news-details

حول المادية الجدلية

خلال العصر الوسيط طور المؤرخ المسلم ومؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون المنهج الجدلي في التعامل مع النصوص التاريخية لتمحيصها وتجردها من الاساطير والخرافات باعمال العقل والمنطق ومقارعة الرواية وبالرواية والحجة، واستمر هذا الفهم سائدا بشكل عام في العصر الوسيط حيث كانت الجدلية او "الديالكتيكا" تعني المنطق الشكلي (أي جدلية او ديالكتيك في الفلسفة الكلاسيكية هو الجدل او المحاورة او تبادل الآراء والحجج والجدال بين طرفين دفاعا عن وجهة نظر معينة ويكون ذلك تحت لواء المنطق ذلك المستوحى من تحليلات ارسطو). وقد كانت مسجلة ضمن الـ تريفيوم الجامعي، أي خارج ما كان يصطلح على تسميته بالفلسفة، مرافقة للنحو والصرف وعلم البلاغة. عادت الجدلية على يد هيغل لتكتسب معنى فلسفيا جديدا وعميقا فهيغل مؤسس المثالية المطلقة جعل منها قانونا يجدد مسيرة الفكر والواقع عبر تفاعلات النفي المتتالي للطريحة والنقيضة وحل اشكاليات المتناقضات القائمة من خلال الارتقاء الى الشميلة تلك التي سرعان ما يجري تجاوزها هي الاخرى، ومن نفس المنطلق، وهكذا يتحول "الفعل السلبي" ليصبح جزءا من الصيرورة، الامر الذي يجعله، وفق هيغل محركا للتاريخ وللطبيعة وللفلسفة.

ويقبل ماركس وانجلز جدلية هيغل، لكن بعد "انزالها من السماء الى الارض" فيطبقانها على دراسة الظواهر التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، لأن الروح او الفكرة ليست هي التي تحدد الواقع، انما العكس، وطوّر لينين المادية الجدلية لاحقا واصبحت منظومة فكرية شبه متكاملة. يعتبر الديالكتيك الاساس الذي تبنى عليه الفلسفة الماركسية بمعنى ان الجدل الذي يوصل الى النظريات والقواعد التي تحكم عملية التطور في الطبيعة والمجتمع وهناك اربع سمات رئيسة للمنهج الجدلي الماركسي.

الميزة الاولى – هي بان المنهج الجدلي الماركسي لا ينظر الى الطبيعة باعتبارها مجرد ركام من اشياء، يوجد كل منها مستقلا عن الآخر وانما هو يعتبر الاشياء "مرتبطة وتابعة ومحددة ببعضها البعض" ومن هنا فانه يرى انه لا يمكن فهم شيء اذا ما اخذ وحده، معزولا وانما يجب فهمه في العلاقة التي لا تنفصم بغيره من الاشياء.

الميزة الثانية  للمنهج الجدلي الماركسي هو اعتبار كل شيء في حالة من الحركة والتغير المستمرين، من التجدد والتطور، حيث يوجد دائما شيء صاعد ومتطور وشيء يتحلل ويفنى. ومن هنا ينظر الى الاشياء لا من زاوية علاقاتها المتبادلة واعتمادها بعضها على البعض فحسب، بل كذلك من زاوية حركتها وتغيرها وتطورها وميلادها وفنائها.

الميزة الثالثة للجدل الماركسي بانه لا ينظر الى عملية التطور على انها عملية بسيطة من النمو بل على انها تطور يمر من التغيرات الكمية الى التغيرات الكيفية، التي تحدث فجأة متخذة شكل الوثبة او الثورة من حالة الى اخرى، ومن هنا فانه يعتبر التطور حركة صاعدة وانتقالا من الحالة الكيفية القديمة الى حالة كيفية جديدة تطورا من البسيط الى المعقد، من الادنى الى الاعلى.

والميزة الرابعة للفلسفة الجدلية هي تحديدها بان عملية التطور من الادنى الى الاعلى تحدث كتكشف للتناقضات الكامنة في الاشياء.. كصراع للاتجاهات المتضادة التي تعمل على اساس هذه التناقضات. 

الفلسفة الجدلية الماركسية عند دراستها وممارستها بمعرفة وادراك وبشكل صحيح ومدروس ومتفاعل مع التغييرات الموضوعية في عملية تطور المجتمع تساعدنا على تجنيد ليس فقط الطبقة العاملة لا بل جماهير الشعب الواسعة من اجل تسيير وقيادة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية نحو احداث تغييرات ايجابية تقدمية كمية تتراكم من اجل احداث الثورة الاجتماعية مستقبلا. والمادية التاريخية هي امتداد لمبادئ المادية الجدلية الديالكتيكية من اجل دراسة الحياة الاجتماعية بمفاهيم ثورية، لأنها تكشف عن الاساس الموضوعي المادي الجدلي لمجمل الحياة الاجتماعية وتبين جوهر تطور المجتمع الانساني وتدرس وتفسر قانونيات التاريخ العالمي والمنهج المادي الجدلي، يتطلب ان لا ندرس الاشياء والاحداث والمتغيرات كلا على حدة، بل ان ندرسها دائما في علاقاتها المتبادلة بغيرها من الاشياء والاحداث، في علاقاتها بالظروف الواقعية، وليس بعيدا عن هذه الظروف الواقعية وهذا المبدأ يجب ان تكون له اهمية اساسية لحركة الطبقة العاملة ولكل شرائح المجتمع المضطهدة من اجل وضع برنامج ومسائل السياسة الاولية. وأي قائد عمالي يتبنى الفكر الجدلي الماركسي عليه ان لا يقرر كل مسائل السياسة على اساس "المبادئ العامة" وحدها دون ان يُدخل في حسابه الظروف الواقعية التي عليه ان ينفذ سياسته فيها دون ان يدرك ان السياسة نفسها يمكن ان تكون صحيحة في احدى الحالات وخاطئة في حالات اخرى، تبعا للظروف المحددة لكل حالة، وهكذا يقول لينين:

"وبالطبع، ففي السياسة، حيث يجب في بعض الاحيان معالجة علاقات معقدة للغاية – قومية ودولية – بين الطبقات والاحزاب.. يكون من الحماقة ان نعد وصفه او قاعدة عامة تستخدم في كل الاحوال، فلا بد ان يكون للمرء من العقل ما يمكنه من تحليل الوضع في كل حالة خاصة" (لينين الشيوعية اليسارية – الفصل الثامن) وهنا لا بد ان نؤكد بان فهم الاشياء والتغييرات والاحداث في ظروفها وعلاقاتها المتبادلة لا ينفصل عن فهمها في حركتها وتغيرها، لأن العلاقات الحقيقية بين الاشياء والتغييرات والاحداث والطرق التي تؤثر بها في بعضها البعض تبدو في حركتها، في عمليات ميلادها وتوقفها عن الوجود والمعالجة الجدلية الديالكتيكية اساسية في كل نوع من انواع العلوم، لأن العلوم تكشف العلاقات بين الاشياء والاحداث والمتغيرات في عمليات التغيير التي تكتسب فيها الاشياء مختلف الخصائص وتغير خصائصها.

وعند دراسة الاشياء والاحداث في حركتها، وفي تغيرها وفي ميلادها وفنائها اهمية هائلة لا للعلوم الطبيعية وحدها بل في الاحداث والتطورات الاجتماعية وفي فهم وممارسة العمل الثوري، لذلك من الضروري دائما ان نولي اهتمامنا لما هو جديد، ما هو صاعد ونام – وليس الى ما هو موجود في اللحظة الراهنة فحسب وانما لما يولد بعد، وهذا الاهتمام يجب ان يتعلق ايضا بالافراد، يجب ان نحتضن ونبني ما يولد فيهم من خلال ممارستهم النضالية الثورية ونرى فيهم ما هو صاعد ومتحرك الى الامام وهذا ما يجب ان يفعله أي حزب او تنظيم ثوري منظم بشكل جيد. ان المبدأ الاكثر اساسية في المنهج الجدلي هو ان ندرس الاشياء والاحداث في علاقتها المتداخلة وحركتها المحددة.

يتصور البعض بان الجدل الماركسي خطة متصورة من قبل، يجب ان تتلائم كل الاشياء داخل نموذجها، وهذا التصور مضاد تماما لحقيقة الجدل، فاستخدام المنهج الجدلي الماركسي لا يعني اننا نطبق خطة متصورة من قبل، يجب ان تتلاءم كل الاشياء داخل نموذجها وهذا التصور مضاد تماما لحقيقة الجدل، فاستخدام المنهج الجدلي الماركسي لا يعني اننا نطبق خطة متصورة من قبل ونحاول ان نجعل كل شيء يتلائم داخلها، كلا، انه يعني اننا ندرس الاشياء كما هي عليه حقا في علاقاتها المتداخلة وحركتها الحقيقية. قال لينين: "ان اكثر الاشياء جوهرية في الماركسية هو التحليل المحدد للظروف المحددة (لينين الاعمال الكاملة المجلد 31 صفحة 43) وهذا ما اكده لينين المرة بعد الاخرى واعلن انه "القضية الاساسية للجدل". وقال لينين: ان "الجدل الحقيقي يتقدم" "عن طريق التحليل التفصيلي الدقيق للعملية بكل تحديدها، فالقضية الاساسية للجدل هي: انه لا توجد حقيقة مجردة، فالحقيقة دائما محددة"  (لينين خطوة الى الامام وخطوتان الى الخلف، شيء عن الجدل").
وعندما نتحدث عن الحقيقة المحددة نعني بالدقة اننا لن نصل الى حقيقة الاشياء، سواء في الطبيعة او في المجتمع باكتشاف خطة عامة ما، صيغة مجردة ما، وانما بمحاولة اكتشاف ما هي القوى التي تعمل في كل عملية، وما هي علاقاتها بعضها ببعض وما هو صاعد ونام وما هو منها يموت وعلى هذا الاساس نصل الى تقدير للعملية ككل.

وحين ندرس أي عملية – سواء في الطبيعة او في المجتمع فسنجد دائما بانه يوجد تجدد وتطور، حيث هناك دائما شيء صاعد ومتطور وشيء متحلل ويموت وحين يصل الشيء الصاعد والمتطور الى النضوج، ويختفي نهائيا ما يتحلل ويموت حينئذ ينشأ شيء جديد. ولا تكرر العمليات دائما الدائرة نفسها من التغيرات وانما تتقدم من مرحلة الى اخرى مع نشوء شيء جديد باستمرار، وهذا هو المعنى الحقيقي لكلمة "تطور" فنحن نتحدث عن "التطور" حيث ينشأ شيء جديد مرحلة بعد مرحلة. وهكذا فهناك فرق بين التغير وبين التطور، فالتطور تغير يتقدم وفقا لقوانينه الداخلية من مرحلة الى مرحلة.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب