أمامي كتاب محتواه يفيضُ بالحبّ والمحبّة، لكاتبة محِبّة هي رنا أنيس أبو حنّا، فعنوان الكتاب وَحدَه مشبَعٌ بالمشاعر والذكريات هو كتاب: رسائلُ حبّ ليست من هذا العصْر..
حين نقرأ رسائل الكتاب ندخل إلى جوهر الحبّ ونركب بساطَ الريح لنطلَّ على متاهات العشّاق، فحريّ أن نشكر الكاتبة رنا لمبادرتِها المدهشة، ودأبِها الجادّ في جمعِ رسائل الحبّ هذه بكتابٍ أنيق كهذا، يُثبتُ قيمةَ العلاقات الإنسانيّة ومعانيَ الوفاء الأصيلة، بسردٍ مُتكاملٍ يروي حكايةَ حُبٍّ ليستْ من نسجِ الخيال، بل حكاية واقعيّة عميقة وتضحية عظيمة بين والديها.
كتابٌ لو رأيتَه في مَعرضِ كتابٍ ستنتقيه وتشتريه من بين كلّ الكتب المعروضة دون أن تقرأَ حتّى كلمة واحدة منه.. فقط لملمسه، لألوانه لرائحة الشوق في مغلّفاته ولعنصر المفاجأة الكامن في طيّاته. فما أروع من ص 31 و 79 حين يفاجأكَ مغلّفٌ في وسطِ الصفحة، فتعتقد أنّه فارغ كوسيلة إيضاح للمراسلة الفعليّة، ولكن ما إن يثيرَكَ الفضولُ وتمدُّ يدَك لتفتحَ المغلّفَ فتصابُ بالذهول بأنّ المغلفَ ليس فارغًا بل يحمل بداخله رسالة حقيقيّة من عاشقٍ لحبيبتهِ، فتعيشُ لحظاتِ الحبّ معهما... ولك أن تتخيّلَ كمَّ الحنين والذكريات الجميلة بين طيّات مغلّف بسيط كهذا...
كم نحن محظوظون لأنّ الأديبة رنا أتاحت لنا قراءة تلك الرسائل ذات القيمة الأدبيّة الراقية التي تخلّدُ ذكرياتٍ جميلةً وحنينًا إلى الماضي. فمِنَ الخسارة أن تبقى رسائل كهذه طيَّ الكتمان، وعدم نقلِها للأجيال القادمة، فهي تثري مكتبتَنا العربيّة وتشكّل سجِلًّا تاريخيًّا لحياة عائلةٍ أصيلة نبيلة.
إنّ مَنْ يتتبّع ما كتبتْه رنا في مقدّمة كتابها ويقرأ رسائلَ أبيها لوالدتها لا يستطيعُ إلّا القولَ إنّ َكتابةَ الابنة رنا خرجت من معطف رسائلِ الأب، هي وليدة من ذاك الأب، تحمل جيناتِه الأدبيةَ.
فنرى رنا ترنو لأسلوبِ أبيها، من حيث استخدام الصور المجازيّة والتكثيف اللغويّ، فتقولُ في مقدّمة كتابها: "برفقٍ افتحُ الكنزَ لئلا تسقطُ كلمةٌ من ثراء الروح والعاطفة، من بين أطراف الأوراق الكامنة!".
كم هي مُجيدة فعلًا بانتقاء كلماتِها بدقّة وحكمة لتعبّر عن أفكارِها لمشروع تجميع الرسائل بشكل مؤثّر، وعن مشاعرها بشكل مكثّف دون الإطالة والتكرار غير الضروريّ..
والدُ رنا.. أنيس أبو حنّا، الدؤوب المثابر المكافح العاشق، كان مصدرَ إلهام لرنا من خلال حسّه اللغويّ وأفكارِه اللامعة، كان أبًا ومُعلّمًا ومَعلَمًا مُلهِمًا لها، نلمسُ هذا في أسلوبِ كتابةِ رنا وكذلكَ في مشاعرِها الصادقة التي تعبّر عنها بكلّ وضوح وسلاسة، وتبْرَع في تعاملها مع الآخرين بكلّ مودّة وبشاشة.
نحن أمامَ مجمَع من رسائلَ جميلة أرسِلت من أنيس أبو حنّا إلى محبوبته الأولى والأخيرة هي جوليا عازر. هو في القدس يدرس موضوع المحاماة وهي في الناصرة تدرس وتدرّس، ولم تكن أمامَه وسيلة للتواصل سوى الرسائل، فكتبَ لها وطرّز رسائلَه بالحبّ، وغمرَها بالشوق..
كلّ ذلك عبرَ البريد العاديّ، فلا هاتفَ ولا إيميل ولا وسيلة سوى المراسلة الورقيّة.
والمراسلة في الأدب فنّ نثريّ عريق يدلّ على موهبة كتابيّة رائعة تطلّبُ براعة بمهارات التواصل وتبادل المعلومات.
أمّا رسائل العصر الحديث فنستحضر نُتفًا منها، فهناك ما دارَ بين غادة السمّان وغسّان كنفاني.. رسائل جمعتْها غادة ونشرتْها في وقتٍ لاحق، ولم تَنشرْ ما كتبتْه هي لغسّان.
ورسائل جبران خليل جبران لميْ زيادة فكان بينهما علاقة روحيّة، تحوّلت إلى حبّ أفلاطونيّ، عن طريق المراسلة استمرّت لسنوات من غير أن يتلاقيا، وقد وَصَفَ توفيقُ الحكيم هذه الرسائل قائلًا: "إنّها مكتوبة بندى الحبّ السماويّ". ويُذْكَر أنّه عُثر بينَ مقتنيات ميّ صورة لجبران وقد كَتبتْ مَيّ بخطّ يدِها إلى جانبِ الصورة: "هذه مُصيبتي منذ أعوام!".
تُتيحُ رسائلُ الحبّ القديمة عامّة، وكالتي في هذا الكتاب خاصّة، فرصةً فريدة لمقارنة الماضي بالحاضر، فمن خلالِها يمكن تقييم التقدّم الذي أحرزته المجتمعات في التعبير عن المشاعر، أو التدهور التي آلت إليه المجتمعات في الاستخفافِ بهذا النوع من التعبير.
يُظهر لنا تاريخُ رسائلِ الحبّ أنّ البشرَ سعَوا إلى إيجاد طرقٍ للتواصل ومشاركة مشاعرِهم مع بعضهم البعض، فمنذُ زمنٍ بعيدٍ، قبلَ اختراعِ الكتابةِ، سعى الإنسانُ إلى إيجادِ رموزٍ وعلاماتٍ تُعبّرُ عن مشاعرهِ مثل: النقشُ على الجدران أو صنعُ تماثيل من الطين دليلًا على مشاعر الحبّ والالتزام بين الشخصين، ومع مرورِ الزمانِ والمكانِ، تغيّرتْ هذهِ الطرقُ، وتطوّرتْ مع اختراع الكتابة والرسائل عبرَ الحَمام الزاجل، ثُمّ عبرَ ساعي البريد إلى ان وصلنا اليومَ إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ.
في زماننا نسيَ الناسُ تلكَ اللهفة التى كان العشّاقُ ينتظرونَ بها ساعي البريد، ونسَوَا طعمَ السعادة بقراءة كلمات الشوق والحبّ عبرَ أوراق الرسائل المطويّة بعناية داخلَ مغلّفاتٍ ورقيّة تغمرها رائحةُ الغرام. فأنيسُ في القدس وجوجو في الناصرة ويشتاقان لبعضهما بل ويكويهما الشوقُ لرؤية الآخر، بينما عشّاقُ اليومَ قد يكونُ الأوّل في الجليل والثاني في القطب الشمالي أو أبعدَ بقليل ولا يتأجّجُ شوقٌ كهذا، والسبب التكنولوجيا والهاتف الذكيّ الذي يقرّب المسافات فيوثّق للمحبّين كلَّ دقيقة أدقَّ الأمور بالصوت والصورة، فيطمسُ بذلك الأشواق ويبيدُها...وبهذا صدقت الكاتبة أحلام مستغانمي حين كتبت: "حتّى كلمة أحبّكِ عبر الهاتف الذكي قابلة للمحو اليومَ بكبسة زرّ، ولا تعيشُ طويلًا مقارنة مع الحبّ قديمًا، إذ كان أفضلُ حالًا يومَ كان ساعي البريد يحملُ رسائلَ العشّاق فيحتفظُ العشاقُ برسالةِ الحبّ إلى آخر العمر" وهذا تمامًا ما فعلته جوليا.
كانت جدّاتنا تردّد: "كلّ شي بهالدنيا أحسن من بنادم!"، فما زالت الرسائل موجودة صامدة وكاتبها غادرَ منذ دهر، ورنا الابنة حازت على ميراث الرسائل الورقيّة التي تركها والدُها لأمّها... تُرى هلْ جيلُ اليوم سيبحثُ عن ميراث الرسائل الإكترونيّة التي تداولها أباؤهم مَعَ من أخلِصوا لهم وحَلُموا ببناءِ مستقبلٍ معَهُم، فراسلوهم عبرَ البريد الإلكترونيّ ثمّ عَبرَ خانةِ الدردشة في الفيسبوك، وبعدَها عبرَ الواتساب والانستغرام وتطبيقات عديدة تتيح المراسلة الفوريّة؟
رنا توجّهت إلى أمّها ففتحت لها أمّها جارورَ الرسائل، ووجدتها كما هي، والجيل الجديد... لمَن سيتوجّه للحصول على كلمة المرور؟ لشركة جوجل مثلًا؟ ليس سهلًا أبدًا فهذه الشركات تتعهّد بالاحتفاظ بكلمة المرور وعدم الإفصاح عنها إلّا بقضاء عسير ...
أحببتُ رسائلَ الحبّ في هذا الكتاب، ليس لأنّها قديمة فحسب، وليس لأنّها تحملُ سماتٍ اجتماعيّةً لتلك الفترة، بل لأنّها صادقة دون أيِّ رتوشٍ أو تصنّع، رسائل عفويّة بريئة ونادرة في هذا العصر. وحزنت بل وتألّمت وتأسّفتُ كثيرًا حين علمتُ أنّ أنيسَ العاشق المرهف الوفيّ قد توفيّ بجيل صغير (فقط 52 سنة ورحل أنيسُ جوجو... يا للوعتكِ يا لأشجانك يا جوجو).
مع هذا ها نحن نأنسُ لرسائلَ أنيس ونعيش زمنًا ليس من هذا العصر، نخوضُ حيثيّاتِ يوميّاته بتفاصيلها الصغيرة قبلَ الكبيرة وكأنّه لم يرحلْ، ونتعجّب من كمّيّة الحكمة والوعي والرزانة لشابٍّ لم يبلغ مِنَ العمرِ سوى عشرينَ عامًا: شابٌّ جدّيٌّ عاشقٌ مدركٌ لطموحاتهِ همّه الأساسيّ الحصول على شهادة جامعيّة تليق بحياته التي يحلمُ بها، مُسيطرٌ على أهوائهِ، فكم تنازلَ عن مغريات وملهيات وانضبط فقط للدراسة؛ الدراسة والمراسلة وليس إلّا، غيرُ متسرّع بكتابة كلِّ ما يجولُ بخاطره، فقمّةُ تغزّلِه بجوجو وردَتْ في الرسالة التي يُناجيها فيها ويدندنُ لها: جوجو جوليا جوجو ماااا أطيبَ هذا الاسم.. والله لو ناديتُكِ آلافَ المرّات في رسائلي لااا أمَلُّ!
كم كانَ مؤمنًا وواثقًا بأمله أن يجمعه الله مع جوجو، فكان يتخيّلُ أملَه مُحقّقًا، في كلّ رسالة يثّبُتُه ويراه أمامَه حقيقة محقّقة، فخيالُه النشِط شكّلَ نصفَ النجاح لتحقيق ما يتمنّاه– مؤكّدًا مقولة أينشتاين: الخيالُ أهمُّ منَ المعرفة... بالخيالِ نستطيعُ رؤيةَ المستقبلِ. وهكذا اتّبعَ أنيس خيالَه ولم يُهمِله يومًا واحدًا، والمثير أنه صَدَقَ، للأسف، حين طلب منها ص 18 أن تنوبَ عنه حضورَ حفلةِ توزيع الشهادات صرّح لها حينها متنبّئأ قائلًا: وما أكثر ما ستنوبين عنّي في المستقبل!
كان يرجوها أن ترسلَ له رسائلَها ولا تتأخّر، فعندما هو يرسلُ لها رسالة هذا يعني أنّه يفتقدها، وعندما لا يرسلُ لها، هذا يعني أنّه ينتظرُ منها هي أن تفتقدَه، فتكتبُ له. فهذا يسمّى عشقَ الروح: أن تختلطَ روحُه بروحها كلّما هبَّ نسيمُ عشقِه، وَمَنْ يُتقنُ احتواءَ الروح، يبقى بالروح حاضرًا في عزّ الغياب.
وإن تمعّنا بكتابتهِ ننبهرُ من نقائها، فكتابتُه بخطّ يدِه تكادُ تكونُ خاليةً من الأخطاء النحوية إلّا بمواضع كانت أقلّ من أصابع اليد الواحدة، بينما الكتابة الحديثة المطبوعة في الكتاب نفسه عبر لوحةِ مفاتيح الحاسوب احتوت أخطاءً مطبعيّة أكثرّ من كتابةِ خطّ اليد.
أنيس كتب بلغة فصيحة رزينة مراعيًا النحوَ والصرفَ وعلاماتِ الترقيم بدقّة وحرْفيّة، لدرجة أنّه صحّح كلمة من النادر أن ينتبه إليها أحد، عندما سألها كيف حال "أقرباؤكم"؟ ص 132 فنرى كيف استدركَ أنّ الهمزة يجب أن تكون مكسورة وليست مضمومة ففي الحال شطّبها وكتبَ جنبَها كيف حالُ أقربائِكم؟
فإن تساءلَ القارئُ: لماذا لم يسمح ويدعَها أقرباؤكم بالرفع؟ فهل ستلومه جوجو؟ طبعًا لا، إذن لا جوابَ سوى حرصِه على سلامة لغتهِ كحرصِهِ على محبوبتِه.
كتب لها: من كثرةِ الهواجس التي اعتملت في نفسي كنتِ طيلة الأسبوعين تزورين أفكاري وأحلامي ساعةً بعدَ ساعة. وأنيسُكِ لم ينسكِ!
بربّكم مَن يراسلُ اليومَ حبيبتَه بهذا الرقي اللغويّ وهذه الفصاحة السلسة والأناقة الراقية؟ فما الذي دفعَه إلى الكتابة بلغة فصيحة كهذه؟ هل كان يعلم أنَّ رسائلَه ستنشرُها رنا يومًا ما... لهذا يجب أن تكون بلغة سليمة راقية وبليغة؟
حتى إنّه ابتعدَ عن استعمالِ اللغة المحكيّة في رسائله، وإن اضطرَّ لذلكَ وضعَ العبارة المحكيّة بين مزدوجين، وأحيانًا فضّل أنْ يأتي بالكلمة الأجنبيّة، مثل Scarf في رسالتهِ التي يخبرُها فيها أنّه أرسلَ لها شالًا هديّةً ويسألُها عن ذوقهِ فيهِ؟
بينما نلحظُ عدمِ استخدامِه كلماتٍ باللغة العبريّة إلّا بموضِعَين اثنينِ ليسَ إلّا، وذلك للتعبير عن عيدين لليهود، فكتبَ بالعبريّة عيد الشفوعوت... يبدو لأنّ ترجمةَ عيد شفوعوت إلى العربيّة غير مألوفة رغمَ التسميات العديدة لهذا العيد: فهو عيدُ البواكير أو عيدُ الحصاد أو العنصرة أيضًا...وكتبَ عيدَ البوريم بدلَ عيدِ المساخر.
حُبُّ أنيس للغتِهِ فائقٌ وتعظيمُه للكتب شائقٌ.. فلا غرابة بذلك فهو من أسرةِ الأديب الراحل حنّا أبو حنُا الذي كان أستاذًا لأجيالٍ من الأدباء والشعراء، وصاحبَ بصمةٍ هامّةٍ في مسيرةِ أدبِنا العربيّ، ويَذكُر لنا أنيس ولَعَه في اقتناء وتجميع الكتب كجهازٍ ضروريّ لبيته قبلَ أيِّ جهاز، فقد اشترى جميعَ الكتبِ العربيّة بثلاثين ليرة، ليضمنَ أن تكونَ في بيتِه المستقبليّ مكتبةٌ عظيمة.
فنستنتجُ أنّ أنيسًا يعشقُ معشوقتين: جوجو واللغة العربيّة فيكتبُ لجوجو، ويكتبُ لغتَه بخطّ جميل منمّق، يُضفي على الرسالة سحرًا خاصًّا، ويعبّر عن رغبته في كتابةِ رسالة متناسقة لحبيبتهِ ويبوحُ لها عن نقاءِ نيّتِه وهدفِه النبيل. فنفترضُ أنّه كان يكتبُ مُسْوَدّة أو أكثر، وكان يراجعها مراجعة نهائيّة دقيقة جدًّا قبل اعتمادِ النسخة الأخيرة، فمِن غيرِ المعقول أن تكونَ مئةُ وستّ وعشرون رسالة كلّها نقيّة مرتّبة خالية من تشطيب أو خربشة خاصّة وأنّه استعملَ قلمَ حبرٍ تَحكّمَ بهِ بسهولةٍ، ولم يكتبْ بقلمِ رصاص، ولم يستخدمْ الزخارفَ والرسومات أو الألوانَ فهمّهُ كانَ أن تصلَ كلماتُ الشوق والحبّ لجوجو؛ نقيّة دونَ أيّ زخرفة أو تجميل.
كان يشجّعُها على حفظِ أشعارٍ عربيّة، وقصائدَ تعكسُ لوعتَه وقوّةَ حبّهِ مثلُ قصيدة فدوى طوقان: نادني من آخر الدنيا ألبّي صوتَ حبّي
كلُ دربٍ لكَ يُفضي... هو دربي
أنتَ تحيا لتنادي... وأنا أحيا لألبّي صوتَ حبّي
والغريب أنّ كلماتِ القصيدة التي كتبها لها قد حَذفَ منها عبارة يا حبيبي مرّتين، فلو عدنا للقصيدة الأصليّة نجدها تقول:
كلُ دربٍ لكَ يُفضي هو دربي
يا حبيبي أنت تحيا لتنادي
يا حبيبي أنا أحيا لألبّي
وهذا يدلّ على اهتمامه الشديد بعلاقته مع جوجو، وعدم كتابة عبارات تشيرُ إلى غزَلٍ مباشرٍ يُسبّب لها مساءَلةً ما، رغمَ أنّه إنسانٌ دقيقٌ جدًّا في معلوماته وتفاصيل يومِه، فغيرُ واردٍ أنّه لم يعرف كلماتِ القصيدة بالتمام... وحذفُهُ لهاتين العبارتين كان حتمًا مقصودًا طالما يذكُر لها بأيّ ساعة بالضبط طوى جَفْنَيهِ ونام، ومتى بالضبط استيقظ: كتب لها: نمتُ حتّى الساعة السادسة وعشرِ دقائق صباحًا، والآن الساعة السادسة والربع، أيّ أنّه بدأ بالكتابة إليها فقط بعدَ خمسِ دقائق من صحوه من النوم، فكيف لا تصدّقه جوجو ولا تبني له وطنًا في قلبها يليقُ به طالما جعلها من أساسيّات يومه؟
وكيف لا تنصهر بروحه وهو لا يهمّه سوى جمالِ روحها، فعندما سألتْه عن رأيه بتسريحة شعرِها كتبَ لها: "جوجو لا يهمّني إن كان أجمل أم لا، المهمّ أنّني أحِبُّ روحَكِ وإخلاصَك، والشكلُ يأتي ثانويّ الأهمّيّة، أنا أريد جوجو لأنّها جوجو وليس لجمالها".
وكيف لا تأنس جوجو لكلماته وهو يطعّمها بفكاهات هنا وهناك، فيُضحِكُها لخفّة دمّه ويقول مشجّعا لها ص 54: "انتظري سيمرّ الوقتُ سريعًا ونريد فقط قليلًا من صبر وتين وعنب".
ويمزح معها قائلًا: "سلامتِك أنتِ من الانفونزا إن شاء الله يدبّ المرض في الكلب الروسيّ الذي يدور الآن في القمر ولا فيكم". فكاهته كانت مشتقّة من مجريات يوميّة كانت آنذاك ففي نفس السنة: سنة 1956 كانت الكلبة الروسيّة لايكا أوّل كائن حيّ يسير على القمر.
لدينا رسائل، لدينا سرّ جميل كان بين قلبِ أنيس وأوراقِه إلى أن التقى بحبيبتِه وعاشا وأسّسا أسرة رائعة... فانتهتْ حكايتُهُ لكن لم تنتهِ كلماتُه، فما زالت تضيءُ جوانب حياتيّة إلى كلّ من يصل إلى يديه كتاب رسائل حبّ ليست من هذا العصر.
2024
إضافة تعقيب