news-details

جلبير الأشقر في حوار مع الـ"اتحاد": نحن في مرحلة "كآبة تاريخية" وهزيمة ترامب دفعة معنوية للنضال التقدمي في مجتمعات مأزومة

جلبير الأشقر هو مفكر وأكاديمي لبناني، عمل كباحث وأستاذ جامعي في كل من بيروت وباريس وبرلين، ويشغل منذ عام 2007 كرسي دراسات التنمية والعلاقات الدولية في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) في جامعة لندن. وهو أحد مؤسسي "مركز الدراسات الفلسطينية" في المعهد ورئيسه الأول بين عامي 2012 و2018. له كتب عديدة، منها "صدام الهمجيات: الإرهاب والإرهاب المضاد والفوضى العالمية" (2002)،العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية-الإسرائيلية (2010)، والشعب يريد: بحثٌ جذري في الانتفاضة العربية (2013)، وانتكاسة الانتفاضة العربية: أعراضٌ مَرَضية (2016). واصدر كتابًا مشتركًا مع المفكر الامريكي نعوم تشومسكي  بعنوان "السلطان الخطير: السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط" (2007). ويحرّر عمودًا أسبوعيًا في صحيفة "القدس العربي".


حاوره: حسن مصاروة​

"الاتحاد": لطالما كان هناك ميل فيما يتعلق بالانتخابات الأمريكية، في أوساط معينة في صفوف اليسار بالذات، لرؤية مرشحي الحزب الجمهوري والديموقراطي كوجهين لعملة واحدة ولا توجد فروق واسعة بينهما، يمثل كلاهما مصالح ذات الطبقة الحاكمة وأن المسافة السياسية بينهما لا أثر لها على أرض الواقع، وخاصة مع اضمحلال الفروق، في العقود الاخيرة، في برنامج الحزبين فيما يتعلق بالتوجهات الاقتصادية والموقع من المنظومة النيوليبرالية. لكن ترامب شكل بـ"استثنائيته" وخروجه عن كل التقاليد السياسية غير المكتوبة للرئاسة الامريكية والملامح النيوفاشية الواضحة التي حملتها رئاسته، كسر هذه الرؤية بشكل كبير، وهذا ما حث نخب ومثقفين ومنظرين محسوبين على اليسار الراديكالي في الولايات المتحدة للتجند بقوة من أجل الاطاحة بترامب، ومع بؤس المشروع الذي يمثله بايدن، دعوا للتصويت له عملاً بمبدأ اختيار "أهون الشرين"..

ما الذي تعنيه حسب رأيك هزيمة ترامب بحد ذاتها؟ ولماذا شكلت هذه الأهمية؟ وما هو الأثر الفعلي لها على صد التدهور اليميني والفاشي على مستوى الولايات المتحدة وعلى مستوى قوة اليمين التي انتعشت منذ وصول ترامب الى الرئاسة في اوروبا وفي العالم؟

 

جلبير الاشقر: في الحقيقة، لم يكن اليسار الأمريكي تاريخيًا مجمعًا على النظر إلى مرشحيّ الحزب الجمهوري والديموقراطي في الانتخابات الرئاسية على أنهما وجهان لعملة واحدة، بل كان ذلك موقفًا تقليديًا للقسم الأكثر راديكالية من اليسار الأمريكي. أمّا الشيوعيون الأمريكان، على سبيل المثال، فكانوا يدعون تقليديًا للتصويت لمرشح الحزب الديموقراطي. حتى أن هناك قسمًا من اليسار الأمريكي منضوٍ في صفوف الحزب الديمقراطي، وهو تيّار الاشتراكيين الديموقراطيين الأمريكان (DSA). إن اعتبار جناحي الطبقة الحاكة الأمريكية كوجهين لعملة واحدة كان له معنى أقوى قبل وصول رونالد ريغان إلى الحكم، لأن المسافة بين الديموقراطيين والجمهوريين بعد الحرب العالمية الثانية، في الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات، كانت ضيقة جدًا. لو قارنّا مثلاً بين ترومان الديمقراطي وأيزنهاور الجمهوري، وكلاهما من رؤساء الحرب الباردة، لوجدنا أنهما سيان. قبل الحرب العالمية الثانية، كانت هناك رئاسة الديمقراطي فرانكلن روزفلت التي يمكن اعتبارها أكثر رئاسة تقدّمية في التاريخ الأمريكي، لكن الأمر اختلف بعد الحرب العالمية الثانية وضاقت المسافة بين الحزبين. واستمرّ التشابه بينهما حتى رئاسة ريغان في الثمانينيات، وبداية انزلاق الحزب الجمهوري باتجاه أقصى اليمين. بدأ ذلك مع ما سمّي "الثورة المحافظة" التي قادها ريغان في إطار الهجمة النيوليبرالية العالمية التي كان العمود الاساسي الآخر فيها مارغريت تاتشر في بريطانيا، واستمر الانزلاق مع رئاسة بوش الابن الذي وصل إلى الحكم مع جماعة "مشروع القرن الأمريكي الجديد" ، ثم ظاهرة "حزب الشاي" المعارضة لرئاسة باراك أوباما، وصولًا الى دونالد ترامب. أي أننا شهدنا سيرورة انزلاق يميني مستمرّة في الحزب الجمهوري على مدى أربعين عامًا، شكّل دونالد ترامب نتيجتها القصوى.


إن الطريقة التي سيطر بها دونالد ترامب على الحزب الجمهوري، هي مذهلة حقًا، ولا أتذكر أي رئيس أمريكي سابق سيطر على حزبه مثلما سيطر ترامب على الحزب الجمهوري، بتحويله الى "حزب ترامب". وقد أرسى واقعًا داخل الحزب يقضي بأن من يتجرأ على معارضة ترامب يتم تهميشه بالكامل. وبالتالي ومع هذا الانزلاق الواضح نحو أقصى اليمين، بات خطاب الجماعات التي تدعو لمقاطعة المرشحين الرئيسيين، أو تدعو الى التصويت لحزب الخضر، هامشيًا للغاية. رأينا وضعًا شبيهًا حينما كان أوباما مرشحًا للمرة الأولي في انتخابات عام 2008، فكان من الصعب على أي مجموعة من اليسار أن تقول إن اوباما ومنافسه الجمهوري جون ماكين هما سيان ويجب مقاطعة الطرفين، إذ كنّا أمام أول مرشح أسود أمامه فرصة فوز بالرئاسة في تاريخ الولايات المتحدة. وكانت هناك تعبئة شعبية واسعة في أوساط الجماعات التي تعاني من العنصرية، وبين السود بصورة خاصة، للتصويت لأوباما، وكان رفض التصويت له موقفًا انعزاليًا إزاء المد الشعبي، علمًا أن اوباما خيّب الآمال الشعبية بالطبع، لكن يمكن لليسار أن يساند مرشحًا دون بث أوهام حوله وبتبيان حدوده. وقد اختلفت الصورة عند ترشّح أوباما لولاية ثانية بعدما خيّب الآمال.


لكنّ دونالد ترامب حالة متميّزة عن كل ما سبق. كان واضحًا في عام 2016 من خلال حملته الانتخابية أنه رجل خطير فعلاً. لكن مع ذلك، كان لا يزال قسم من اليسار الأمريكي يتخذ موقفًا انعزاليًا ويعتبر أن لا فرق بين ترامب ومنافسته، هيلاري كلنتون، بالرغم من أنها كانت أول امرأة ذات حظ حقيقي في الفوز بالرئاسة. كان هذا الموقف ضيق الأفق، لأن بالرغم من حدود أوباما الجليّة وقصوره، كانت الهوة السياسية شاسعة بينه وكلنتون، من جهة، وبين ترامب من الجهة الأخرى. أما اليوم بعد أربع سنوات من حكم ترامب، فقد أصبح أي موقف يتعامل مع الطرفين، الجمهوري والديمقراطي، على أنهما وجهان لعملة واحدة موقفًا مهمشًا بالكامل. وقد رأينا في الانتخابات الأخيرة أكبر مشاركة في التاريخ الأمريكي، وهذا الكمّ العظيم من الأصوات التي ذهبت للطرفين، إنما كان بسبب إدراك الناس لخطورة المعركة وطابعها المصيري. ذلك أن المعركة الرئيسية لم تكن بين مرشح الحزب الجمهوري ومرشح الحزب الديموقراطي، بل كانت على الإطاحة بترامب. وتشير الاستطلاعات إلى أن أكثر ممّن صوتوا لبايدن، لم يصوتوا تحبيذاً له، أو لأنه يعبر عن طموحاتهم ويمثل مشروعهم السياسي، بل لأنهم أرادوا التخلّص من ترامب. رأوا أن الأولوية هي وقف سيرورة التطرف اليميني التي يقودها ويحفزّها ترامب، والتي أدّت إلى نتائج كارثية، ليس أقلها تسعير العنصرية ضد السود واللاتينيين والمسلمين وكافة المهاجرين. لذلك رأينا القسم الأعظم من اليسار الامريكي في هذه الانتخابات الأخيرة يتجنّد في الحملة للإطاحة بترامب، ولم تحد عن هذا الموقف سوى جماعات هامشية جدًا.


كانت هزيمة ترامب حدثًا بالغ الأهمية، وشكلت فارقًا نوعيًا كبيرًا. لو فاز ترامب لكان الأثر السلبي لفوزه كبيرًا جدًا على معنويات النضال التقدمي، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في العالم أجمع. على حملة "حياة السود مهمة" مثلاً، التي شكلت طوال هذه السنة الوجه الأبرز للنضال التقدمي داخل الولايات المتحدة والتي رأت في دونالد ترامب عدوّها الرئيسي. فإن هزيمة ترامب انتصار لهذه الحملة، وكذلك انتصار لكل النضالات المتضافرة، من نسوية وعمالية ومناهضة لسائر أشكال العنصرية وبيئية، وقد أصبح ترامب رمز العداء لهذه النضالات والدعوة لقمعها. لذلك شكّلت هزيمته انتصارًا مهمًا، مع اننا نعلم جيدًا أن جو بايدن لن يحقق"معجزات" ولن يتحول بين ليلة وضحاها إلى "تقدمي". لكن في المقابل هناك داخل الحزب الديمقراطي جناح يساري ازدادت قوته في السنوات الأخيرة، ويضم نائبات في الكونغرس مثل ألكسندرا اوكازيو-كورتيس ورشيدة طليب، ويستطيع أن يضغط ويؤثر على ادارة بايدن-هاريس.


أما فوز ترامب، لو حصل، فكان سيشكل تعزيزًا هائلاً للمد اليميني العالمي، الصعود العالمي لأقصى اليمين الذي نشهده منذ سنوات، وقد تسارع إثر الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008. رأينا بعض الحكومات تنزلق يمينًا مثل اردوغان في تركيا الذي انتقل إلى دغدغة مشاعر اليمين التركي، بل عقد تحالفًا انتخابيًا مع حزب اليمين الفاشي في تركيا. كذلك مودي في الهند، وبولسونارو في البرازيل، ورودريغو دوترتي في الفلبين، وماتيو سالفيني الذي شارك بصورة بارزة في الحكومة السابقة في ايطاليا، وفيكتور اوربان في المجر، وفلاديمير بوتين في روسيا، وبوريس جونسون في بريطانيا الذي يمثل انعطاف يميني شوفيني في حزب المحافظين وفي بريطانينا بوجه عام مع ظاهرة البركسيت. وكذلك هناك في فرنسا خشية حقيقية من أن تفوز ماري لوبان، ممثلة النيوفاشية الفرنسية، في الانتخابات الرئاسية القادمة، بعد أن نفّر ماكرون بسياساته النيوليبرالية الفاحشة قطاعات شعبية واسعة. نرى إذًا ظاهرة عالمية متمثلة بصعود أقصى اليمين على خلفية الأزمة الاقتصادية، وقد حفزها نزوح اللاجئين الهاربين من الحرب السورية الى أوروبا. وتذكرنا هذه الموجة اليمينية بظروف صعود الفاشية والنازية في القرن الماضي، لكن مع وضع عالمي هو أكثر خطورة في جانب، هو أن القوى العالمية الكبرى التي وقفت في وجه الفاشية في القرن الماضي، روسيا وبريطاينا والولايات المتحدة، كانت هي في طليعة أقصى اليمين هذه المرة وحتى هذا العام. ومن هذا المنطلق تكتسي هزيمة ترامب أهمية كبرى.




"الاتحاد": جو بايدن فاز بالانتخابات بشكل واضح، لكن مع ذلك لا يُمكن أن نصفه بالانتصار الكاسح، فرغم الاستنفار الكبير والاصطفاف الواسع ضد ترامب وشيطنته على مدى السنوات الماضية في وسائل الاعلام المركزية وتصويره على أنه الخطر الأكبر الذي يهدد الولايات المتحدة ويجب التخلص منه، استطاع أن يحافظ على قاعدته الشعبية، بل وسعها ببضع ملايين من الاصوات. والـ"موجة الزرقاء" التي توقعها الحزب الديموقراطي لم تجئ، وحزب ترامب الجمهوري الذي التف حوله بشكل غير مسبوق لم يُهزم في الانتخابات التشريعية، فهو قلص الفجوة في مجلس النواب وربما يحافظ على تفوقه في مجلس الشيوخ..

كيف تُفسر انه بالرغم من عنصرية ترامب الواضحة وبذاءته وكارثية تصرفاته وسوء ادارته لازمة كورونا التي أودت بحياة ربع مليون أمريكي واحتقاره للدستور والمؤسسات الديموقراطية استطاع أن يجمع مع ذلك تلك الكمية من التأييد وهذا الشرخ والانقسام العميق الذي تبدّى خلال الانتخابات، وأظهر بالفعل وجود "أميركيتين" يعززه الآن رفض ترامب الاعتراف بنتائج الانتخابات وبث مزاعم التزوير ونظريات المؤامرة التي تلقى رواجًا بين قاعدة مؤيديه؟

الأشقر: بالفعل، وهذا مذهل حقًا، أن انسان مثل دونالد ترامب، بعد أربع سنوات مما شاهدناه من سلوك كارثي في السلطة، يستطيع أن يزيد بصورة كبيرة عدد مؤيديه. أي حينما يُقال إن بايدن حصل على أكبر عدد من الأصوات في التاريخ الأمريكي، حوالي 80 مليون صوت، يجب أن نضيف مباشرة أن ثاني أكبر عدد أصوات في التاريخ الأمريكي حصل عليه ترامب في هذه الانتخابات. وهي ظاهرة انصب علماء السياسة والباحثون والمحللون على دراستها، بحثًا عن إجابة على سؤال من يصوت لترامب وكيف حصل على هذا التأييد الشعبي بالرغم من كارثيته؟ والحقيقة أننا أمام مجتمع في تأزم، والتأزم له أبعاد ومستويات مختلفة. البعد الأساسي هو تردّي الظروف المعيشية، على خلفية استمرار نيوليبرالية فجة تقوم على تقليص النفقات الاجتماعية وزيادة النفقات العسكرية بالمقابل، مع تقليص الضرائب على الأغنياء، وهي نيوليبرالية انتصرت منذ عهد ريغان وصولاً الى ترامب. وتنضاف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية لعام 2008 التي ورثها أوباما من بوش، وقام بضخ أموال حكومية لتعويم القطاع المصرفي بهدف الحد من وقع الأزمة على الاقتصاد الامريكي. ومع أن أرقام البطالة الامريكية قد تبدو منخفضة بالمقارنة مع بلدان أخرى، لكن إذا عاينا مدخول العاملين، نرى انه منخفض جدًا بالمقاييس التاريخية، وقد تكوّنت في الولايات المتحدة ظاهرة "العاملين الفقراء"، أي أن الفقراء لم يعودوا يقتصرون على العاطلين عن العمل، بل هناك اناس فقراء بالرغم من أنهم يشتغلون، أي أن مدخولهم الناتج عن الشغل هو دون خط الفقر.


كل هذه الازمات تولّد تشنجات اجتماعية، مثل أي أزمة اقتصادية هامة على غرار ما حصل بين الحربين العالميتين في القرن العشرين. فعندما انفجرت الازمة الاقتصادية الكبرى في حينه، عززت التجذر في اتجاهين معاكسين، تجذر يميني مقابل تجذر يساري بما أدّى بالتالي إلى الصدام بين التجذرين، وقد ضاق مجال "الوسط" الذي لا يتوسع سوى عندما تكون هناك حالة اقتصادية مريحة للأغلبية. وهذا ما رأيناه مع نزوع الجمهوريين والديموقراطيين نحو "الوسط" عندما كان الوضع الاقتصادي مزدهرًا في الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. غير أن الوضع المعيشي لغالبية الشعب الامريكي باتت في تردٍ مستمر في العقود الأخيرة بينما أثْرت أقلية ضئيلة إثراءً فاحشًا، وهذا ما يؤدي لردود أفعال مختلفة على مستوى الانقسام الاجتماعي والتجذر السياسي. فنلاحظ أن قطاعًا واسعًا من قاعدة ترامب الأساسية هم رجال بيض بمؤهلات تعليمية دنيا، وهم معرّضون للبطالة ولأعمال ذات دخل منخفض بصورة أكبر من الأكثر تعليمًا، وهؤلاء بالذات يسهل على قوى اليمين الشعبوي تحويل سخطهم على الوضع الاقتصادي القائم إلى غضب عنصري على مجموعات عرقية وثقافية أخرى يُحمّلها اليمين وزر الازمة الاقتصادية، وهذه حالة متكررة في التاريخ. هذا ما حصل حينما حمّلت النازية وزر الأزمة الاقتصادية في المانيا لليهود. وهذا ما يقوم به ترامب واليمين الأوروبي إزاء المهاجرين، والمسلمين على الأخص. إنها عملية معهودة في البحث عن أكباش فداء في أقليات مستضعفة، يتم توجيه الأنظار اليها وإلقاء اللوم عليها واتهامها بأنها تسلب الوظائف والموارد وتتحمل مسؤولية الازمة. تلك الفئة الاجتماعية البيضاء المعبأة سخطًا وعنصرية على الاقليات والمهاجرين برد فعل على أزمتها الاقتصادية تُشكل قسمًا هامًا من قاعدة ترامب الانتخابية.


نستخلص من ذلك أن ظاهرة ترامب لا تقتصر على شخص دونالد ترامب. فحتى لو سلم بفوز بايدن وخرج من البيت الأبيض، لن يخرج من الساحة السياسية، بل واضح أنه سيبقى فيها وسوف يخطط للانتقام بعد أربع سنوات. هذا لأنه كان رئيسًا لولاية واحدة، ويحق له بالتالي الترشح مرة أخرى. فسوف يسعى لذلك على الأرجح، خاصة أن القاعدة الشعبية التي حشدها حول شخصه لا زالت موجودة ومتجذرة، والانقسام الذي خلقه في المجتمع الأمريكي سيبقى حاضرًا في المستقبل المنظور. لهذا السبب، فإن فقدانه لزمام السلطة يشكل فرقًا كبيرًا، لانه لو استمر رئيسًا أربع سنوات أخرى لكان عزز التجذر اليميني في اوساط قاعدته الشعبية وفي المجتمع والسياسة مع ما يحمله ذلك من انعاكاسات على الوضع العالمي كما سبق وذكرنا. بيد أن سقوطه في الانتخابات لا يعني بحد ذاته أن أمره انتهى ولا يعني هزيمة كاملة لليمين الأقصى، وستستلزم الأمور استمرارًا في النضال الشعبي ضد اليمين وتستدعي اجراء تغييرات اجتماعية-اقتصادية تقدمية في الولايات المتحدة لسحب البساط من تحت أرجل اليمين الأقصى. هذا ما يدعو له اليسار الامريكي، الذي يتواجد قسم كبير منه داخل أو حول الحزب الديموقراطي، وهم يضغطون بهذا الاتجاه. وسوف نرى ما تسفر عنه هذه التجاذبات داخل الحزب الديموقراطي وأثرها على برنامج الادارة الجديدة. ولو هيمن عليها يمين الحزب الديمقراطي، كما هو مرجّح، فإن ذلك ينذر بإعادة أقصى اليمين الجمهوري إلى الحكم مثلما أدّى إخفاق سياسات كلنتون وأوباما الملتزمة بالإطار النيوليبرالي إلى صعود اليمين الجمهوري بعدهما، بوش أولًا ومن ثم ترامب.


"الاتحاد": بالرغم من كابوسية فترة ترامب الرئاسية، كانت هناك بارقة أمل، فهي حفزت الجناح اليساري والتقدمي في داخل الحزب لمضاعفة نشاطه، وحتى ظاهرة بيرني ساندرز أخذت زخمًا شعبيًا أكبر وكان حولها التفاف شبابي مثير للاهتمام. نتكلم عن مرشح يعرف نفسه كـ"اشتراكي" في الولايات المتحدة ذات التاريخ الطويل من معاداة الشيوعية والاشتراكية، ومع ذلك فهو استطاع تجنيد الملايين من المؤيدين وتشكيل منافسة حقيقية لجو بايدن على بطاقة الترشح. كيف تفسر ظاهرة صعود هذا الجناح اليساري وعودة الاسئلة الطبقية ومساءلة جوهر المنظومة النيوليبرالية من قبل اليسار؟


الأشقر: تحدثنا عن الأزمة الاقتصادية وما حصل بين الحربين العالميتين في القرن الماضي، وعن الانشطار الاجتماعي والتجذر السياسي يمينًا ويسارًا، وهذا عين ما يحصل اليوم. ذكرتُ في أكثر من مناسبة أن الجديد والأكثر إثارة للاهتمام في عام 2016 في الانتخابات الأمريكية السابقة، لم يكن ظاهرة ترامب، على كل غرابتها وتطرّفها، لأن ترامب كما ذكرنا هو ذروة طبيعية لانزلاق الجمهوريين نحو أقصى اليمين الذي بدأ مع رونالد ريغان. بينما الجديد والمثير حقًا للاهتمام فهو ظاهرة صعود بيرني ساندرز. راينا لأول مرة مرشحًا يعلن أنه اشتراكي ويحصل على هذا الزخم والتأييد، مع ملايين من المؤيدين على مستوى الولايات المتحدة في الانتخابات التمهيدية الى حد ان فوزه ببطاقة الترشح عن الحزب الديموقراطي كان امكانية حقيقية. مثل هذا لم يحصل منذ الحرب العالمية الثانية على الاقل، إذا اعتبرنا ان الرئيس روزفلت كان يمثل نهجًا مماثلًا نوعًا ما لنهج ساندرز، وقد اتهمه اليمين الأمريكي بأنه يساري، بل شيوعي. طبعًا، لم يكن روزفلت اشتراكيًا، لكنه كان تقدميًا بلا شك، واتبعت رئاسته نهجًا تقدميًا في مواجهة الأزمة الاقتصادية-الاجتماعية في الثلاثينيات. فحيث وصل روزفلت إلى الحكم على خلفية بطالة معممة وأزمة اقتصادية شديدة، عالجها ببرنامج تقدمي من استخدام الأموال العامة في مشاريع اقتصادية وأشغال عامة وتوظيفات وضمان اجتماعي لمصلحة الفئات الشعبية والعمّال. فإن ظاهرة ساندرز أول ظاهرة من هذا النوع ذات زخم شعبي حقيقي منذ تلك الايام.

وهذا شيء مهم جدًا، والأهم فيه أن القسم الاكبر من قاعدة بيرني ساندرز تتكوّن من الشباب. وعندما ننظر الى الحراكات الاجتماعية في الشوارع الأمريكية، مثل حركة "حياة السود مهمة"، نراها تضم شبابًا من كافة الأجناس والأعراق، وهذه سمة مشجعة للمستقبل. من بالغ الأهمية أن يكون القسم الاكبر والانشط من الشبيبة، ليس منجرًا وراء الفاشيين كما في ايام فاشية القرن العشرين، بل ناشطًا في صفوف اليسار. ولو استمر هذا التيار الشبابي بالصعود، سيكون للأمر وقع كبير على كل العالم نظرًا لمحورية الولايات المتحدة الأمريكية. هذه ظاهرة من دواعي الأمل الكبرى، خاصة أننا نعيش في مرحلة من "الكآبة التاريخية". فحينما ننظر الى الوضع السياسي والاجتماعي حول العالم، وقد انضافت اليه الجائحة، نشعر أننا أمام وضع تاريخي كئيب فعلًا. ولو فاز ترامب في مثل هذه الاجواء لكان تثبيط معنويات القوى التقدمية على المستوى العالمي هائلاً. اما وقد سقط بينما يستمر اليسار في الصعود في صفوف الشباب، فهذا يعزز الأمل والمعنويات على الصعيد العالمي. نقف اليوم أمام معركة تاريخية حاسمة، يتوقف مصير العالم عليها.

 وحينما أقول "مصير العالم" لا أبالغ، فمع اننا لا نواجه اليوم خطرًا محدقًا لحرب عالمية نووية، كما في مرحلة سابقة، فإننا نواجه افناءً للبشرية من نوع آخر، وهو الأزمة المناخية. وهو جانب آخر مهم جدًا من المعركة ضد ترامب الذي يعجّل الكارثة إزاء الخطر المحدق الذي تواجهه البشرية بسبب الازمة المناخية، وذلك بعدم اعترافه بحقيقة الاحتباس الحراري وانسحابه من اتفاقيات المناخ وتفكيكه للإجراءات البيئوية التي اتخذتها إدارة أوباما بينما المطلوب مضاعفتها كمًا ونوعًا. ومن هذه الناحية فثمة فرق نوعي بين ترامب وبايدن، بالرغم من حدود هذا الأخير. فإن الأمر سيتطلب نضالًا كبيرًا تخوضه القوى التقدمية للضغط على ادارة بايدن من أجل سياسات أكثر جذرية، ولا سيما الفرقة التقدمية في الكونغرس بقيادة اوكازيو كورتيز ومشروعها من أجل "صفقة جديدة خضراء". من الواضح أن مثل هذا النضال ستكون له فرصة أكبر بكثير في تحقيق نجاحات مع ادارة ديموقراطية مما لو أعيد انتخاب ترامب. فإن عودة الولايات المتحدة الى الاتفاقيات المناخية والضغط الذي سيشكله الجناح اليساري على الإدارة الجديدة سيشكلان رافعة حقيقية لهذا النضال العالمي الذي يتوقف عليه مصير البشرية جمعاء.



"الاتحاد": تصرفت الامارات ومن تبعها من دول خليجية، عمان والبحرين، كأنها جزء من حملة اعادة انتخاب ترامب، وقدموا له هدايا التطبيع العلني مع اسرائيل قبل أشهر قليلة من الانتخابات ليصورها كانها انجاز له على مستوى السياسة الخارجية وملفات الشرق الاوسط والانحياز لمصالح اسرائيل في المنطقة، كما نجحت مساعي الابتزاز الامريكي بمساعدة الامارات في ارضاخ الحكام في السودان للانضمام الى ركب التطبيع واضفاء مصداقية أكبر على ما سمي "اتفاقية ابراهيم".

ما الذي ستعنيه هزيمة ترامب بالنسبة للتحالف الخليجي-الإسرائيلي الذي خرج إلى العلن في فترته الرئاسية وما الذي ستعنيه على مستوى مسارات التطبيع العربي؟


الأشقر: إن التواطؤ بين دولة الإمارات وترامب سابق لاعتلائه سدة الرئاسة في عام 2017. فقد بيّنت وثائق جرى الكشف عنها في الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة، من خلال التحقيقات حول حملة ترامب الانتخابية في عام 2016، بيّنت مدى تواطؤ الإمارات مع حملة ترامب، ومعهما روسيا بوتين. من خلال سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة، تواطأت الإمارات مع حملة ترامب مثلما فعل نتنياهو. فمحمد بن زايد، متولّي العهد الإماراتي، ونتنياهو شكّلا جبهة واحدة ونظرا لترامب منذ البداية كحليف أساسي لهما تمنّيا أن ينتصر، وحين فاز ترامب اعتبرا ذلك انتصارًا لهما. وكان ثم للإمارات دور أساسي بدفع ترامب الى ان يقوم بزيارته الرئاسية الأولى خارج بلاده الى المملكة السعودية، حيث التقى اليمين العربي في الرياض، لاسيما محمد بن سلمان، متولّي العهد السعودي، وعبد الفتّاح السيسي. ومن هناك كان الضوء الأخضر لشنّ حملة على قطر في ظل التنافس الخليجي بين قطر، بوصفها راعية الاخوان المسلمين، وبين الإمارات بوصفها ألدّ أعداء الإخوان من منطلق يميني. وبعد أن كانت السعودية قد عادت قبل فوز ترامب الى التعاون مع قطر والاخوان المسلمين، في اليمن بوجه خاص، عادت بعد فوز ترامب إلى معاداتهم.


أما نتنياهو، فإن سنوات ترامب كانت بمثابة الحلم بالنسبة له. وإذا كان هناك مجال تميز به ترامب في السياسة الخارجية أكثر من غيره فهو مجال السياسة تجاه اسرائيل. إن ترامب أول رئيس أمريكي ينحاز بشكل كامل الى اليمين الصهيوني ويعطيه ضوءًا أخضر بلا حدود من خلال سياسات مثل نقل السفارة والاعتراف بضم الجولان ومشروع "صفقة القرن" الرامي إلى تشريع ضم الضفة. وهذا كله طبعًا على خلفية تواطؤ إماراتي، والكل يعلم أن بين دولة الإمارات ودولة اسرائيل علاقات تعاون أمني وعسكري قبل الإعلان عن إقامة علاقات رسمية بينهما.


لكن ما هو حقًا ملفت للنظر الآن، هو أن محمد بن زايد وحتى محمد بن سلمان، بالرغم من خسارة ترامب في الانتخابات، يمضيان قدمًا مع ترامب في مشاريع ومواقف يعلمون أن ادارة بايدن القادمة لا ترحّب بها. ومن المستغرب فعلاً أن تكون لديهما الجرأة في خوض هذا المسار. تحاول إدارة ترامب تسريع جملة من الأمور قبل أن تخرج من البيت الابيض، وجولة بومبيو الاخيرة تظهر ذلك بوضوح كامل. فهو يدفع بقوة نحو خطوات تطبيع أخرى ونحو توثيق التحالف الخليجي مع إسرائيل. ويندرج اللقاء الذي كُشف عنه بين نتنياهو وبن سلمان في هذا السياق. أما النفي السعودي الرسمي للخبر فقد يشير إلى أن هناك موقفًا سعوديًا رسميًا يمثله الملك سلمان أكثر حذرًا من مواقف بن سلمان المنجر وراء بن زايد. هذان الأخيران يستمران بالعمل والتنسيق مع ادارة ترامب بالرغم من أنها أصبحت ما يسمى في السياسية الامريكية "بطة عرجاء" (lame duck)، وهو تعبير يُطلق على رئيس خسر في الانتخابات ولا تبقى أمامه سوى بضعة أسابيع في الحكم بحيث أن ليست له سلطة حقيقية. ومع ذلك يستمر متولّيا العهدين بالتنسيق الكامل مع إدارة ترامب، بحيث يبدو أنهما يستعدان لمواجهة مع الادارة القادمة. كان نتنياهو أكثر حذرًا واعترف بفوز بايدن واحتفى بصداقتهما، بالرغم من أنه يعلم تمامًا أن بايدن لم ينسَ أن طوال عهد أوباما تصرّف نتنياهو على خلاف من سبقه في رئاسة الحكومة الصهيونية، ليس كصديق للطبقة الحاكمة الأمريكية بحزبيها، بل كأنه فاعل سياسي في السياسة الداخلية الأمريكية ينتمي إلى الجمهوريين. فهو أول رئيس وزراء اسرائيلي تدخّل في السياسة الامريكية الى جانب المعارضة بصورة مباشرة ومكشوفة. وبالرغم من تصريحاته عن صداقته لبايدن، لا شك أنه سيستعيد هذا النهج في وجه الإدارة الجديدة لو حاولت الضغط عليه. ولا استبعد أن يشكل بن زايد ونتنياهو محورًا شرق اوسطي يراهن على عودة ترامب، ويستمران في ظل الادارة الحالية في تحالفهما مع ترامب، ويدعمان من ثم حملته للرئاسة في عام 2024 (لو تمكّن نتانياهو من البقاء في الحكم حتى ذلك الحين)، ويستندان الى الجمهوريين بزعامة ترامب لو حازوا من جديد على الأغلبية في مجلس الشيوخ.


وفي المقابل سوف نرى ما الذي سيحصل في السعودية وإذا كانت ستنضم المملكة بأسرها الى هذا الحلف. أما محمد بن سلمان فهو يدرك تمامًا أن رئاسة بايدن تشكل خطرًا كبيرًا عليه شخصيًا، لاسيما أن بايدن قد أدلى بتصريحات ضدّه. وليس هناك اجماع داخل العائلة المالكة السعودية على محمد بن سلمان، فهو يعلم بالتالي ان حظوظه في ترتيب العلاقة مع ادارة بايدن محدودة جدًا. لذلك قد يختار المضي في التحالف المباشر مع بن زايد ونتنياهو. وقد كتبت مقالًا قبل أسابيع، قبل الانتخابات الأمريكية، بعنوان "بن سلمان في الميزان"، ذكرت فيه ان فشل ترامب في الانتخابات سيشكل خطرًا كبيرًا على مصير بن سلمان، وهو يدرك ذلك جيدًا. فسوف نرى ماذا ستفضي إليه التجاذبات والصراعات داخل المملكة السعودية في ظل الادارة الامريكية القادمة.




"الاتحاد": كل القوى السياسية الفلسطينية أبدت "ارتياحها" لخسارة ترامب عرّاب صفقة القرن، والسلطة الفلسطينية لم تخفِ سعادتها البالغة بذلك، حتى انها سارعت لتقديم اوراق اعتمادها وبوادر حسن نيتها لبايدن قبل حتى دخوله رسميًا الى البيت الابيض وأعلنت عن عودة التنسيق الأمني. ما الذي تحمله هزيمة ترامب وفوز بايدن على مستوى القضية الفلسطينية؟ وما هي الأفق والخيارات المطروحة أمام الشعب الفلسطيني والقيادة الفلسطينية في المرحلة القادمة وفي سياق علاقتها مع الادارة الامريكية الجديدة؟


الأشقر: صحيح أن القوى الفلسطينية ارتاحت بشكل عام لسقوط ترامب، لأن معاداة ترامب للشعب الفلسطيني جليّة وفجّة، وكما ذكرنا فإن انحياز ترامب لم يكن للصهيونية بوجه عام بصورة تقليدية، بل لليمين الصهيوني، وهذا ما لا يمكن التقليل من شأنه. فإن القول إنه لا فرق بين بايدن وترامب بالنسبة للفلسطينيين، قول غير واقعي. أن يكون الحكم الأمريكي، عرّاب الدولة الصهيونية، داعمًا لأكثر اطرافها يمينية وتطرفًا، بدلا من كبح بعض السياسات الصهيونية، لاسيما الأكثر يمينية، كما حصل تاريخيًا من قِبَل الادارات الامريكية السابقة، فهذا فارق هام بالتأكيد. وهو ما حال دون ضم إسرائيل لأراضي الضفة بعد أكثر من نصف قرن من احتلالها، ولو بقي ترامب في الرئاسة لكان من المؤكد أن عملية الضم سوف تمضي قدمًا، وهي تأخرت أصلًا بسبب الأزمة الحكومية الاسرائيلية وليس بسبب إدارة ترامب. أما إدارة بايدن فمن المستبعد أن توافق على ضم إسرائيلي وحيد الجانب لأراضي الضفة، وهذا يمنح هامشًا أوسع للنضال الفلسطيني.


لكن مشكلة "السلطة الفلسطينية" ورئيسها محمود عباس، هي بالأساس نهج المراهنة على الإدارة الامريكية، وهو نهج مستمر منذ ياسر عرفات ولم يحقق الا الهزائم. ظن أبو عمّار أن مد اليد للإدارة الامريكية سيحقق حلمه في "دولة فلسطينية مستقلة" فكان موهومًا، وقد تبين له ذلك في نهاية المطاف فعارضه ودفع الثمن بحياته. إن أساس مشكلة "السلطة الفلسطينية" هو المراهنة على الحكومة الأمريكية. فعلى الشعب الفلسطيني أن يتكل على قواه النضالية الذاتية بصورة أساسية، وعلى سائر الحركات الشعبية الداعمة له. ذلك أن الحالة النضالية في الداخل تستطيع أن تؤثر على السياسة الأمريكية والسياسات الدولية أكثر بكثير من التودّد للحكم الأمريكي. وتوجد الآن أكثر من أي وقت مضى كتلة تقدمية داخل السياسية الامريكية مناهضة لسياسة اليمين الإسرائيلي، وميزان قوى يسمح بأمل أكبر في تعاطف شعبي مع القضية الفلسطينية، ولن يفلح التأثير على ميزان القوى هذا بالمراهنة على الحكومة، بل بتعزيز النضال الشعبي الذي يؤثر على المواقف العالمية. كانت ذروة النضال الفلسطيني وأعلى نقطة في وهج القضية الفلسطينية في الانتفاضة الأولى التي اعتمدت على المقاومة الشعبية. اثناء "ثورة الحجارة" بزخمها الشعبي العظيم الذي بلغته في عام 1988، كانت القضية الفلسطينية في ذروة وقعها العالمي، حتى أنها خلقت أزمة عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي بالذات. والانتفاضة الأولى هي ما أجبر الحكم الأمريكي في عام 1988 على بدء المفاوضات المباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية. لكن القيادة الفلسطينية في حينه وللأسف، بدلًا من أن تراهن على الزخم الشعبي وتستند إليه كرافعة من أجل إمالة موازين القوى لصالحها في المفاوضات، راهنت على كسب ودّ الادارة الامريكية بواسطة تقديم التنازلات. وهو بالضبط ما يفعله محمود عباس اليوم بإعادة التنسيق الأمني مع الاحتلال بهدف كسب ودّ يمين الحزب الديمقراطي، حتى قبل دخول بايدن الى البيت الابيض رسميًا، وهذا سلوك محكوم عليه بالفشل، وتاريخ العلاقات بين القيادة الفلسطينية مع والإدارات الأمريكية خير دليل على ذلك. إن المطلوب اليوم هو إفراز الشعب الفلسطيني لقيادة نضالية حقيقية تستند الى الزخم الشعبي والتعبئة الكفاحية في الداخل وفي المحيط، من أجل إعادة تشكيل ميزان قوى ضاغط على الإدارة الامريكية والحكومات الأوروبية كي تضغط بدورها على الحكم الصهيوني، فضلًا عن ضغط النضال الشعبي الفلسطيني مباشرة على المجتمع والحكم الإسرائيليين.


 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب