوت ماروك للأديب المغربي ياسين عدنان؛ البورتريه المُجزّأ نموذجا (3-3) | رجاء بكريّة

2.7 بين الفكرة الرّوبوتيّة والمساحة التّفكيكيّة

أمّا الإسقاطات الضّمنيّة فتستعيرُ فِكرة السّاقِ الّتي تتسلّلُ إلى حياة النّاس واليدين بِأظافرها الحادّة كَي تحفر وتغوص في التّفاصيل، بينما الأحمر والأزرق يُنشِئان تضادّا شكليا contrast)) يعكس تناقضات الشّخصيّة الوجوديّة بأبعادها الكثيرة على خلفيّة خضراء باردة. هكذا سيقودنا الاستنتاج لفهم حقيقة كون الأخضر، لونٌ جامع للّونين، (الأحمر والأزرق) كَلَونين مُكمِّلَيْنِ للأخضر، وأنّ الخلفيّة تنشِئ مع اللّونين الحادّين، (الأزرق والأحمر) تضادّا وتكاملا في ذات الوقت لكن وسط غياب اللّون الثّالث المُكمّل وهو الأصفر مُمَثِّلا لِعُنصُرِ الشّمس بدِفئِها الرّوحيّ. والمؤكّد هنا أنّ غِيابَ الأصفر يُفسِّرُ النّقصَ الجوهري في المنظومة الرّوحيّة تحديدا لدى (رَحّال) بما أنّ الأخضر البارد يستولي على الخلفيّة كاملة، فالبطل عاطل عن الدّفء الشّعوري الّذي عوّضَهُ عبر تطوير حاسّتهُ الجاسوسيّة الحادّة. واللّافِت أنّ التصرّف الحُر بأبعاد اللّون يشدّنا مباشرة لمنطقة السّخونة عبر كلمة Hot الّتي تنغرز تاؤها مثل نصل سيف في كفّ العوينة السّوداء، وهي دلالة لونيّة مجازيّة ناقدة لليد الّتي أَثِمت في أفعال الاختلاس، والدّناءة في تحرير معلومات حول حياة النّاس السريّة، بل وإغراقها بالنّوايا الخبيثة عبر عوالمهِ الافتراضيّة الكثيرة وبثّها للمخابرات. [1]"فغالبا ما تعكس الألوان التي نختارها الكتب التي نحب قراءتها. وغالبا أيضا يريد المصممون التأكد من أن الكتاب مناسب للمؤلفين والقراء على حدٍّ سواء".

أسفل الغلاف يظهر اللّون اللّيلكي المأخوذ هو الآخر من جذور الألوان المُجنّدة في العمل، (الأزرق، الأحمر، مع غِياب الأبيض المُكمِّل) ومع ميلي لاعتبارهِ متساوقا مع scal (مقياس) الألوان المتجانسة جدّا، [2]"إلّا أنّي أنحاز لاعتبار الأصفر المتوهّج (من أصول الشّمس) أنسب لقوانين التّجاذب اللّوني في الغلاف، وأكثر تكامُلا مع الأخضر تحديدا. وكلّ الألوانِ معا تُنشئ هنا نِزاعَ قوى تُناقِضُ بعضها بعضاً، تتجانس معا بقدر ما تتناقض". تتصالح أيضا بقدر ما تتقاتل، وهي حتما شخصيّة البطل المكوكيّ في علاقاتهِ، المغناطيس الّذي ينجذبُ وينفُرُ بذاتِ الرّغبةِ والإحجام. بقي أن نؤكّد حرص المُصمّمة الأمريكية على الأحمر مقابل الأخضر كرغبة ضمنيّة بتثبيت الهويّة المغربيّة، مًتّبِعة بذلك خُطى شبيهتها المُصمِّمة الفَرنسيّة في فِكرتِها وانتقائيّتها. ومن نافل القول الإشارة لتأثير عنوان العمل، (ماروك) على إِشباعِ مُخَيِّلة المصمّمتين بالتّداعيات في تأكيدِهِما على حضور العلم المغربي ممَثّلا بلونيهِ الأخضر والأحمر.

2.8 خُلاصة الدّراسة

هل أمكن لصور الأغلفة الّتي أغرقنا بها هذه الدّراسة أن تزخمَ التّأويلات الفِكريّة بمِثلِ ما استفادت من اللّونيّة، أم أنّ الدّهشة لا تزال عالقة في ذات المساءلة؟ للإجابة على هذا التّساؤل من المناسب أن نعرضَ إلى البُنيةِ الدّاخليّة الّتي ميّزت شَكلَ التّداخل اللّوني الّذي عبّأَها طاقة واختلافا. لكن، مقابل تساؤلِنا الأوّل سنعرضُ إلى تساؤل فرعيّ آخر في مركزهِ فكرة تأثير نوعيّة التّداخل اللّوني، (والثُّنائي تحديدا) على كَمِيّة الأغلفة الّتي وصلت لِيَدِ المُتلقّي. هل نجحت النّوعيّة في تثوير المفهوم التّقليدي للنّص الكمّي حين سطت عليهِ، فكانت سببا في انتشارهِ؟ هل اختلفَ شكلُ احتِفاء المتلقّي بالنّصوص اللّونيّة حين تفاوتت نسبة الغِنى اللّوني، وأسلوب إخراجِهِا إلى العلن؟  

لقد شكلّت فِكرة ال Fusion، (الإنصهار بين نقيضين) حالة استثنائيّة جدّا في تصميم النّصوص اللّونيّة، (الأغلفة) لدى دور النّشر الثّلاث الّتي تناولناها، فصنعت لونا فنيّا مستحدثا، ليس فقط لثقافة التّفكير الإبداعي لدى المُتلقّي، بل لثقافة الذّوق الفنّي لدى دور النّشر حين انتقل التّحديث اللّوني بالعدوى، وجعلت كُلُّ دار تُفَتّشُ بلا كلل عن ماركة تَخُصُّ بَصمَتَها الشّخصيّة في تصميم النّص الأدبي. حصل الأمر تحديدا لدى دور النّشر الأجنبيّة، (أكت سود_ باريس، ومنشورات جامعة سايراكوز، نيويورك) لكنّ البدايات المتواضعة لدى دار النّشر العربيّة الوحيدة الّتي غامرت في إخراج نصّها اللّوني للعَلَن، (دار الفِنِك المَغربيّة، الدّار البيضاء) فاجأت هي الأخرى لكن مُفاجأة سلبيّة أكسبت المُتلقّي نُفورا جاذبا دفعَهُ لاقتناء الغِلافِ بدافِع الرّغبة في فهمِهِ بِدايةً ليس إلّا. كأنّهُ فازَ باختراغ لُغويّ لم يكُن بالحُسبان هو (النّفور الجاذِب) على صُدْفَةٍ مُؤكّدة. لقد أدّت الطّاقة السلبيّة الصّادرة عن التّصميم الغريب للغلاف لابتعاد يُوازى مِقدار الجذب لدى المُتلقّي، إذ ماذا يعني التصاقُ وجهٍ فَأري بِجَسَدٍ إنسيّ، وكيفَ يتعيّنُ عليهِ المرورُ برِوايةٍ من هذا النّوع مُعلِنا لامبالاتَهُ؟ من هنا استحال فِعلُ القِراءة لمشروعِ تجسُّسٍ بامتياز. هكذا أيضا شَمِلَت خِطّة البَطَل المُتلَصِّص على الحياة قارئَهُ، الّذي اقتناهُ برغبةٍ استيلاءٍ كاسِح على عالَمِهِ، فخَرَجنا بعمليتي سلبٍ لم نتوقّعهُما. الأولى تتمثّلُ بسلبِ البطل أَسرار النّاس عبر لُصوصيَّتِهِ المتمرّسة تجاههم، انتقلت مِنهُ لقارئ شَغِف باكتشاف أسرارِ البطل ذاتَهُ عبر لُصوصيّة مضاعَفة عَليهِ وعلى مضامين العَمَل معا. وعليهِ نستنتج نحنُ، المتابعين لسيناريو تداعيّات التّصميم الفنّي حقيقة مُدهِشة تعلِنُ الغُموضَ سببا في إثارةِ الفُضول ثمّ الإقبالِ على اقتناء الغلاف، برغم الذّعر الّذي تُسَبّبُهُ لوحتُهُ للمُتلقّي. كلّ هذا يجري وسط تَرَدٍّ ملحوظ لِمُستَوى التّصميم الفنّي المُعتَمد، إذ لن نختلفَ في اختلالِ المعايير الّتي نُسِبَت لتفاصيل البورتريه العرَبي. اختلال أفشلَ خطّة الإنتشار المَرجُوّ كانت المَشرِفة على الدّراسة إحدى ضحاياهُ. وكلّ هذا لا يتعارض مع منطق (النّفور الجاذب) لأنّهُ أساسا لم يُغَذِ غير أسباب التّراجُع ذاتَها الّتي حرّضت المُتَراجِعينَ على عودةٍ مُجَدَّدة، لأنّ المرفوض غالبا يخلقُ مُحرِّضا مُضاعَفاً على الإقبال.    

مقابل (النّفور الجاذِب) يُعلِنُ الغِلاف الفرَنسيّ، إشباعا تعبيريّا عالي الجَودةِ والجَذبِ معا. فضمن منطق (الإنصِهار بين نقيضين)، تتكسّب شخصيّة البطل السّلبي، (رحّال) من فضائل اليزيد (الإيجابيّة)، نقيضهُ الأخلاقي، حسيّا ودِرامِيّا. هذا الإشتباكِ بين المُتضادّات تُفسّرهُ وضعيّة البطل في البورتريه الّذي يتصدّر الغِلاف، والّتي أدّت حتما لإثارة فضول المتلقّي حيالها. فالبورتريه الّذي حرص على تشكيل ثنائي غنيّ مضمونيّا داخل الوضعيّة الواحدة، جنّد بذكاء أساليب فنيّة غنيّة أيضا مزجت التّعبيريّة بالواقعيّة بالكاريكاتوريّة وخرجت على المتلقّي بغلاف ينطِقُ دهشة روحيّة بعيدة الأثر، ومعروف أنّ استغلال الطّاقات الرّوحيّة الشفّافة للمدارس اللّونيّة أداة بالغة الخصوصيّة في جذب المتلقّي، فالرّوح الّتي تتشبّع تفتِنُ العَين المُستَقبِلة مُباشرة.

خلافا للتفرّد الّذي يعلِنُهُ النَصّ اللّوني الفرنسي عبر شفافِيَّتهِ وعُمقِه، يتّبِعُ الغِلاف الأمريكي منحى مناقضا تماما للمدرسة الفنيّة السّابقة، فارضا منطق التّداخُل بين عالمي البطل الواقِعي والافتراضي مرجعا مؤَسِّسا للغة الغِلاف. فالمدرسة الفنيّة هنا حادّة صارِمة تأخذ من الطّابعِ المُجتَمعي المادّي الكثير، ولذلك تجدُ في اللّون الرّوبوتي الصّناعي لغة ناجحة في جذب المًتلقّي. ولذلك أيضا يغلب التّسطيح اللّوني على عُمقِهِ، وحركَتِهِ على رهافَتِه. هذا التّضاد الفاعل بِعُمق، وبِمُستويات عِدّة يفرضُ تحدّيات أسلوبيّة حداثيّة في لُغةِ الغِلاف، حيثُ يَغلِبُ على البورتريه الشّكل الهندسي مَدعوماً بِالمِساحة اللّونيّة، المُثلّث مقابل الأُسطُوانة والدّائرة. ومُخالِفا تماما للمنطق الجَمالي المُعتَمَد في التّحوير الفنّي لدى غريمِهِ الفَرَنسي. والتّغريم الجمالي للغِلاف من عَين المُتلقّي هو من يدفعَ ثمنَهُ وبِسَخاء. [3]"فالكتب تحتاج أغلفة تصِل القارىء بالخيار الصحيح. فدار النّشر مطالبة باختيار الألوان والصور التي تتيح للقراء معرفة ما إذا كان هذا هو نوع الكتاب الذي يبحثزن عنه وسيستمتعون به" كما أنّنا وهكذا لن نجتهِد في حكمنا على الغلاف الفرنسي ونحنُ نُعلِن أنَّ مصادرَهُ المرجعيّات الفنيّة لباريس المكان الزّخمة بالمعالم وصُنّاعِ الإِختِلاف، متحف اللّوفر نَموذَجا.

دائرة مفتوحة على اجتهادات مستقبليّة

إنّ الواضح من هذه الدّراسة أنّ الحرص على القراءة اللّونيّة يمتلك من القوّة بمثل ما يمتلك مضمون العمل الأدبيّ (هوت ماروك) الّذي تنشَغِلُ بهِ عموما، وتأويلات أبعادهِ يعرفها قلّة جرّبوا كفاءة الألوان في تعارُضاتها، وهي حاضرة في الثّقافة التّسويقيّة الغربيّة أكثر من سواها، لأنّها تخضع لمعايير التّسويق التِّجاري شأن أي مادّة استهلاكيّة أخرى وهدفها تزويد البيوت بالثّقافة كما يزوَّد الطّعام تماما، وهذا بالعموم ما تفتقدُهُ الثّقافة الشّرقيّة الّتي تسلَخُ فرع الثّقافة عن المنظومة الاستهلاكيّة فيظلّ عزيزا ومُنزّها، غريبا وبعيداً عن احتياجات البشر، كأنّ الرّأس لا تحتاج أن تمتلئ كما المَعِدة تماما. وعليهِ أرى أنّ النّظام التّسويقي للثّقافة العربيّة مُمَثّلة بأدَبِها المنثور والمنظوم يجب أن تخضع لمعايير جديدة في أشكال استثمارها، وعليها حتما أن تنضوي تحت منظومة الاستهلاك الأساسي للفرد كي ننقذ رافدا غنيّا من روافد الإنتاج الإنساني الحضاري من الهلاك والنُّفوقِ. فالثّقافة تُستَهلك بقدرِ ما نُهيِّئُ لها من مُحرِّضاتٍ للإقبال عليها، استدراجًا، إغواءً ثمّ إلزامًا، "[4]ففي الآونة الأخيرة توصلت دور النشر، إلى أن تصميم الغلاف يسهم بنسبة خمسين بالمائة، في إعطاء الكتاب أهميته وقيمته". ومن هذا الباب تُثار فِكرة التّسويق الفنّي عبر ماركة التّصميم الإستثنائي لدى دور النّشر العربيّة جريا على ما يحصل في دور النّشر الغربيّة. ونعني بالضّرورة تأصيل بصمات التّصميم الفنّي الخاصّة بكلّ دار نشر على حِدة وفق خطّة لونيّة تخصّ ماركة التّصميم. يجب أن تُثار مسألة الوعي القيمي لخاصيّة التّصميم اللّوني كمرجع تسويقي استثنائي من الدّرجة الأولى كي تنهض دور النّشر العربيّة بثقافتِها الورقيّة، بل وتبادر لِطَرحِ خِطّة فيما سنصطلحُ على تسميتهِ بالتّسويق الثّقافي، كي يستعيد هذا المُنتَج الورقي حضورهُ وتأثيرهُ على جماهيريّة التلقّي.

  لقد حدث في استحضار رواية (هوت ماروك) كمُنتَج ورقي غير تقليدي في تصميمهِ وتسويقِهِ معا عرضا إلى طُفرَة أدبيّة لم ينجح كُثُر في تحقيق إنجازاتِها. ولهذا السّبب تحديدا ستظلّ دائرةُ الأغلفة مفتوحة في هذه المقاربة الفِكريّة الزّخِمة شَكلاً ومضمونا كي تتيحَ لترجمات جديدة أن تؤدّي دورها في تغيير أشكال التّصميم الفنّي لأغلفةِ الكُتب في المشرق والعالم العربي على وجهِ الخصوص. (انتهى)

 

أغسطس / آب، 2021 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب