news-details

حول المادية الجدلية (2)

 

عثر العاملون في المعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي عام 1962 في امستردام على ثلاث صفحات غير المعروفة من قبل، من مخطوطة "الايديولوجية الالمانية" وتم نشرها لأول مرة ومن بينها، كما ثبت فيما بعد الورقة الاولى من مخطوطة ماركس وانجلز، قام مؤلفا "الايديولوجيا الالمانية" في بداية بحثهما بمعارضة الخيالية المثالية للهيغليين الشباب بالنظرية المادية المنسجمة فيما يتعلق بشروط التحرير الفعلي للناس، ان الاستنتاج الشيوعي لماركس وانجلز يستند مباشرة على الفهم المادي الجديد للتاريخ. انهما يؤكدان بان "التحرير الفعلي لا يمكن ان يتم الا في العالم الفعلي وبالوسائل الفعلية.. وعموما لا يمكن تحرير الناس الا بعد ان يصلوا الى حالة التأمين الكلي من الناحية النوعية والكمية للغذاء والشراب، المسكن والملبس لأنفسهم و"التحرير" قضية تاريخية وليس قضية فكرية والعلاقات التاريخية هي التي تقود اليه.."

ويطرح السؤال ما هي هذه العلاقات التاريخية؟ وما هي الحقائق الموضوعية المتطورة تاريخيا والتي تكوِّن المقدمات والشروط وامكانية وحتمية التحرير الفعلي للناس؟ ان ماركس وانجلز مستندين على الفهم المادي للتاريخ، قد اعطيا في "الايديولوجية الالمانية" جوابا علميا مبرهنا على هذه المسألة، ففي "الايديولوجية الالمانية" اوضح ماركس وانجلز لاول مرة الشروط المادية للثورة الشيوعية، وبخط ماركس كتب ذلك القسم من النص الذي صيغت فيه لاول مرة الموضوعة الاساسية لنظرية الثورة الشيوعية هي موضوعة حول الشرطين الماديين للتغيير الشيوعي في المجتمع. ان ماركس يضيف الى النص المكتوب سابقا اضافة في موضع من المخطوطة حيث جاء الحديث حول "تغريب" النشاط الاجتماعي، أي عن تلك الظاهرة حين يخرج نشاط الناس الخاص من تحت سيطرتهم ويتحول الى ما يشبه قوة مستقلة تتعارض معهم وتسيطر عليهم، ومثل هذا "التغريب" للنشاط الاجتماعي نتيجة التطور العفوي للمجتمع "هو واحد من اهم النقاط في كل التطور التاريخي السابق" وهكذا يصوغ ماركس الشروط التي يصبح من الممكن معها تحطيم مثل هذا "التغريب" ويشير الى الشروط المادية الضرورية للتحول الشيوعي في المجتمع: "هذا التغريب" اذا اردنا التحدث بلغة يفهمها الفلاسفة، لا يمكن القضاء عليه بالطبع الا بتوفير شرطين عمليين، ولكن يصبح "التغريب" قوة "لا تطاق"، أي قوة تقوم الثورة ضدها، فمن الضروري ان يتحول هذا "التغريب" الجمهرة الاساسية من البشرية الى ناس "فاقدي الملكية"، تماما وفي الوقت نفسه مناهضين للعالم القائم والمالك للثروة والتعليم، وهذا الشرطان يفترضان النمو الهائل للقوى المنتجة والدرجة العالية لتطورها، ومن الجهة الاخرى، فان تطور القوى المنتجة ها... انما هو تمهيد عملي ضرور كليا، لأن انعدامه لا يعني الا الانتشار العام للفقر، وعند الحاجة القصوى سيكون من المحتم ان يبدأ حتى النضال من اجل الحاجات الضرورية..." (الفصل الاول من كتاب "الايديولوجية الالمانية" ص 45 – 46).

ويطرح السؤال، ما هي الشروط المادية للثورة الشيوعية؟ الشرط الاساس هو الدرجة العالية لتطور القوى المنتجة ويرتبط معها بالضرورة الشرط الثاني – تجمع البروليتاريا وتكوين الطبقة العاملة الثورية. وهذا الشرطان لم تصل روسيا قبل ثورة اكتوبر الى النمو الهائل للقوى المنتجة، وبعد الثورة جرى تهميش الطبقة العاملة من خلال البيروقراطية الفاسدة للسلطة ومن خلال فشل التطور الاقتصادي للاتحاد السوفييتي وهنا اذكر ما قاله ليني بانه لا يمكن للاشتراكية ان تنتصر على الرأسمالية الا اذا اصبحت انتاجية المجتمع الاشتراكي ضعفي انتاجية المجتمع الرأسمالي. وهذا يعني التطور الهائل للقوى المنتجة والدرجة العالية لتطورها الى  جانب وجود دور فاعل ومؤثر وثوري للطبقة العاملة وهذا لم يكن في الاتحادي السوفييتي بسبب ما قلته سابقا تهميش الدور الفاعل للطبقة العاملة بسبب بيروقراطية الحزب والسلطة في الاتحاد السوفييتي. 

وهنا اعود واذكر ما قاله ماركس وانجلز حول تضاد الافكار المادية والمثالية، في الفصل الاول من كتاب الايديولوجية الالمانية، واثناء عرض الاستنتاجات الناتجة عن الفهم المادي للتاريخ نجدهما يعودان ثانية الى مسألة شروط الثورة وفي هذه المرة يصوغانها بدقة اكثر: و"اخيرا – نصل ايضا الى الاستنتاجات التالية من المفهوم الذي طورناه للتاريخ: الى ان القوى المنتجة في تطورها تصل الى تلك الدرجة، التي تظهر فيها القوى المنتجة ووسائل الاختلاط الجالبة معها في ظل العلاقات الموجودة، المآسي وحدها، وهي لذلك لم تعد قوى منتجة بل محطمة.. وفي الوقت ذاته تبرز الطبقة المضطرة لحمل جميع اعباء المجتمع وغير المستفيدة من خيراته، وقد لفظها المجتمع (تغريب الجمهرة الاساسية من البشرية د.خ) ستصبح حتما في تناقض حاسم وحاد مع طبقة رأس المال بالاساس ومع جميع الطبقات الاخرى، هذه الطبقة تكون اكثرية مجموع اعضاء المجتمع، ومنها ينطلق الوعي، الوعي الشيوعي بضرورة الثورة الجذرية.." (كتاب الايديولوجية الالمانية ص 49 – 50). وهنا اصبح من الواضح تماما ان هناك مقدمتين ماديتين اساسيتين للثورة الشيوعية، الاولى، ان القوى المنتجة تصل في تطورها الى تلك الدرجة التي تتحول فيها الى قوى محطمة، والثانية البروليتاريا، الطبقة العاملة الثورية التي "تكون اكثرية مجموع اعضاء المجتمع".

وهاتان المقدمتان الماديتين الاساسيتين للثورة الشيوعية لم تصلا الى تلك الدرجة من التطور وهذا الامر بلا شك كان له تأثير سلبي على التجربة السوفييتية في بناء الاشتراكية. واثناء تلخيص ماركس وانجلز لنظريتهما المادية التاريخية يؤكدان مجددا على انه بدون هاتين المقدمتين الماديتين تكون الثورة الشيوعية مستحيلة: و"اذا لم تكن متوفرة هذه المكونات المادية للانقلاب العام وبالذات القوى الانتاجية المعينة من جهة، والجموع الثورية المتكونة من جهة اخرى.. فانه كما يثبت ذلك تاريخ الشيوعية، من اجل التطور العملي لا يحظى بأية اهمية واقع ان قيلت فكرة هذا الانقلاب مئات المرات" (الفصل الاول من كتاب "الايديولوجية الالمانية" ص52). 

ان هذه المقاطع التي اوردناها يعود تاريخها الى الفترة ما بين تشرين الثاني وكانون الاول سنة 1845 وفي القسم المتأخر من المخطوطة والعائد الى آذار سنة 1846 يخفق ماركس وانجلز خطوة تالية الى الامام في تشخيصهما وتدقيقهما لتلك الدرجة من تطور القوى المنتجة التي يصبح فيها التحول الشيوعي في المجتمع ممكنا، انه ممكن في مرحلة الصناعة الكبيرة فقط وبشرط التطور العالي كفاية فيها. في مراحل معينة من تطور القوى المنتجة كانت الملكية الخاصة ضرورية، ولكنها في مرحلة الصناعة الكبيرة تتحول الى اغلال لها ولهذا ولمصلحة التطور التالي للانتاج يجب تحطيمها ولقد اصبح هذا بالامكان. "في الصناعة الكبيرة يصبح التناقض بين وسيلة الانتاج وبين الملكية الخاصة، لأول مرة نتاجا خاصا لهذه الصناعة، وميلاده يقتضي وصولها الى درجة عالية من التطور، وهكذا مع تطور الصناعة الكبيرة فقط يصبح بالامكان ايضا القضاء على الملكية الخاصة (كتاب الايديولوجية الالمانية ص 77 – 78). ان هذا الاستنتاج – المصاغ لاول مرة – عن تطور الصناعة الكبيرة كمقدمة مادية ضرورية للثورة الشيوعية، هو من اهم المواضيع الداخلة في صلب افكار الشيوعية العلمية، وقد هيأ له عمل انجلز في بحثه "حالة الطبقة العاملة في انجلترا".

يوجد في "الايديولوجية الالمانية" تفصيل اكثر مما هو في اعمال ماركس وانجلز السابقة في البرهنة على ضرورة وحتمية الثورة البروليتارية الشيوعية، برهنة مادية صرف. ان ضرورة تغيير العالم الموجود كانت قد نتجت عن المبادئ العامة للنظرية الماركسية الجديدة، وهذه الفكرة الاساسية تتطور في "الايديولوجية الالمانية" ايضا: "بالنسبة للمادي العملي، أي الشيوعي، تتركز المهمة كلها في تثوير العالم الموجود والانتفاض عمليا ضد ظروف الحالة الموجودة وتغييرها. (الايديولوجية الالمانية ص 56) 

لا يمكن تغيير العالم الموجود بمساعدة النشاط النظري وحده، بل من الضروري تحويله الثوري العملي: "ان الثورة لا النقد، هي قوة التاريخ المحركة" (الايديولوجية الالمانية ص 52)، ان التحليل المادي للتاريخ قد قاد الى استنتاج هو ان الصدام بين القوى المنتجة والعلاقات الانتاجية يحتم ضرورة حله عن طريق الثورة الاجتماعية، والبروليتاريا التي خلفتها الصناعة والصناعة الكبيرة هي تلك القوة الموضوعية، تلك الطبقة الثورية التي تحقق التحول الشيوعي للمجتمع. النقطة الاولى سبق ان اوردنا وهي تناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج ووجود طبقة البروليتاريا التي خلقتها الثورة الصناعية، هي تلك الطبقة الثورية التي تحقق التحول الشيوعي. اما النقطة الثانية فتعطى البرهان على ضرورة اسقاط الطبقة السائدة: "2- الظروف التي يمكن فيها استخدام قوى منتجة معينة، هي ظروف سيطرة طبقة اجتماعية معينة.. ولهذا فان أي نضال ثوري يوجه ضد الطبقة التي كانت لها السيادة من قبل"، ويضيف ماركس الى هذا النص ملاحظة في الهامش: "من مصلحة هؤلاء الناس الحفاظ على وضعية الانتاج الحالية". النقطة الثالثة تصيغ الفروق المبدئية للثورة الشيوعية عن جميع الثورات السابقة: تحطيم العمل كنشاط بقسر خارجي، تحطيم السيطرة الطبقية والطبقات نفسها.


 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب