news-details

 حيفا في ذاكرة برهوم، كي لا ننسى (15)

يذكر الرَّفيق اسطفان خوري، ابو يوسف، في لقائي معه في كتابي "حماة الدِّيار" ما يلي، قبل أعوام قليلة:

"ويذكر أيضًا البالونات الضَّخمة التي كانت تسبح في سَماء المنطقة أثناء الحرب العالميَّة الثَّانية لِتَمويه الطَّائرات الألمانيَّة التي كانت تُغيرُ على مصافي تكرير البترول "الرِّفاينَري" وعلى مكاتب شركة النَّفط العراقيَّة، آي بي سي، في مدينة حيفا"، هذا وقد كتبت صحيفة "الدِّفاع" الصَّادرة في يافا، صاحب الإمتياز ورئيس التَّحرير الأستاذ ابراهيم الشَّنطي، في السَّادس والعشرين من شهر شباط، عام الفٍ وتسعمائة وإثنين وأربعين: "لمراسل "الدِّفاع" الخاص-إنطلقت صفَّارات الإنذار في السَّاعة الثَّامنة والدَّقيقة الخامسة من مساء أمس، من الغارات الجويَّة، فهرع النَّاس إلى الملاجئ وانتشر رجال فرق الوقاية في مختلف مناطق المدينة، ودام الإنذار مدَّة نصف ساعة، أُعلن بعدها زوال الخطر. ولم تُشاهد طائرات في سماء المدينة"، وكذلك كتبت الصَّحيفة نفسها في التَّاسع من ايَّار، عام الفٍ وتسعمائة واربعةٍ واربعين ما يلي: "إطلاق صفَّارات الإنذار بالغارة في حيفا، إقتراب طائرات معادية (إيطاليَّة/ألمانيَّة خ.ت.) لأوَّل مرة منذ ثلاثة أشهر.. وقد استمرَّت دور السِّينما في عرض حفلاتها طول مُدَّة الإنذار"، وفي صحيفة "الصِّراط المستقيم"، كتب صاحب الإمتياز والمحرِّر المسؤول، عبد الله القلقيلي، الصَّادرة في الحادي عشر من شهر حزيران عام ألفٍ وتسعمائة وواحد وأربعين، على رأس الصَّفحة الأولى، بالبونط العريض: "غارات طويلة تشنُّها طائرات الأعداء على حيفا في السَّاعة الواحدة من صباح اليوم".

واقتبسُ هنا من محاضرة للأستاذ والمؤرِّخ اسكندر عمل، ما يلي:

بعد أن احتلَّت المانيا النَّازية شمال فرنسا، سمحت لعميلها الجنرال بيتان بإقامة حكومة في الجزء الجنوبيِّ من فرنسا، وكانت عاصمة هذه الحكومة مدينة فيشي، وبطبيعة الحال أصبحت مناطق الإنتداب الفرنسيِّ في سوريَّة ولبنان تحت سيطرة حكومة فيشي، ومن المعروف أنَّ حكومة فرنسا الحرَّة بقيادة الجنرال شارل ديغول كانت قد وعدت سوريَّة ولبنان بالإستقلال بعد انتهاء الحرب وانتصار الحلفاء، لكنَّ فرنسا نكثت بوعدها ولم تمنح سوريَّة ولبنان الإستقلال كما وعدت أثناء الحرب..

لكنَّ الشَّام التي تأبى الذُّلَّ والهوانَ سطَّرت ملاحمها البطوليَّة ضدَّ المحتلِّ الغازي بأسطر من دماء وشقاء ووفاء ورجاء بالنَّصر الأكيد بإرادة الشُّعوب التي "إذا هبَّت ستنتصر" فكانت فاتحة الجلاء والتَّحرير في معركة ميسلون وإن خسر فيها الثُّوَّار لكنَّهم استبسلوا فيها: "استبسل السُّوريُّون في معركة ميسلون ولم يستسلموا رغم عدم التَّكافؤ في القوَّات العسكريَّة والعتاد ونوعيَّة الأسلحة، فقد قُدِّرت القوَّات الفرنسيَّة بناءً على بلاغ رسميٍّ بتسعة ألاف جنديٍّ تعزِّزها عشر طائرات وخمس بطاريَّات ميدان جبليَّة وبطاريتين من عيارات مختلفة، وعدد من الدَّبَّابات وكميَّة من الرَّشَّاشات وكانت هذه القوَّات بقيادة غوابيه". وما هي إلا سنوات قليلة حتى تمَّ طردُ وكنس المحتلِّ من الأرض الشَّاميَّة المقدَّسة وتمَّ الجلاء، جلاء المستعمر، في السَّابع عشر من نيسان من العام الفٍ وتسعمائة وستَّةٍ وأربعين وأصبحت الشَّام لأهل الشَّام..

كم لنا من ميسلونٍ نَفَضَت عن جناحيها غُبارَ التَّعبِ 

كم نَبت أسيافُنا في ملعبٍ وكبَت أفراسُنا في ملعبِ 

من نضالٍ عاثرٍ مصطخبٍ لنضالٍ عاثرٍ مصطخبِ 

شرفُ الوثبةِ أن ترضي العُلى غلبَ الواثبُ أم لم يغلبِ 

أحاول أن أدخل جِلباب أبي دون علْمِه، لأكتب عن أهله وأحبَّائه وأترابه في حيفا يومَ نكتبها، لأعيش معهم تلك الفترة، لأجدَ أنَّ عمرَه كان يوم سقوطِها لا يزيد عن الخمسة عشر ربيعًا، وتمرُّ عليه، كلَّ عام، كما كلَّ يوم، آلام الحزن والحسرة واللوعة وخسارة كلِّ شيئ، دون أن يفقد الأمل، بأمل عودة الأهل والخلان والأصحاب الأحباب والأتراب، وعودة كلِّ الحقِّ لأصحاب الحقِّ ولكلِّ ذي حقٍ..

تأكلُ كبدي هذه الذِّكرى الأليمة والموجعة حتَّى الصَّميم، وتعبث في صمَّام قلبي الرَّئيس إذ ما زلتُ أقفُ محاصَرًا في جامع السُّوق (الصَّغير)، هاربًا مع اترابي من مدرستي، أختبئ في كلٍّ حفرة، ووراء كلِّ شجرة أو خلف الأعشاب العالية، خفتُ أن يضعوني في الدَّير مع باقي التَّلاميذ، ويوصِدوا الأبواب علينا، تحضيرًا لتهريبنا إلى لبنان، فإذا وصلنا لبنان ستخرج والدتي وشقيقي البكر ليُفتِّشا عنِّي، كذلك باقي العائلات سيقصدون لبنان لملاقاة فلذات أكباهم، وإن حدث هذا، سنبقى هناك ولن نستطيع العودة إلى حيفا، وإن حدث هذا، تكون خطَّة بني صهيون قد اكتملت، وهذه هي الطَّامة الكبرى.. 

خفتُ من أصوات المدافع ومن ضجيج التَّفجيرات وقصف الرُّعود، في ذلك اليوم الحار القائظ، لا أقدر، أن أخرجَ من جيب عباءة والدي، خوفًا منهُ عليَّ، وحرصًا منه على حياتي المهدَّدة من القنَّاصة، التي رمَت برصاصها الحاقد على كلِّ ذي حركة في الأحياء العربيَّة، بعد أن تمترسَت فوق أسطح العمارات الشَّاهقة في شارع سيركين أو على شُرفات عمارة سلام أو مبنى سلمون أو في دار الإذاعة في شارع البرج، ولا استطيعُ أن أطلَّ على العالم من عُبِّهِ الدَّافئ، احتراسًا منِّي على نفسي.

لقد وجدتُ في عبِّه أمني ومأمني، سكينتي وسكوني ومسكني، حيث حاولتُ الوصولَ إلى حيِّ وادي النِّسناس الذي أسكنه وعائلتي، فكلُّ من رأيته في طريقي إلى هناك يسألني، أين المصير! 

لقد كان جوابي، وأنا ابن الخامسة عشرة، لهم قاطِعًا، وكان صوتي وصوت والدي واحِدًا في نغمة واحدة، من حنجرتين، وفي لحظة واحدة تخرج كلماتنا من بيت الصَّوت عاليةً،  واحدة لا ثان لها ونقول لهم بإصرار: البقاء ثمَّ البقاء ثمَّ البقاء..

.."أنا الأرض في جسدٍ لن تمُرُّوا"

لن يمُرُّوا فوق أرضي، لن يمُرُّوا..

انتقلتُ عبر معابري الالتفافيَّة والخاصَّة التي أعرفها، كما أعرفُ الخطوط والأخاديد في كفِّ يدي، ولا يعرفها حتى الدُّومري (التَّأمُري أو التُّؤمري وهو الشَّخص الذي يتفقَّد الحارات وأزقَّتها ليلاً ويُنير فوانيسها وقناديلها ويُطفئها صباحًا) مررتُ بالجامع الكبير حيث كانت الحبوب والبقوليَّات تملأ ساحة الجرينة، وكانت هذه السَّاحة مرتعي وملهى صباي ومُلهمة لأحلامي، فعبرتُ إلى السُّوق الابيض عند كنيسة مار يوسف لرعيَّة اللاتين في ساحة الخمرة حيث دخلها الجنود واعتلوا اسطحة الكنيسة (عملية تدنيس للمقدَّسات) وبدأوا يُطلقون النَّار على المارَّة من العرب دون توقُّفٍ، وانتقلتُ هاربًا من منطقتي التي كنتُ محاصَرًا فيها إلى شارع يافا ومن ثمَّ إلى شارع ستانتون، حيث كان هناك أيضًا إطلاق نار ومواجهات غير متكافئة بين العصابات بسلاحهم وذخيرتهم وعتادهم وأهل البلد بما تيسَّر لهم من أسلحة قديمة من بقايا بني عثمان أو بالسلاح الأبيض، ومنه صعودًا إلى شارع البرج بطرق التفافيَّة، على أمل الوصول إلى مقرِّ عصبة التَّحرُّر الوطنيِّ، الواقع في درج الموارنة رقم ستَّة عشر، بين شارع الرَّاهبات وستانتون، دخلتُ المقرَّ وقد كُتبت يافطة كبيرة بارزة، فوق قوسِ بوَّابة النَّادي الحديديَّة "إتِّحاد النِّقابات المهنيَّة" فقد وجدْتُ رفاقي وقد أنهكهم التَّعب وغالبهم القلق وغَسَلهم العرق، يكتبون بخطِّ اليدِ وينقِّحون الجُمل ويتجادلون في فحوى النَّصِّ الملائم ويطبعون المناشير بواسطة مطبعة "ستانسل"، ويضعونها في رُزمٍ من قماش، تحضيرًا لإيصالها إلى القُرى والمدن المجاورة لتوزيعها. فأخذ كلُّ واحد منَّا رزمةً ونزلنا عبر شارع الخطيب إلى ساحة الخمرة، وهناك تفرَّقنا إلى أماكن عديدة لنلتقي بمن يتحمَّل مسؤوليَّة إيصالها إلى من يهمُّه الأمر، والكلُّ مهتمٌّ بما حصل وماذا يخبِّئ القادمُ من الأيَّام لشعبي، على أمل أن تصلَ هذه الكلمات إلى أماكن تواجد اللاجئين، بغية إقناعهم وحثِّهم على التَّراجع عن قرارهم وبأن يعزفوا عن ترك المدينة لأنَّ النُّزوح هو في اتِّجاه واحد لا رجعة منه..

واعطيتُ كلَّ من صادفتُهُ منشورًا (10) يدعو للبقاء في حيفا، وإن كان أميًّا قرأتُه له، نصًّا كاملاً ورافقه تفسيرًا، وغالبًا كان بالمختصر المفيد، كذلك عملوا رفاقي الذين تعهَّدوا بتوزيع المنشور، حيث أنَّ رفاقي في العصبة كانوا قد وكَّلوني وباقي رفاقي الشَّباب في حيفا بتوزيعه في هذه المنطقة بالذَّات من حيفا، وكانت دعوتنا لهم، لا تتركوا حيفا! 

لأجل حرية فلسطين واستقلالها ووحدتها..

حين وقفتُ ورفاقي عند بوَّابة الميناء، قرب الحسْبة،كنت حينها ابن الخامسة عشرة، نترجَّى بقاءهم ونُقبِّل أقدام النَّازحين ليعودوا إلى أحيائهم وديارهم وبيوتهم، إن استطاعوا إليها ﴿..سبيلاً﴾، سمعتُهم يتهامسون بخوف وروْع وفزعٍ، عن أزيز الرَّصاص وأصوات التَّفجيرات التي تقسم الهواء إلى قسمين وتقصم سكونه، وتقضُّ سكوت الدَّياجير وهدوء الليل، كلَّ ليلةٍ نحو بيوتهم، وعن براميل البارود التي تدحرجت من علٍ على البيوت العربيِّة في الوادي، وعن القذائف التي هبطت على رؤوس روَّاد السُّوق من منطقة الهدار العلويِّ وعن القنَّاصة فوق سطوح المنازل وعن حرق الأماكن والمحال التِّجاريَّة والبيوت بعد غزوها واقتحامها وقتل من فيها وسرقت محتوياتها، وسمعتهم يتناقلون، أيضًا، برعبٍ وذُعرٍ تفاصيل مجازر دير ياسين وكفر لام وإجزم وأمِّ الزِّينات والطِّيرة والطَّنطورة وبلد الشِّيخ والحوَّاسة والهوشة والكساير وأم خالد والتَّل والنَّهر والدَّامون..

لقد هرع، أيضًا، سكَّان القرى من قضاء حيفا، الى المدينة، الى الميناء، ليجدوا فيه ملاذهم في خلاصهم، في الشَّتات، نتيجة المذابح التي مرَّت بها هذه القرى وقرى الجوار، الحوَّاسة، بلد الشِّيخ، إجزم، ام الزِّينات، عين غزال، كفر لام، طيرة اللوز، الطَّنطورة، الياجور، عين حوض، جبع وخربة الدَّامون..

الموت في الوطن ولا عيشة الذُّلِّ في المنفى وفي المخيَّمات، ولو استطيع أن أرجِّع عجلات التَّاريخ إلى الوراء..

رأيتُ النَّازحين يحمِّلون أثاث بيوتهم وفِراشهم وسجاجيد بيوتهم وأواني الطَّهي على الشَّاحنات، لن أنسى تلك المرأة التي حملت على رأسها جرن الكُبَّة فوق إكليل من القماش والمدقَّة في يدها، ورأيتُ أخرى تحمل الجاروشة بحجريها الأسودين البازلتيَّين لجرش الحبوب، وتلك تحمل الهاون النُّحاسيَّ ومهباج القهوة، والمحماسة ودلات القهوة، في ساحة الخمرة، يا الله، كم كان إيمانهم بالعودة الأكيدة كبيرًا، ولو بعد حين، لقد رأيتُ مئات الشَّاحنات تنتظرهم، لتأخذهم إلى مجهول، إلى الشَّتات!

شعرتُ أنَّ المدينة تخلو من سكَّانها شيئًا فشيئًا، لم يحمها الخضر أبو العبَّاس ولم يدافع 

عنها مار الياس، كلُّ قداسة المدينة لم تشفع لسُكَّان حيفا بل وقعت عليهم النَّكبة كما على سائر مناطق الوطن..

ليتني أعود إلى جلباب أبي واختفي به، لكن..

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب