news-details

ثــلاث بــــرك آسنة، إحدى عشرة رواية قصيرة| رشيد عبد الرحمن النجاب

اختار الدكتور ابراهيم الغبيش هذا العنوان وسمًا لمجموعته التي صدرت عام 2021 عن دار النشر "الآن ناشرون وموزعون"، والتي تضم إحدى عشرة رواية قصيرة، حملت أولى الروايات نفس عنوان المجموعة "ثلاث برك آسنة"، والآسن من الماء هو الراكد الذي لا يصلح للشرب، إلا أنه كان كافيًا للترفيه عن الطفولة التي تعيش شظف العيش بين هذه الخيام، حول هذه البركة طالما لعب "عاهد" وشقيقته "عهد" إلى أن غادرت عهد بقرار ليس لها إلى الولايات المتحدة، ولم تعد.

حتى هذه المتعة البسيطة التي يشكلها اللعب حول مياه البركة الآسنة، ومشاركة الضفادع في رقصها وغنائها، لم تعد متوفرة لعهد وشقيقها فإلى البرد القارس، وشظف العيش في المخيم، عانى عاهد وشقيقته الحرمان من الحياة العائلية الطفولية الجميلة. تساءلت وأنا أقرأ، لكن لماذا "عهد" و"عاهد" فقط؟، وهو أمر غير شائع في هذه المجتمعات أن يكتفي الأهل بولد وبنت؟!، هل أراد الكاتب أن يعمق تأثير الصورة وإظهار مدى قسوتها؟! ثلاث برك في ثلاثة أماكن لكل ظروفها التي نشأت فيها، والذكريات والقصص المتعلقة بها والخيالات، ارتبطت الأولى بقدر من الفرح الطفولي، وكرنفالات الأطفال بملابسهم الملونة ذات الروائح المميزة، وشكلت البركتان الأخريان صدى للحياة التي كانت حول البركة الأولى، ومحاولات حزينة لاستعادة ما مضى، وتبديد الوحدة. تحضر فلسطين في خلفية المشهد باستمرار، فنكبتها خلقت مبررات وجود هذه الخيم والمخيمات، ولكن المشاهد تبحث في تفاصيل أخرى، في مزيد من التفاصيل القاسية التي تتوالى على حياة الناس في هذا العراء المكشوف حتى بعد أن انتقلوا للعيش من خيم القماش إلى الخيم الإسمنتية.

 

آدم

وفي رواية آدم يلتقي الإنسان بالإنسان بعيدًا عن الأسماء التي ارتبطت بالأقطار، فلا هذا من رجال السنوسي، ولا من قبيلة القذافي، ولا ذاك يمت بصلة للبشير، فقط إنسان التقى بإنسان كل اكتوى بظروف بلده بطريقة ما، فقد عبد النور أفراد عائلته في دارفور، وذهبت أحداث ليبيا بابن آدم وزوجته (هل كان اختيار الاسم صدفة؟)، وألقي على كاهل آدم الجد أمر العناية بآدم الطفل   المريض، فإلى أي حد بلغ التفاعل الإنساني بين آدم الليبي، وعبد النور السوداني؟

 

طـــائر الــــلـــــقـــــــــــــــلق الـــــــــــبري

يـــــقــــال إن طائر اللقلق عندما يطير لا يحلق فوق البحار، ربما لهذا أسموه "طائر اللقلق البري"، ويجد البعض في قدومه نوعًا من التفاؤل دفع البعض لتسميته "أبو سعد"، وهو اللقلق من اللقلقة أو كثرة الكلام، أما الدكتور ابراهيم الغبيش فقد جعل من هذا الطائر مخلوقًا عجائبيًا، وفي كثير من المزج بين الخيال والواقع رسم صورًا لتواصله مع مخلوقات هي مزيج من الطير والبشر، ثلاثة هم فقسوا من ثلاث بيضات بنية اللون بدت غريبه لطائر اللقلق ولكنه حضنها حتى فقست، لا يدعي أبوتهم بل يدعو نفسه أبا روحيا لهم،  منهم من يطير،  ومنهم من يشعر برغبة في الطيران  ويتواصل معهم عن طريق "التخاطر"،  ولا يعرف الواحد منهم عن الإثنين الآخرين غير كونهما موجودين.

يقول أحد هذه المخلوقات واسمه سعدون غبش: "معلومة صغيرة علمتها من طائر اللقلق البري؛ حينما تعود إليه روحه، تعود إلي وشقيقي روحنا ونطير في الفضاء"، ويقول شقيقه الحويس الذي يستطيع الطيران "أنا حر، لا حدود لحريتي، أرض كون وفضاء شاسع".

أما اختهم أم شكردم فتقول في سياق التعريف بنفسها كما فعل شقيقاها: "أطمع في شروق دائم للشمس، أطير معها في الاتجاه نفسه، أطير، أطير، أطير بلا توقف".

يتوصل المحققون إلى أماكن هذه المخلوقات، ويجمعونهم مع طائر اللقلق البري، يتمكنون من ذلك بواسطة الأساور الخمسة التي ثبتوها في أطرافه ورقبته، ورصدت معلومات التخاطر، فكوا أساوره الخمسة وحذروه بأنه ذاهب للموت فأجاب طائر اللقلق البري "لا، أنا أعود للحياة، للحياة" هو إجماع على توق للحرية، تأهبوا وحلقوا فجأة وسط حيرة المحققين.

 

 

قـــنفــذ وديـــر

 

"أجراس تدق، تدق، متواصلة وبعنف

عربتان، عاصفة من غبار أصفر، تغمرهما، تسبقهما وتلحق بهما"

 

كان هذا مشهد البداية، ولكن مهلا، لم يكن هذا على شاشة سينما، ولا تلفزيون ولا حتى شاشة كمبيوتر أيا كان شكلها، بل كان بين دفتي كتاب، وعلى بعد تسع صفحات جاء المشهد الأخير كما يلي:

وبقيت وحيدة في الدير، شجر ونباتات، وماء ودجاج، وأجراس تدقها كل يوم، كل يوم".

تباين في إيقاع الأجراس، بين مشهد البداية لهذه الرواية القصيرة، أو القصة طويلة ربما؟! تثير الأولى ضجيجا يرافق حدثا جلل، أو يعلن عنه؛ توفي الدكتور نادر الذي كان يسكن الدير برفقة الأخت كلير، كان مريضا بالسرطان، لكن السرطان لم يقتله، فمن الذي قتله؟ ولماذا؟

اما أجراس المشهد الثاني فجاء إيقاعها رتيبا، كئيبا، يعكس رتابة وكآبة العيش في الدير بعد هذا الحدث، وفي المشهدين، وما بينهما ثمة صور لعلاقات إنسانية؛ صداقة، رِفقة، محبة أو حب ربما!  احترام، رعاية بصورة أو بأخرى، ثم فراق في ظروف مختلفة، وحزن وبكاء، إلا أن بعض الحب تجسد إيقاعا صاخبا أوقعه زكريا ثم صمت كئيب.

 

مرمور، صعود هبوط

 

مرمور، من المر والمرارة، يقف مرمور ببذلته الزرقاء مديرا لصالة الفندق، يوزع الابتسامات، يغطي الذل والمهانة، ويعيش في عتمة وحيرة مستمرة، ولكن من هو مرمور هذا؟!  ربما لو دقق القارئ في الجملة التي سبقت هذا التساؤل، لأدرك من المقصود؟!! نعم إنه أيوب الذي غادر المخيم إلى المخيم، في رحلة بدت شديدة البعد، شديدة القسوة، عبر وسائل نقل متعددة إلى حيث جدته التي لم يحب، توفيت الجدة، فعاد إلى مخيمه الأول، بل إلى المدينة القريبة منه، عاد يرى أمه، ولكن لم يفلح في اقناعها بترك الساقية التي كانت وظلت تدور فيها إلى أن توفيت، أكرمها فبكت قسوتها وحنانه.

يستدعي الكاتب في هذه الرواية القصيرة بطلا من مجموعته القصصية السابقة "أيوب في حيرته" ويتتبع سيْرَ حياته عاملا مجدا، مثابرا، دارسا، جامعيا، موظفا، يرتقي السلم إلى أن أصبح مديرا براتب ومكافئات، وبيت معقول ولكن حيرته تراوح في مكانها، فأي شيء أكسبه هذه الحيرة المزمنة المحزنة رغم الصعود؟ علاقته بأمه، أو ربما علاقتها به!؟  هذا التجوال اليومي للذاكرة بين الماضي والحاضر والمستقبل ماذا عساه يكون هذا المستقبل؟! الناس الذين عرفهم في المخيم ولم يعرفوه؟! تلك الحياة التي يحياها وحيدا؟  المخيم! أيهما؟ المدينة، البلاد، الزوجة، الأولاد؟ أين هم؟ لقد قال لوالدته في زيارته لقبرها إنهم لن يأتوا، لن تصبح جدة، ولن يكون أبا، ربما خشي أن يورثهم حيرته!!!

لطيفة فكرة التجوال هذه، تجوال الشخوص من عمل إلى عمل لعل أيوب يكشف للقارئ في الجولة التالية عن سر حيرته.

 

شارع الـــظل

 

من خلال أوراق فاطمة، وأوراق مصطفى يلقي الكاتب الدكتور ابراهم الغبيش الضوء على سيدة تتعامل مع ثلاثة نماذج من الرجال، تحب أولهم، تتزوج ثانيهم، وثالث هو "المدعي العام"، لم تكن معالم علاقة فاطمة به واضحة (بالنسبة لي على الأقل)، ربما كانت لقاء عابرا!؟ والشخص الثاني هو الأستاذ الجامعي، وهو زوجها، ووالد ابنتيها وابنها والذي أكلته الشكوك بشأن طبيعة وأبعاد علاقتها مع مصطفى فتنفصل عن هذا الزوج. أما مصطفى فهو صديق الطفولة الأول الذي أحبته، من طرف واحد، وربما أحبها هو!؟ كان لها مكانة خاصة عنده، لكنه لم يستطع أن يحددها، لم يكن الزواج بالنسبة له خيارا لا من فاطمة ولا من غيرها. كان مسكونا بحادث أودى بحياة شقيقته ساره إثر انفجار "البابور - البريموس"، تراوده أحلام يرى أمه دجاجة أحيانا، وحصانا في أحيان أخرى.

كان مصطفى عبثيا، تائها، ليس للزمان عنده قيمة، دائم البحث عن شارع الظل، وطالما صارحته فاطمة بأنه لا يصلح لشيء، كان مشردا يصادق الكلاب المشردة أحيانا ولكنه خشي من الموت ككلب ضال، فكيف وأين قضى؟

لوحات مبعثرة تنقل الكاتب بينها بمرونة ليكمل بعض تفاصيل الصورة هنا وهناك، أما القارئ فربما احتاج بعض الجهد ليرتب هذه اللوحات، وليس في ذلك ما يسيء إلى العمل، بل ربما أضفت هذه الطريقة بعض التشويق إلى السرد.

وبعد، فقد تجنبت أن أكتب عن كل رواية وردت في هذه المجموعة، ربما تجنبا للوقوع في شرك التلخيص، وحتى لا أطيل النص فيصعب الأمر على الناشر والقارئ على حد سواء.

تتميز أعمال هذه الرواية بتنوعها من حيث الموضوع، وطريقة السرد وبيئة الروايات، ناهيك عن طولها أو قصرها، إلا أن ثمة معالم مشتركه بينها، تبدو واضحة في بعض الأعمال، بينما تحتوي أعمال أخرى على إشارات أقل وضوحا، "المخيم" كان ماثلا بوضوح، وفلسطين لم تبتعد أبدا، وكان ثمة إشارات إلى مهنة الطب والتشخيص، والرعاية وربما المعالجة بمقدار أقل، ولا غرابة في ذلك مع الكاتب الطبيب ابراهيم الغبيش.

  تغلب مشاعر الحزن والكآبة والحيرة، على مشاعر الشخوص في هذه الروايات، إلا أن الكاتب شديد الالتصاق بالطبيعة بمياهها، وغيومها وطيورها وحيواناتها، وكثيرا ما يصفها بإيقاع موسيقي جميل.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب