news-details

جيفارا كأيقونة.. هل هذا يلغي نموذجَه الثَّوريّ؟| سعود قبيلات

اِنتشرتْ، خلال العقود الأخيرة، الرّموزُ المرتبطةُ بالثَّائر اللاتينيّ الأمميّ آرنستو تشي جيفارا (طاقيَّته الشَّهيرة «البيريه» وبالكيفيَّة الَّتي كان يلبسها بها، والنَّجمة الخماسيَّة، والملابس الكاكيَّة، واللحيَّة غير المحدَّدة الحوافّ)، لدى أوساط مختلفة في مختلف أنحاء العالم، سواء أكانوا فنَّانين مشهورين أم أفراداً مغمورين أم مقاتلين ثوريّين.

وفي هذا المناخ نفسه، أُنتِج فيلمٌ بعنوان «يوميّات درّاجة ناريّة» بالاستناد إلى كتابٍ لجيفارا بالاسم نفسه دوَّن فيه وقائع رحلته الشَّهيرة الَّتي قام بها في مطلع شبابه مع صديقٍ له، حيث طافا خلال تلك الرّحلة على مختلف أنحاء أميركا اللاتينيّة. والفيلم إنتاجٌ مشتركٌ لمؤسَّساتٍ سينمائيّة مستقلّة تنتمي إلى عددٍ مِنْ الدّول (الأرجنتين، والولايات المتَّحدة، والمملكة المتَّحدة، وألمانيا، وفرنسا، والبرازيل، وبيرو، وتشيلي).[1]

هذا الزَّخم الكبير في عودة جيفارا إلى الحضور، دفع المعترضين على نموذجه إلى رفع أصواتهم في محاولة منهم لإبعاد شبحه عن مسرح التَّاريخ. وأذكر، مِنْ بين هؤلاء، على سبيل المثال، الأديبين الشَّهيرين: أدونيس، في مقالٍ له بعنوان «غاندي، لا جيفارا»، وماريو فارغاس يوسا، في مقالٍ له بعنوان «جيفارا أسطورة أكثر ومصداقيّة أقلّ كلَّ يوم».

بالنِّسبة لأدونيس، يمكن النَّظر إلى موقفه مِنْ جيفارا وغاندي على أنَّه ينسجم مع توجّهه الفكريّ والسياسيّ في عمومه؛ لكن يجدر بنا القول هنا إنَّ هذا الموقف مبنيٌّ على منطق ميتافيزيّقيّ قاصر؛ حيث أنَّه ينظر إلى أسلوب غاندي في الكفاح باعتباره الأسلوب الوحيد المناسب والصَّحيح بالمطلق للوصول إلى الحرّيّة والديمقراطيّة والتَّحرّر الوطنيّ.. مع أنَّ غاندي اُغتيل في الآخر وقُسِّمَتْ بلاده. وينظر، مِنْ ناحية أخرى، إلى أسلوب جيفارا باعتباره غير صالح بالمطلق، مع أنَّه حقَّق إنجازاً باهراً في كوبا.

والوجه الآخر لهذا المنطق الميتافيزيقيّ، هو نظر بعض محبِّي جيفارا إلى أسلوبه على أنَّه هو أيضاً الأسلوب الوحيد المناسب والصَّحيح بالمطلق (والصَّالح لكلّ زمانٍ ومكان) للوصول إلى الحرّيّة والديمقراطيّة والتَّحرّر الوطنيّة والاشتراكيّة. لقد نجح هذا الأسلوب في كوبا، لكنّه لم ينجح في الكونغو وفي بوليفيا.. المحطَّتين الأخيرتين لكفاح جيفارا.

جيفارا وغاندي ليسا نموذجين متضادّين، بل هما نموذجان مختلفان في بلدين مختلفين وفي ظروف تاريخيّة مختلفة. وحدودهما التَّاريخيّة هذه لا تقلِّل مِنْ قيمتهما، بل تجعلهما أكثر قابليّة للإلهام والدَّفع لاستنباط أساليب جديدة تستند إلى التَّعامل مع الواقع العيانيّ الملموس – بحسب تعبير لينين – وإلى الحياة في ثرائها الشَّديد وعدم اقتصارها على اللونين الأبيض والأسود.

في هذه المحاكمات الميتافيزيقيّة، غاب نموذج نيلسون مانديلا و«المؤتمر الوطنيّ الإفريقيّ»، على سبيل المثال، الَّذي تلازم فيه الكفاح المسلَّح مع الكفاح المدنيّ السِّلميّ. وكذلك نموذج ثورة تشرين الأوَّل/أكتوبر السّوفييتيّة. وسوى ذلك الكثير من النَّماذج المختلفة الَّتي تؤكِّد أنَّه لكلّ بلد، ولكلّ مرحلة تاريخيّة، أسلوب كفاحٍ ملائم لهما ويختلف عن نماذج الكفاح الأخرى.

أمَّا في ما يخصّ ماريو فارغاس يوسا، فيبدو كشخص يصفِّي حساباته مع نفسه ومع تاريخه قبل كلّ شيء ثمّ مع جيفارا وكاسترو واليسار عموماً؛ حيث تطغى في مقاله مفردات المحاكمة الشَّخصيّة على مفردات المحاكمة الفكريّة والسياسيّة. يوسا كان في شبابه يساريّاً ومحبّاً لجيفارا وكاسترو وصديقاً لغابرييل غارسيا ماركيز، ثمَّ انقلب على أفكاره ومواقفه وأصبح يمينيّاً ومؤيّداً دائماً للولايات المتّحدة وسياساتها العدوانيّة. وفي هذا السِّياق، فقد دبَّج الكثير من المقالات تأييداً لاحتلال الولايات المتّحدة للعراق. بل لقد بلغ به الحماس لهذا الاحتلال حدَّ أنَّه سافر مع ابنته المصوِّرة مورغانا إلى مسرح العمليّات الحربيّة في العراق، وأنجزا عملاً مشتركاً بعنوان «يوميّات العراق». الأمر الَّذي يُسقِطُ من الحساب ذريعة العنف الَّتي تذرَّع بها في موقفه المعادي لجيفارا.

لقد كتبتُ في حينه مقالين في الردِّ على موقفيْ أدونيس ويوسا مِنْ جيفارا، الأوَّل بعنوان: «أدونيس في ذمّ جيفارا والثَّناء على غاندي»، ونُشِرَ في جريدة «الرَّأي» الأردنيّة في تاريخ 8 أيلول/سبتمبر 2006، والثَّاني بعنوان: «ماريو فارغاس يصارع شبح جيفارا»، ونُشِرَ في جريدة «الرَّأي» أيضاً في تاريخ 15 أيلول/سبتمبر 2006. وأَعدتُ نشرهما، لاحقاً، في مدوَّنتيّ بالعنوانين نفسيهما.

بالمقابل، بعض المثقَّفين، من محبِّي جيفارا، أثار شكوكهم انتشار الرّموز ذات الصِّلة بجيفارا لدى أوساط مختلفة من الشَّباب في مختلف أنحاء العالم، وعبَّروا عن خشيتهم مِنْ أن يكون قد جرى ويجري استغلال مثال جيفارا كوسيلة ترويجيَّة لاستهلاك سلع معيَّنة؛ حيث انتشرت وازدهرت صناعة الميداليات والقمصان الَّتي تحمل صورته، والبيريهات الشَّبيهة بالبيريه الَّذي كان يلبسه. ولكنَّ تحليلات هؤلاء المثقَّفين تتجاهل الإجابة على السّؤال التَّالي: هل كانت المصالح الاقتصاديَّة ستستثمر ظاهرة جيفارا لو لم تجد فيها مقداراً عالياً من الجاذبيَّة لدى الشَّباب، بجنسيهم ومختلف جنسيَّاتهم وباختلاف أهوائهم وهويَّاتهم الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة؟ فهذه المصالح همُّها الأوَّل هو الرِّبح، كما هو معروف، ولو لم تكن متيقِّنة مِنْ أنَّ استغلالها للسِّلع الَّتي تحمل رموز جيفارا سيكون مربحاً لها لَمَا استخدمتها. وما دام الأمر كذلك، فالأنظار يجب أن تتَّجه، إذاً، إلى الأسباب الحقيقيَّة الَّتي جعلت جيفارا يظلّ في الواجهة دائماً، بل ويزداد ألقاً وحضوراً منذ تسعينيَّات القرن الماضي وحتَّى الآن، رغم كلّ الانهيارات والارتدادات الَّتي ألحقتْ قطاعات معيَّنة من «الثوريّين» السَّابقين بمعسكر الخصم.. كما لو كانت المواقف والمبادئ تُبنى على نوع من الرهان؛ فإذا لم يفز الحصان الَّذي راهنّا عليه انتقلنا إلى المراهنة على سواه!

والبعض الآخر ذهب في مقاربته القلقة والمتشكِّكة في اتِّجاهٍ آخر. فـ«ألان وودز»[2]، على سبيل المثال، رأى الأمر على النّحو التَّالي: «بعد موته المأساويّ (يقصد جيفارا) بُذِل العديد من المحاولات لتحويله إلى أيقونة غير مؤذية، إلى صورة مرسومة على الأقمصة. يقدِّمه البورجوازيّون كرومانسيّ طيِّب وكمثاليّ طوباويّ. إنَّ هذا احتقار لذكرى ذلك الثَّوريّ العظيم!».

ويدعم وودز رأيه باقتباسٍ مِنْ لينين من («الدّولة والثَّورة») يقول: «... فأثناء حياة الثَّوريين العظام تدأب الطَّبقات الظَّالمة على ملاحقتهم، وتستقبل تعاليمهم بغيظٍ وحشيّ أبعد الوحشيَّة وحقدٍ جنونيّ أبعد الجنون، وبأشدّ حملات الافتراء كذباً ووقاحة. وبعد مماتهم تبذل المحاولات لتحويلهم إلى أيقونات لا ضرر منها، ووضعهم في إطار القانون، إنْ صحَّ القول، وإحاطة أسمائهم إلى حدٍّ ما بهالة من التَّبجيل “تعزيةً” للطَّبقات المظلومة وبهدف تضليل هذه الطَّبقات، بينما – في الوقت نفسه – يسلب من النَّظريَّة الثَّوريَّة جوهرها، ويثلم نصلها الثَّوريّ وتبتذل تعاليمها» [3].

بيد أنَّ وودز لا يلبث أنْ يؤكِّد قائلاً: «لم يكن تشي جيفارا حالماً يائساً، بل كان واقعيّاً ثوريّاً. لم تكن محاولة تشي مدّ الثَّورة إلى بلدان أخرى، ليس فقط في أميركا اللاتينيّة بل أيضاً في إفريقيا، مجرَّد مصادفة. لقد استوعب جيِّداً جدّاً أنَّ تاريخ الثَّورة الكوبيّة سيتوقَّف في آخر المطاف على ذلك» [4].

اُستُشهِدَ جيفارا في 9 تشرين أوَّل من العام 1967، بعد أسره في إحدى غابات بوليفيا، حيث كان يقاتل الإمبرياليين الأميركيّين وأعوانهم المحليّين. وكان قبل ذلك قد تخلَّى عن جميع مناصبه في الدَّولة الكوبيَّة الثَّوريَّة الَّتي شارك بفعاليَّة في إقامتها على أنقاض حُكم الدّيكتاتور باتيستا (فولجنسيو باتيستا زالديفار) صنيعة الأميركيّين.

ولكن، لماذا واصلتْ صورته التَّالق، على مرّ السِّنين، وازدادت جاذبيّتها في كلّ أنحاء العالم، وخصوصاً في أوساط الشَّباب، حتَّى بعد انهيار الاتِّحاد السّوفييتيّ والمجموعة الاشتراكيّة وانحسار زخم حركات التَّحرّر الوطنيّ؟

أعتقد أنَّ تفسير ذلك يعود إلى موجة الأمركة، الَّتي اجتاحت العالم بمسمَّى العولمة الزَّائف منذ تِّسعينيَّات القرن الماضي[5]، بكلّ ما تمثِّله مِنْ قيم فقيرة في مضامينها الإنسانيَّة، وتراجع القيم الجماليّة الرَّاقية ومكانة الأحاسيس والمشاعر النَّبيلة، وانتشار فجاجة الذّوق على اختلاف موضوعاته، وميل الأفكار والرؤى إلى الضَّحالة وتقولبها في صيغ فارغة متحجِّرة، وتغلُّب «قِيَم» السّوق على القيم الإنسانيَّة النَّبيلة المشتركة، وتحوُّل المال مِنْ وسيلة للتَّبادل السِّلعيّ إلى قيمة عليا مقدَّسة ووسيلة قياس لكلّ شيء ولكلّ إنسان ولكلّ معنى. وشاعت الفظاظة والسَّطحيَّة وازدراء الخبرة الإنسانيَّة والتّراث الإنسانيّ وكلّ ما لا يمكن تحويله إلى نقود أو تداوله في السّوق. وهكذا، حين أراد الشَّباب أن يعترضوا على هذا الانحطاط الشَّديد للحياة الإنسانيَّة، الَّذي أشاعته الأمركة، لم يجدوا أفضل مِنْ نموذج جيفارا (عدوّ الإمبرياليّة الأميركيّة الأبرز) للتَّعبير عن اعتراضهم ذاك.

وبرأيي، فإنَّ هذه الظَّاهرة تستند أيضاً إلى ما يلي:

أوَّلاً، أسطورة جيفارا المستمدّة مِنْ أسطورة الثّورة الكوبيّة.. ذلك البلد الصَّغير الَّذي لا يبعد عن شواطئ الولايات المتَّحدة (رأس الإمبرياليّة العالميّة) سوى عشرات الكيلومترات، ومع ذلك تمكَّن بإرادة ثورييه وشعبه مِنْ تحرير نفسه من الهيمنة الإمبرياليّة ومن الاستغلال والقهر؛

ثانياً، أنَّ جيفارا كان عدوّاً شرساً وثابتاً وواعياً وجذريّاً وصادقاً للإمبرياليَّة الأميركيَّة ونزوعها إلى الهيمنة والعدوان، وكرَّس حياته للكفاح ضدّها، وقضى شهيداً في النِّهاية على هذا الدَّرب؛

ثالثاً، أنَّ جيفارا زهد بالمناصب الرَّفيعة الَّتي كان قد تبوَّأها في كوبا وبالأدوار الأساسيّة الَّتي كان يضطلع بها هناك، وبالأموال الَّتي كان يمكن أن يجمعها لو اشتغل بمهنته الأصليَّة كطبيب. وبدلاً مِنْ أن يكتفي بما حقَّقه مِنْ إنجاز بمساهمته الأساسيّة في انتصار الثّورة الكوبيّة، وأن يتقاعد ويعيش على أمجاده تلك، وينصرف إلى حياته الخاصَّة وهواياته، اختار عناء المشاركة في ثورات إفريقيا وأميركا اللاتينيَّة ثمّ خسران حياته في معمعانها في النهاية.. مع أنَّه كان يستطيع أن يبتعد عن هذا العناء كلّه بذريعة مرض الرَّبو المزمن الَّذي كان يعاني منه؛

رابعاً، أنَّ جيفارا كان ذا نزعة أمميَّة حقيقيَّة؛ حيث جعل من قضيَّة الإنسان أينما كان قضيَّته الشخصيَّة، ومن أعداء الإنسان أينما كانوا وكائناً مَنْ كانوا أعداءه؛

خامساً، أنَّ جيفارا عندما طرح أفكاره الثّوريّة الجذريّة لم يترك أمر تنفيذها والتَّضحية من أجلها لسواه بينما يكتفي هو بدور المرشد والموجِّه والمعلِّم مِنْ بعيد، بل خاض بنفسه وفي مقدِّمة الصّفوف غمار معارك الدِّفاع عن تلك الأفكار والمبادئ، ولم يتوانَ في النَّهاية عن التَّضحية بحياته في سبيلها. لذلك فمثاله يعبِّر عن درجة عالية من النّبل والصّدقيَّة. ولذلك فهو يحظى بالاحترام والتقدير حتَّى لدى بعض أعدائه وخصومه والمختلفين معه.

إذاً، فانتشار رموز جيفارا الآن يعبِّر عن شوقٍ عارم لدى الشَّباب إلى كلّ تلك القيم الَّتي مثَّلها وكلّ تلك المواقف التي عُرِفَ بها؛ سواء أوَعوا ذلك أم لم يعوه، وسواء أاقتربوا في حياتهم اليوميَّة وفي طموحاتهم مِنْ نموذجه أم لم يقتربوا. وهذا، من ناحية أخرى، تعبيرٌ عميق عن الرَّفض للصّورة النَّقيضة والموقف النَّقيض اللذين حاربهما جيفارا ودفع حياته في مواجهتهما.

جيفارا الآن ليس حاضراً بجسده وفعله المباشِر ودوره؛ بل بفكرة ومثاله وسيرته الكفاحيَّة شديدة الفتنة والجاذبيّة. وهذا بالضَّبط هو مضمون الأيقونة التي صار إليها اسمه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] وهو مِنْ إخراج المخرج البرازيليّ والتر ساليس وبطولة الممثِّل المكسيكيّ غييل غارسيا بيرنال والممثِّل الأرجنتينيّ رودريغو دي لاسيرنا. وفي ما يخصّ الولايات المتَّحدة، شاركت في إنتاج هذا الفيلم مؤسَّسة للسّينما البديلة يملكها النَّجم الهوليووديّ الشَّهير روبرت ريد فورد.

[2] مقال لـ«ألان وودز» بعنوانForty years since the deat of Che Guevara ، وقد أخذنا الاقتباسات مِنْ ترجمة عربيّة لهذا المقال نُشِرتْ في موقع «ماركسي.. الموقع العربيّ للتّيّار الماركسي الأمميّ»، تحت عنوان «تشي: الأيقونة؟ حياة وأفكار إرنستو تشي جيفارا».

[3]ا المرجع السَّابق.

[4] المرجع السَّابق.

[5] النِّظام الرأسماليّ عولميّ بطبيعته ومنذ بداياته، كما أوضح سمير أمين منذ وقتٍ طويل.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب