news-details

حيفا في ذاكرة برهوم، كي لا تُنسى.. (2)

... وما عملوه مع شجرة السِّدرة وفي محيطها لم تسعفهم وقت حاجتهم ولم تحمهم يوم الهجيج، بعد أن كانوا يدافعون عن الشَّجرة ويحمونها من كلِّ ضيم ومن كلِّ من تسوِّل له نفسه الاعتداء عليها أو قطع أيِّ جزء منها، فيُعاقَب من حيث لا يدري، وتلحقه اللعنة والغضب الملائكيُّ لكونها بحسب اعتقادهم مباركةً، لأنَّ الملائكة يحرسونها من كلِّ جانٍ، ليلاً ونهارًا، وهي على الأرض ترمزُ إلى الشَّجرة المقدَّسة التي ذُكِرت في القرآن الكريم في حضن السَّماء السَّابعة، ﴿..سِدْرَة المُنْتَهى﴾، عن يمين عرش المالك الرَّحيم الذي يُسخِّر ﴿..الشَّمسَ والقَمَرَ﴾ في جنَّة عدن، تنبع من أصلها الأنهار، وجذورها في السَّماء السَّادسة، وتأوي إليها الملائكة والشُّهداء ساعة راحتهم، لكنَّها انتصبت عاجزة أمام عذاب شعبنا ومآسيه ونكبته..

وتُعرف شجرة السِّدرة أيضًا بشجرة النَّبْق أو شجرة الدُّوم أو شجرة البُطُم، فثمارها حلوة المذاق، لقد كانت شجرة السِّدرة مزارًا لأهل البلاد، كلٌّ بمكان إقامته، يتباركون بها اعتقادًا منهم أنَّها تُحقِّق أمنياتهم، فمن طلبَت العريس ونامت تحت هذه الشَّجرة ليلةً، كان طلبها مُستجابًا، والفتاة التي يُستجاب طلبها، تصبح عروسًا، فتضعُ الحِنَّاء على كفَّيْها وعلى جذوع الشَّجرة، وكانت الفتيات تتهافتن على زيارتها حين تستجيب الشَّجرة لصبيَّة ما طلبها، فينَمن تحتها ليلةً، علَّ السَّميع يرحمهنَّ بعريس "لُقطة" وابن حلال يُهنيهُنَّ، آملات أن يكون باب الإستجابة مُشرعًا وباب الفرج قد فرجها عليهُنَّ وفرَّج كربَهُنَّ، وكان الخبر يُذاع، دون مذياع أو مكبِّر صوت، ودون منادٍ أيضًا، في البلدة "يا بنت قولي لأمِّك" كما "انتشار النَّار في الهشيم"..

ومن يقطع الشَّجرة أو أيَّ جزءٍ من فروعها يُصاب بالهمِّ والغمِّ والحزن واللعنة والكآبة، ويا نيَّال البيت المزروع في حديقته شجرة السِّدرة، رضا السَّماء ينزل عليه ورضا الغبراء يعلو اليه من الأرض، وهناك ايضًا من يعتقد أنَّ من يأكل من ثمارها الطَّيِّبة يُعافى من الأمراض الخبيثة مهما كانت درجة خطورتها..

 

بات اللاجئون يحملون أملاً مأمولاً في العودة إلى ديارهم وبيوتهم، ويحلمون في إعادة المفتاح إلى قفله وإلى سُكَّرته، ليُديروا المِقبض بمفتاحهم، ليفتحوا باب دارهم ويدخلوا بيوتهم ﴿..بسلام آمنين﴾، بدلاً من أن تبقى موصدةً ينعق الغراب في ساحتها وعلى شرفاتها ويسكُنُ البومُ في باحتها

 

 

لو كان للشَّجر لسان، لنطقَ صارخًا من هول مأساة شعب تشرَّد عقودًا، أو لو كان للحجر وجدانٌ، لسردَ حكاية الذين عادوا "مُتسلِّلين"، في كفنٍ، بعد أن طُرِدوا من موطنهم واحترقوا شوقًا لرؤية ديارهم ولشمِّ عطر أرضهم وليُكحِّلوا عيونهم بنور سمائهم، ولو كان للبحر قلبٌ، لنبَضَ بوتيرة أسرع من سرعة الأنواء العاتية، من هول المأساة ووصلَ صوتُ هديرهِ الغمامَ، وحمَل الذين هُجِّروا عنوةً واغتصابًا على فُلكِه وحطَّهم على شاطئهم الشَّاميِّ الدَّافئ في فلسطين..

آه لو يهدُلُ الحمام بهديلهِ راويًا، ما رأته عيونه، لأدمى البحر وفتَّت الحجر واحنَى الشَّجر، وفتَّش عن أماكن أخرى لبناء أعشاشه، فوق رؤوس اشجار هاتيك الجبال، حزنًا ولوعةً على البشر الذين أصبحوا بلا وطن بلا أرض وبلا سقف يأوون تحته أو زيتونة وارفة يستظلُّون بها، لقد حمل وَرَى فلسطين صُوَر بلادهم بأعيُنهم، إلى ما وراء الوراء..

كلُّ ذرَّة تراب ورمل، كلُّ حجرٍ وحصوة وصخرة، على هذه الأرض، عاشت نكبتنا ونكستنا ومآسينا وإن اختلفت أسماؤها وتشابكت وتكاملت والتقت بمُحصِّلة واحدة، تهجير وتشريد وتهويد واستيطان وعذاب وشقاء وخيام لجوء ومخيَّمات..

لقد بات أبناء شعبنا بين ليلة،لا ضوء لقمرها في السَّماء، وفجر لا شفَق لشمسه، لا صحوةٌ توقظه ولا يقظةٌ تُصحِّيه، يعرفون الدَّواء ويُلازمون الدَّاء، مشرَّدين ولاجئين في بلادهم وضائعين في بلاد الأشقَّاء، بين الأشقَّاء، في العبِّ يحملون الكوشان وفي الجبِّ يُخبِّئون المفتاح، وفي الجيب يقبضون على املٍ في العودة، إلى ديارهم، يعيشون بعيدًا في المنفى وقريبًا من المنفى..

"جميلٌ أنتَ في المنفى. قتيلٌ أنتَ في روما".

لقد بات اللاجئون يحملون أملاً مأمولاً في العودة إلى ديارهم وبيوتهم، ويحلمون في إعادة المفتاح إلى قفله وإلى سُكَّرته، ليُديروا المِقبض بمفتاحهم، ليفتحوا باب دارهم ويدخلوا بيوتهم ﴿..بسلام آمنين﴾، بدلاً من أن تبقى موصدةً ينعق الغراب في ساحتها وعلى شرفاتها ويسكُنُ البومُ في باحتها، ويبنون أعشاشهم على شرفات بيوتهم ومساكنهم، في عقر دارهم، بعد أن طُردوا منها وامتلكها غريبٌ أتى بلادي من وراء اليمِّ وأديم الأرض..

نقول مِثْل غراب البَين، حين تحلُّ مصيبةٌ ببيتٍ بعد زيارة شخص ما.لأنَّ الغراب ذكيٌّ شرسٌ ومشاكسٌ وعدوانيٌّ ورمزٌ للشُّؤم، أو نقول مثل غراب نوح الذي ذهب ولم يعُد، كما جاء في سفر التَّكوين، عندما بعثه نوح من على سفينته بعد انتهاء الطُّوفان، ليُفتِّش عن ظهور الأرض بعد أن طمرتها مياه الغضب الإلهيِّ، ليأوي عليها، فالتهى الغراب بنهش الجيف التي لاقت حتفها حين أغرقها الطُّوفان، وطافت على وجه الماء، ولم يعُد الغراب ليُطمئن نوح بانتهاء غضب الله على شعبه، وزوال الطوفان..

الغراب ذكيٌّ لكنَّ الثَّعلب ماكرٌ وداهية، وما بين الذَّكاء والدَّهاء صراع، وتحدِّثنا قصَّة أيسوب عن الثَّعلب المكَّار والغراب الواقف على شجرة وفي فمه قطعة من الجبن، أرادها الثَّعلب أن تكون في فيه، وحين أنشدَ الغراب حسب رغبة الثَّعلب، سقطت قطعة الجبن في فم الثَّعلب وكان له ما أراد، فعلى الذَّكيِّ أن يحذر الدَّواهي، وما أكثرهم في هذه الأيَّام وفي سابق الزمان..

كذلك البومة تعيش حياتها ليلاً، في الأماكن الخرِبة، في الخراب، فبرغم عماها إلا أنَّها نبيهة وترمزُ للذَّكاء، أيضًا، والحلم والفِطنة والشُّؤم أيضًا، وغالِبًا ما نصِفُ الإنسان الكشور المتشائم بالبومة، فنقول له: مالك ضارب بوز مثل البومة ع هالصُّبح، أو وجهو مثل البومة، الله الوكيل!

لا يحمِلُ الإنسان معه "مفاتيح الغيب"، مهما كانت مرتبته ورُتبته، لأنَّها في جعبة خالقه، ولا يعلم أحدٌ ما في علم الغيب، لأنَّ العِلم عند ربِّ العِلم، عند ربِّ العالِمين والعالَمين، فهو المُختصُّ في هذا العلم، وهو وحده علَّامُ الغُيوب، حيث ﴿..لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾، وهذا يقينٌ لا شكَّ فيه، فالإنسان يملكُ مفاتيح الفرج، ويُمكن أن يكون هذا شكًّا لا يقينَ فيه، لكنَّ الشَّكَّ يُقطع باليقين إن كان الإنسان صبورًا وصابرًا ومرابطًا، حليمًا وقويًّا، يحمل في العصب برودة الجليد،"برودة الجليد في أعصابنا" و"الفولاذ في العصب" ثورةً، ويكون عاشقًا للإنسان والأرض والحياة التي أراد أن يحياها، ويريد لشعبه أن يعيشَها، متمنِّيًا أن يَكتُب له الغيبُ "غيبًا" يخلدُ فيه إلى الرَّاحة والطَّمأنينة والسَّعادة والسَّلام والعيش مع أهله بكرامة وعزَّة نفس، بعد أن يلمَّ شمله فوق أرضه ليستكينَ على أرضه كما يشاء، ساعة يشاء، وحين تأتي ساعته يخلُدُ في رحم أرضه إلى قيام السَّاعة، ﴿..من التُّراب وإلى التُّرابِ تعود﴾، لأنَّه يريدُ أن تكون له أرضٌ تحت قدميه، يقف عليها، في حياته ويُدفنُ فيها، تحتها، في مماته، كي "أموت كما أشاء" ولكي يموت متى يشاء، وأين يشاء، ولا يُريد أن يموت متى شاؤوا له ذلك الموت أو كيف رسموه له أن يموت، كما حدث لقرى السَّاحل الشَّمالي لفلسطين، التي وصلت أخبارها سكَّان حيفا، حين أمروا الشَّباب، تحت الوعيد والتَّهديد والتَّرهيب، بحفر قبورهم بأيديهم ودفنهم أمواتًا وأحياءً أو حرقهم كما حدث في إحدى القرى السَّاحليَّة من قرى قضاء حيفا حيث وضعوا الشَّباب في سهل مليء بسنابل القمح ذي صُفرةٍ نحاسيَّة ناضجة، في تلك السَّنة من شهر تموز من ايَّام النَّكبة وحرقوهم احياءً، حدث ذلك في يومٍ قائظٍ من أيَّام نكبتنا..

قال الصَّحابيُّ حسن البصري: "ما رأيتُ يقينا ًلا شكَّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه إلا الموت".

ويقول أجدادنا عن شهر تمُّوز: شهر تمُّوز بْتِغلي المَي في الكوز! منشدَّة الحرِّ، لقد شوَتهم النَّار شيًّا وكوَتهم في لهيبها كيًّا، إلى آخر نفَسٍ..

عن طيرة اللوز، حَدِّثوني إن كنتم أحياء، عن احوالكم وعن قصَّة الشَّهيد رشيد عبد الشِّيخ ورفاقه الأبطال..

"لا أرضَ تحتي كي أموتَ كما أشاءُ"..

"أنا الأرضُ لا تحرميني المطر"

"هنا استبسل العربُ ضدَّ الغزاة هنا استشهد الباسلون"

ومن بعدها يلومُ "اشقَّاؤنا" الضَّحيَّة، التي  طُرِدَت من أرضها: كيف تتركون بلادكم، وكأنَّ قرارنا وقول فصْلِنا كان النَّكبة والهزيمة وترك البلاد للنَّقاهة!

آهٍ يا الطَّنطورة، آهٍ يا عمواس، آهٍ يا دير ياسين ودير القاسي واللجون والرُّوحة والنَّهر والتَّل والدَّامون وأم الزِّينات وآه يا طيرة اللوز والحوَّاسة وبلد الشِّيخ وعين غزال وعين حوض وجبع وكفر لام وعين كارم وفرَّاضية وكفر عنان وياقوق والسَّمُّوعي ومعلول والشَّجرة والبروة وآهٍ وألف آهٍ يا بلدي!

ما أكثر تلك البلدات المهجَّرة والمنكوبة..

(يتبع)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب