news-details

جنازَتان!!|  محمد نفاع

آن الأوان لإعادة نظر وتعديل واجراء تغيير في الكثير من الأمور المتبعة والمألوفة التي التصقت بنا بصلف وفظاظة مع أنها تناقض الحقيقة الدامغة والواقع وتشقلبها رأسًا على عقب.

لست أدري إذا كان ما حدث يدخل في مقولات الضرورة والصدفة والسبب والنتيجة وغيرها من المقولات الجدلية، أو يتقرب منها كمن يطلب ودّها وكأنها حسناء شهية سمراء بيضاء أو حنطية.

توفي "هوَ" في يوم ماطر، أوائل شباط، في سعد ذابح، الرياح تعصف حاملة معها شقعات من مطر مخلوط ببَرَدِ رخو داكن ذوّيب، يطرق ويخبط على الشمسيات بكثافة وعنف، متى نجد الإسم الملائم لهذه الواقية، الشمسية التي أهداها خديوي مصر الى أحمد شوقي في يوم لاهب حار. مظلة؟! لا تغيُر. لا أذكر ان أحدًا رفع شمسية لتخفيف الحر في شمس الربيع والصيف، وحتى في "المِشِمْشِيات" حيث يكون الحر في أوجه، لينضج هذا الثمر اللذيذ العطر، يحب الشمس وهو ثابت ساكن على أمه وليس كميّال الشمس يميل حين تميل، وحتى بعد انفتاح ثقب الأوزون وذوبان الجليد في القطب الشمالي ووباء التلوث، لا أحد رفع شمسية، فقط في الشتاء.

أهل البلد سُمر، سمرتهم حلوة، وإذا شكا أحدهم من وهج الشمس، ينفلتون عليه بألسنتهم الحادة.

  • معلوم!! خايف على بياضه، شق اللفتِه.
  • سكر، خايف تذوب!!

هل الحصّاد والكرّام والراعي والتّيّان ومعلم العمار يحمل الشمسية!!

توفي "هوَ" في يوم ماطر، وعندما ينفخ المنادي في مكبر الصوت لتسليكه، لأن هذا المكبر في كثير من الأحيان يحشرج حشرجة بشعة، أو يصفر صفيرًا حادًا يصم الآذان، إذا بدأ المنادي بكلمات بسم الله الرحمن الرحيم، فذلك بعني ان هناك وفاة. أما على بقية الأمور مثل دفع ضريبة الأرنونا، أو افتتاح محل جديد للأحذية والخضار والفواكه وكل انواع اللحوم، والدعوة الى عرس فليست بحاجة الى بسم الله الرحمن الرحيم.

نطق المكبر اسمه الكامل: المرحوم الشيخ (.....) أعطاكو عُمره.

اختلط الصوت مع الرياح الضاجة والشتاء العزّيم والغيوم المهرولة المتسارعة. قال اسمه الكامل.

الحقيقة ان كثيرين قالوا علنًا أو بالسر: إجره شَطَبهِ!!

ارتاحت البلد من شره. مع ان استعمال الشطبة قليل جدا، كانت تستعمل لتنظيف اسطبل البقر وخُم الدجاج أو تكويم الزبل في صِير وأحواش المعزى، وهي قليلة هذه الأيام.

وبالرغم من الطقس العاصف تقاطر الناس لحضور الجنازة من البلد وخارجها، حتى من أمكنة بعيدة، فنقل الخبر اليوم سهْل، بالهاتف أو أدوات هذا التواصل الاجتماعي.

أقول ان المنادي نطق باسمه الكامل، لأنه معروف بأسماء أخرى: الحرامي، الفساد، السمسار، العاطل، اللعين، الحَريق،...

كنت واقفاً في ضواحي هذا الحشد من المشيعين، في الأوَى تحت سقيفة بيت من الجيران، مع مجموعة من الناس، ومنهم سلمان ابن صفي في المدرسة الابتدائية، له خط جميل جدًا وصوت خشن جهوري، لم يقدر على القراءة الصامتة كما يطلب المعلم، بل يُهَمْهم بصوت منغم وكأنه وكر دبابير، شبعنا من الضحك، وقنط المعلم من ترويضه، يبدو ان في أوتار صوته زيادة وافرة.

تحت زخّ المطر، لكّ الإمام حطته على رقبته، وكذلك الشيوخ الأربعة، لتبقى العمامات وحدها على رؤوسهم كما هو متبع.

ويصل الامام في الصلاة: فإن كان مسيئًا تجاوز عن سيئاته، فهدر سلمان بصوت جهوري فظ: كان مسيئًا. البعض تضايق، أو سكت أو تبسّم.

"وإن كان مُحسنًا فزدْ من إحسانك على حسناته"...

  • لم يكن مُحْسنا!!

سلمان يحب الكلام النحوي.

  • الله يرحمه.

ورحمة المشايخ تُطلق على المتدين وصاحب الوصية بمبلغ من المال للأوقاف، والبدعة الجديدة على الجندي المتوفى لأنه يدافع عن الوطن في لبنان وغزة والضفة الغربية وجولان سوريا، أما على بقية الجُهال وبلا وصية فلا تجوز رحمتهم!! حتى لو كان والد أو شقيق الجندي المتوفى!!

صحيح انه قبل وفاته بساعات، وهو على فراش الموت، سلموه الدين، وألبسوه عمامة وهو ممدد بين حشد النساء النائحات. كلهن يلبسن السواد مع شرشف صوف مخرم ابيض ملقوح على الأكتاف. واحدة تندب بصوت حنون – بعض الأصوات بشعة لا تُطاق – وبقية الحريم يردّون عليها، هذا ذكرني – وبصورة وقحة غير ملائمة – بالضفدع القائد الذي يروح يقُر، وجموع الضفادع صامتة حتى تردّ عليه بانتظام وحسب الأصول.

والناس يشاركون في الجنازات، فهذا فرْض مفروض، الأرض والعرض، من المتبع التمسك بها.

  • الأرض!! هدَر سلمان. سمسر عليها.
  • العَرض!! شلّ عرض الناس.
  • الفرض!! يتصيد كلامًا ليفسِد.

يا عمي الواحد يحضر الأجر كرمى للأحياء وليس فقط للأموات، أهله أوادم. وكم وردة خلفت عُليقة!!

وفي عِزّ الربيع، والطقس لطيف، لا حرّ ولا برد، ونسمات طرية باسمة شفافة تسرح وتمرح معطرة بهذا الدفق من أنفاس الزهر الفوّاح، توفيت إمرأة صالحة، كل أعمالها وسيرتها صالحة، فهي من الصالحات، مستورة، أدمية، كلمة الغَبْرا ما بتطريها على لسانها، صَبرت على المرض، تقية، متممة للفرائض الدينية والاجتماعية، والأجر الحامي يكون بعدد المشاركين والمشاركات والحزن الحقيقي على الفقدان.

  • علم الله مرحومة.
  • لسانها دافي.
  • حرمة مستورة من أهل الخير ان شاء الله.

لكن!! العشرات فقط حضروا جنازتها. والمنادي يقول بحسب وصية أسرتها: الجنازة فقط لأفراد العائلة، كله بسبب شَبَح الكورونا وهذه التوصيات المكررة عدة مرات في اليوم. إبقوا في البيوت إلا في حالات الضرورة القصوى. أقفلت المدارس، ودور العبادة، والناس مع كمامات، والسلام بالكلام أو الأكواع، لا مخامسة، ولا معانقة، سيلُ عرِم من التنبيهات والتحذير، غسل الأيدي، واستعمال كاسات الكرتون لشرب القهوة والشاي ثم رميها، والإعلام يصب جام الأخبار عن الأعداد المتزايدة للإصابات والوفيات في الدول المتطورة، أساس البلا من وراء البحار، واختلاط السياسة والإجرام والانهيار، والحَجْر والحجز الصحي، وتجارب مندفعة لوقف الوباء.

عشرات متفرقة ومتباعدة فقط حضروا أجر الإمرأة الصالحة البارّة بسبب الكورونا الجامحة الجانحة.

فكيف لا يخطر على البال إعادة النظر وإجراء تعديل وتغيير في كثرة من الأمور، لا أقصد تسميات الشمسية، قطعا لا، بل في أمور أكثر وجاهة حتى لو طالت ضواحي وأطراف "العقيدة والايمان والحقيقة والبرهان".

وأنتم الذين ترحمون ولا ترحمون، تسهلون الموت والمصاب، على ذوي الشباب الأحباء الذين فقدوا حياتهم في خدمة المجرمين المحتلين، تنعشون المقابر العسكرية، غير عابئين بدموع الأمهات، بالثكل واليتم، وتُقيدون الأمر وتلتصقون بالقسمة والنصيب، أما عن الكورونا فتنفذون كل حذفور من التوصيات، وتكفرون بالقسمة والنصيب، أين أنت يا سلمان!! وقد تكون أجمل خصلة فيك أنك لا تقدر على القراءة الصامتة ولا على السكوت. فكيف لا يخطر على البال إعادة النظر في "سدق اللسان – بالسين وليس بالصاد – وحفظ الإخوان" ونحن وسلمان نريد لهؤلاء الشباب الحياة الحياة الحياة...

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب