news-details

جبال الريح  17 / ج2

في ذلك اليوم، كان يغمرني فرح عامر، صدر لي اول كتاب "الأصيلة"، كما يفرح الطفل بثوب جديد او لعبة، رأيت الغلاف فقط يطل من الرزمة، فأنا مسافر لتقديم محاضرة للشبيبة الشيوعية في البقيعة، قبل الظهر، واليوم يوم سبت، الطقس لطيف في الخريف، انهيت المحاضرة في النادي على ساحة العين تحت التوتة، وقررت ان المحاضرة كانت ناجحة وعليّ ان اسرع في العودة لأرى الكتاب المرزوم، وعن طريق الخروبة وصلت الى الشارع، كانت الريح تصفع الشجر صفعات متلاحقة وتغلي وتجوح في الوادي، قد تمطر!! في الافق الغربي البعيد أكداس غيوم لهبية داكنة مع فجوات، من المستبعد ان ينزل المطر، لأن المختار، وهو احد الاقرباء والجيران، يقيم حفلة استقبال لأمّار الحكومة، ولذلك وقفت سيارة، ودعاني السائق بلغة عربية ولَكْنة عبرية: تفضل. كنت أحمل حقيبة كبيرة، فيها الكثير من الاوراق ومحاضرات مكتوبة وبعض الكتب.

  • أنت تعلّم في البقيعة!!
  • أيوه. لم أكذب فقد قدمتُ محاضرة، وأنا سكرتير منطقة عكا للشبيبة الشيوعية
  • لا لا، سننقلك الى بيت جن أنا أمنون لين.

وصلنا الى دار المختار أبو رفيق، الجار والقريب من ناحية جدتي مياسة اليوسف فهي عمته، ضحك المختار وهو يستقبل أمنون لين ببشاشة:

  • شو خواجا أمنون، معاك الشيوعي مبيّن.
  • أي شيوعي، هذا معلم مدرسة.
  • هذا محمد الشيوعي.

ضحكنا نحن الاثنين، اما الخواجا أمنون فلم يضحك،

  • عملتها فيّ!! قالها بالعبرية.

بعد عقود من السنوات، التقينا أنا وأمنون لين في برنامج إذاعي عن توفيق طوبي. مدحه أمنون لين بحق وحقيق مؤكدا على أمرين: برلمانيا قويا مجربا، ويعرف العبرية اكثر من اليهود. ثم تبسّط معي و"سرحت غنمته" فأخبرني: أنا وفلان وفلان من حيفا كنا نشكّل القائمة العربية لحزب المباي. اما أنا فذكرته يوم نقلني من طريق البقيعة الى القرية.

  • آه، هو إنت!!

على غلاف كتاب "الأصيلة" صورة فرس، صورة جميلة، والقصة عن الفرس الحمرا "المقلومة"، والناس يندبون على راعيها المسجّى في "الخلوة":

الديروية – ابو سعود وأبو غازي من دير الأسد:

سْمِعِتْ همْهمةِ الأصيلة

  طالْبِه شيخ القبيلِه

لابْسِه الرّخْت المرصّع

  نايحة نوح الحزينِه

وأبناء المرحوم يندبون بحرقة:

يا بونا عَلي وين غَديت اليوما

  والخيل تِلعب والفرس مَقلوما

والمختار المنافس من الحارة الأخرى يبكي ويندب:

مين ينزَل عالسّرايا

  مين يفتح للديوان،

لو أجد ولو نسخة واحدة من مجموعات: الأصيلة، وِديّة، ريح الشمال، كوشان، النسخ الأخيرة طلبوها الى مكتبة الكنيست.

في البلد الكثير من الخيول الأصايل، تطارد في الميدان، وواحدة اسمها الهوّارية، وهي هدية من دار الهوّاري للمختار، أما "المُهرة" وهذا كل اسمها، فقد ركضت على الجليد في البِركة، فختَ بها الجليد واختنقت.

من اوائل الكتاب الذين تعرفت عليهم كان توفيق فياض، أحببت قصصه القصيرة، هو وسعيد حورانية وغالب هلسا، التقيت مع توفيق فياض خمس مرات فقط، كان اللقاء الاول، عندنا في البيت قبل ان يغادر ارض الوطن، كان مسرعا ومذهولا بعض الشيء، تناول قطف عنب عن رأس زوجتي، من اللجَن الضيق، بعدها في زياراته القصيرة، في بيتنا وفي أمسية ثقافية في حيفا. وتعرفت على ابن أخته في الرامة، ابن الصديق والزميل العبد ابن كامل العبد الحادي من سحماتا.

كان معظم الكتاب والشعراء ينشرون نتاجهم في مجلات الجديد والغد وجريد الاتحاد التابعة للحزب الشيوعي، جاء إميل حبيبي وطرح في اجتماع اللجنة المركزية للحزب إقامة "لجنة ثقافية" وإقامة اتحاد عام للأدباء العرب، وهكذا كان.

كان "الإميلان" إميل توما وإميل حبيبي مبدعين في طرح مواضيع جديدة في هيئات الحزب.

أواسط وآخر سنة السبعين من القرن الماضي، كانت مكثفة في الأحداث، وكلها تترك أثرها على الانسان، منها المبهج الضاحك كالأمل والربيع اليانع، ومنها العابس المدلهم، طالت فرحتي بصدور كتاب الأصيلة، قرأه المئات من الناس في القرية، وأشاروا الى قصص وأحداث وقعت بالفعل، وكان التقدير إيجابيا على العموم، قلة من أهالي القرية قالوا بغضب: في الكتاب حكي على أوادم البلد!! لكن ماذا يجب ان يقال عن سمسار الأرض والفسّاد، والحرامي، والمُخلف بين الناس، عن مصادرة أرض الخيط ودور – أوادم الطايفة – الذين سمسروا على جورة الذهب، على مواقع ماروس ومرج الغزلان وموارس الحرية ووعرة زيادة، أهدوا حواكير وعين الغبّاطِه الى الأفندي، عن مأمير الحراش الذين يأخذون المناجل المغزوزة في حملات الحطب على رؤوس النساء والصبايا، ويدفّعون الغرامات، أما قصص الحُب فلقيت رواجا واهتماما واسعا بين الشباب والكبار، ولأن "الكِسْرة في إيد الفقير هِجْنِه" كما يقول المثل، فرحتُ كالاطفال. هو أول كتاب يصدر في البلد.

يبست كروم العنب، بسبب المرض، كشّرت الارض، ونبَت فيها الطيّون، كانت ارض البلد خضراء في الموسم، كل سنة ينتشر المرض اكثر، والدوالي على حافة الموت البطيء المعذّب،

  • رشّتُه الدولة من الطيارة التي وقعت في الارض الغربية.
  • بدها تعوّف الناس ارضها.

نعم يبدو ان الدولة هي التي تسببت في خراب الكروم، ولم تحرّك ساكنا لإيقاف المرض الذي أصاب الشّلوش، الجذور التي دبّ فيها العفن.

لكن زعَل الناس على الدولة قصير، وكله حكي في حكي، أما وقت الحزِّه واللزِّه، وقت الانتخابات، فالناس مع احزاب الدولة.

كتبت قصة بعنوان "حشرجة الدوالي" ونُشرت وأحبتها رفيقة من ام الفحم، لكن القصة ضاعت، يومها مشيت في الكروم الخربانة، أوراق صغيرة صفراء عاجزة، وفنود مقصّرة، غُبرة الموت في كل المواقع. والناس في القرى المجاورة، في الشاغور والبطوف يتحسّرون:

  • يا حْوينتُه عنب بلدكو!!

انقطعت انواع العنب البلدي او صارت نادرة: المدوّر، الصّفدي، صبعين العروس، السّرطباني، القرقشاني، المرَواني، الزّتوني، المعطّر..

انتصرت جبهة الناصرة، وتوفيق زياد رئيس البلدية، والناصرة هي الناصرة، وتتقاطر وفود التهنئة، والشبيبة الشيوعية على حيلها، وجوه شابة نضِرة قوية، ولباس موحّد وربطات عنق حمراء تنشد:

نحنُ شِدْنا المعالي

   وسنبني حياة السلام

نحن اُسْد النضال

  وحّدتنا الأماني العظام

نشيد الشباب الدمقراطي العالمي، بعشرات اللغات وبلحن واحد، وهكذا نشيد الأممية، كثرة من اللغات ولحن واحد:

هُبوا ضحايا الاضطهاد

  ضحايا جوع الاضطرار

بركان الفكر في اتقاد

  وهذا آخر انفجار

وفي المهرجانات يهدر صوت العريف:

هذي وفود قُرانا

  أخوتنا في شقانا

هبّتْ تلبّي ندانا

 هيّا رفاقي للكفاح

في مهرجان برلين، حضّر الرفاق الالمان مطاحن قهوة صغيرة، بحجم الجوزة، تديرها باليد، فتصدح موسيقى نشيد الشباب.

بحكم عملي في قيادة الشبيبة الشيوعية، سكرتير منطقة عكا وعضو السكرتاريا القطرية شاركت في العديد من مؤتمرات الشبيبة في العالم، قبرص واليونان والدانمارك وكل الدول الاشتراكية، ما عدا الصين وألبانيا – بقيادة أنور خرجا –

وظل الخلاف على أشده بين القيادة الصينية بقيادة ماوتسي تونغ، وشو ان لاي، وليوتْشاوتشي، وكان الخلاف زمن نيكيتا خروتشوف الذي بادر الى محاكمة ستالين ونقل رفاته من جدار الكرملين. وكان حزبنا ومعظم الأحزاب الشيوعية في صف الاتحاد السوفييتي عدا ألبانيا، اما الفيتنام البطلة التي كانت تقاوم الإجرام الامريكي، فقد ساهم الخلاف في إطالة الحرب وتقديم الشهداء، والطائرات الامريكية من نوع بي 52 تهاجم وتدمر من القاعدة الامريكية في جزيرة غوام، حتى تحررت سايغون بقيادة هوشي مِنْه والجنرال غياب وجحافل الفيتكونغ، انهزمت امريكا كما انهزمت اليابان، وانهزمت فرنسا في معركة دْيان بْيان فو الحاسمة.

في زيارة الفيتنام وكوريا الشمالية تنداح وتنبسط في المخيّلة الجريمة والعقاب، وتستنكر بقرف كيف ان فورموزا أم ال تِسع ملايين عضو في الامم المتحدة ومجلس الامن، وجمهورية الصين الشعبية أم مئات الملايين يومها خارج هذه الهيئة لأن امريكا تعارض.

خرج او فُصل خمسة من رفاق حزبنا لأنهم كانوا من مؤيدي الصين أذكر منهم محسن أبو طافش من فرعنا، وإذا لم تخني الذاكرة داوود تركي من حيفا، وقد يكون منهم أديب الخوري من الرامة، ان أحد الأسباب الكامنة من نشر هذه الحلقات قبل صدورها في كتاب هو اصلاح الخطأ اذا وقع من قبل الرفاق، لأن هذه الشذرات من الذاكرة فقط، وليس من الوثائق إلا فيما قلّ.

عن زيارتي للفيتنام كتبت قصة بعنوان: زهرة الهيمونغ، قال لي سميح القاسم: قصة رائعة جدا، نُشرت في مجموعة غبار الثلج.

وعن زياراتي العديدة لكوريا نشرت قصة في حلقات بعنوان: آروهاي على ضفاف البوتومغ، لم يعلّق عليها أحد، فهي لم تصدر في كتاب لغاية الآن، آروهاي الكورية من أجمل وأقوى الفتيات اللواتي التقيتُ بهن، في كوريا تعلمت جملة صباح الخير بلغتهم – آن يون هاسِن نيغا، قلتها للوفد الكوري في المكسيك وجنوب افريقيا فحسبوني – "بُلبل" في اللغة الكورية وراحوا يرطنون حتى رفعت يدي مستسلما،  وكذلك جملة "أنا أحبّك: نا نُنْ تانْسي نُلْ سارِم همينْدا"، فرِحوا جدا بقصة آروهاي ووعدوا بترجمتها وإصدارها في بلادهم الجميلة والقوية، القائد العظيم كيم ايل سونغ شدّ على يدي الصغيرة بيده الكبيرة، أنا الشيوعي العربي الفلسطيني من الحزب الشيوعي الاسرائيلي كما عرّفوني.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب