news-details

خطاب جريس دبيات الشعري (3-3)| رياض كامل          

لم تقتصر مواضيع هذا الديوان على نقد المجتمع والبحث عن هناته ونواقصه، بل إن المواضيع متنوعة، كما في ديوانيه السابقين، وقد لفت نظر القارئ متابعة الشاعر وتقصيه المناسبات الاجتماعية على اختلافها، ومشاركته أتراح الناس وأفراحهم. ولعلّ المتابع لما ينشره في وسائل التواصل الاجتماعي يجد الجواب الشافي لما ذكر هنا. فقد كتب الشاعر أكثر من قصيدة رثاء في شخصيات عدة، بدا فيها في غاية الحساسية، مجددا أحيانا، كما في قصيدة "خيتاه" (تظلين أحلى، ص53) التي أتينا على ذكرها أعلاه. وهي قصيدة عمدتها الرئيسية التأسّي والألم والشوق، وقد وظّف فيها أسلوب المناجاة، من خلال النداء، ليبث لواعج الشوق والألم، فاخترق حزنه الضلوع. وبدا تقليديا في قصيدة "لن ننساك" (مع إطلالة الفجر، ص68)، التي رثى فيها كاهن الرعية في قريته، التي تبرز فيها كل مركبات قصيدة الرثاء العربي التقليدي؛ التعبير عن الألم إثر سماع خبر الوفاة، مدح الميت وذكر محاسنه وخصاله الطيبة، طلب الترحم من الله وبقاء ذكره إلى الأبد. أما قصيدة الرثاء بعنوان "أبو فرح" (رماديات، ص56-62)، التي رثى فيها جاره الذي كان له مركز اجتماعي سامٍ فقد انتقل فيها إلى مكان آخر من حيث المبنى، واعتمد وسائل فنيّة حديثة مازجا بين الضمائر: المتكلم والمخاطب والمخاطبة، فضلا عن المناجاة والذكريات، والانتقال السريع بين الماضي والحاضر، مما جعل القصيدة أوسع من أن تكون رثاء تقليديا، فبات عالم القصيدة أكثر اتساعا وأكثر انفتاحا:

"عُنابة في بيتك العتيقِ

لم تزلْ تعانق المكانْ

وتشرئبّ نحو قبّة السماءِ

ترصد الزمانْ

أعيادها قدومك الأثيرْ

وشوكها يلين في يديْك كالحريرْ

يا جارة الرمّانْ

لا يرحم الزمانْ

ولستِ تعرفين بعدُ

ما مرارةُ الفراقِ والرحيل والحرمانْ". (رماديات، ص57)

يرى القارئ المتأنّي أنّ هناك قفزة نوعية في ديوانه الثالث، من حيث مفهوم "الشعرية"، كما حدّد مفاهيمها العديد من المنظرين، منذ الشكلانية الروسية، فالبنيوية وما بعدها. ما نستطيع التأكيد عليه هو أن دبيات ظلّ يدور في فلك عالمه الشعري ملتزما بنفس القضايا الاجتماعية والفكرية، يطرح نفس الهموم، ولكن بصورة أكثر عمقا، موظّفا الرموز والإشارات والإحالات والأساطير والميثولوجيا التي تجعل النص أكثر غنى وأكثر قدرة على مخاطبة القراء على اختلاف مستوياتهم. فقد بات الشاعر يميل أكثر نحو الترميز والإحالات والإشارات، ولنا على ذلك أمثلة عدة نكتفي بدعوة القارئ إلى قصيدة "نومي السمرا"، (رماديات، ص84) وقصيدة "دوللي" (رماديات، ص88).

تتناول الأولى تألّق عارضة الأزياء الشهيرة "نعومي كامبل" ليعالج من خلالها قضية المواجهة الأزلية بين الإنسان والزمان وصراعهما العاتي، وتغلّب الزمن وانتصاره على جسم الإنسان، وعلى شكله وصورته، مهما كان جميلا وفاتنا. وبالتالي إعراض الناس عن الاهتمام بالجسم الذابل الذي كان يوما ما يذهل النظر من خلال توهجه وألقه. فما أن يذوي الجسم حتى تنطفئ الأضواء وتبهت الصورة وتضيع النجمة. وتتناول الثانية قصة النعجة الشهيرة "دوللي" التي استنسخت وشغلت العالم بالنجاح العلمي المبهر، لكن "دوللي" تشعر بالنقص وبالغربة:

"أنا "دوللي"

أبي ما لست أعرفه

وأمي – قيل لي – أنثى من الضان

فما لي لا أرى إلا

وجوه الناس من حولي؟

وما لي ما لأترابي

من المرعى – الكَلا الرطبُ

من الناي – الصدى العذبُ

كأني جئت للدنيا

غريبا مرهق الحملِ".

"دوللي" شغلت العالم، ولكنها تشعر بالضياع وبالغربة. فما لغيرها من متع الحياة ليس لها فيها أي حظ، لا أم لها ترعاها وتشكو إليها همومها، ولا عائلة ولا داعمين. تنجح القصيدة من خلال المونولوج أن تثير قضية إنسانية وفلسفية حول التناقض بين الشكل والحقيقة وحول الغربة والضياع. وبالتالي تتشظّى الدلالات، فهل "دوللي" هي ذات الشاعر؟ أم هي الشعب الفلسطيني؟ أم هي إشارة إلى فئة من الناس ضاعت حقوقهم وتاهت في هذه الحياة؟ فما هي هوية "دوللي"؟ وكيف للإنسان أن يعيش بدون هوية؟ ومن هو "المجرم" بحق "دوللي" ومن كان على شاكلتها؟

ليس جديدا على الشاعر طرح قضايا فلسفية، فقد تناول ذلك في ديوانيه السابقين، لكن المتلقي يتجاوب مع هذا الديوان أكثر من سابقيه نظرا لانفتاح النص واعتماد الترميز والإحالات وتعدد الدلالات، مما يطرح السؤال من أوسع أبوابه: ماذا عن العقدين الأخيرين من عمر الشاعر؟ أين الديوان الرابع والخامس؟ هل كسر الشاعر "أفق التوقعات" من جديد؟ نطرح هذه التساؤلات مع العلم أنّ الشاعر لم يتوقف أبدا عن الكتابة، إذ شهدنا تكثيفا للنشر في وسائل التواصل الاجتماعي، ولم نر الإنتاج على الورق ليتسنى لنا إجراء مقارنة مع ما كان وما صار. وعليه فإننا ندعو غيرنا من الدارسين لولوج هذا الجانب وسيجدون مادة دسمة لا تتسع لها هذه المقالة.

 

خلاصة

شعر جريس دبيات يستحق القراءة والبحث، فلكل قارئ فيه نصيب، وفق الموضوع واللغة ومستوى التشفير، إذ يجد القارئ فيه ما يروي غليله؛ اللغة فيها من السلاسة ما يجعلها قريبة من تناول كل قارئ، والتشفير أداة لتحريك القارئ المتمرس كي يبحث عن التشابه والتضاد بين شعر دبيات وما سبقه.

يطرح الشاعر مواضيع قريبة جدا من القارئ العربي عامة، والفلسطيني خاصة، يستقي مواضيعه من محيطه، ومن وجع نال أبناءُ شعبه منه قسطا وافيا، فيتحول الشعر لديه إلى محاورة مع الذات لا تخلو من حثها على مراجعة ما كان للسير نحو المستقبل بخطى ثابتة.

يكثر الشاعر من توظيف التراث وتطعيم أشعاره برصيد فكري قديم، وكأنه يمزج كل معارفه التراثية والدينية والفلسفية في وعاء واحد لتحمل شكلا جديدا ومعنى جديدا يربط الماضي بالحاضر، حتى ليبدو وكأن الوجع القديم ليس هو ذاته وجع اليوم، والفرح القديم ليس هو ذاته اليوم. فالمشاعر الإنسانية، وإن كانت ذاتها عبر التاريخ، إلا أن التعبير عنها فيه المتشابه والمتضاد في آن معا. فوجع المحب عند الفراق هو ذاته، وألم المشرّد عند هجر الوطن هو ذاته، لكن اللغة تأخذ منحى جديدا في تناغمها مع تبدلات المكان والزمان والإنسان.

يؤمن جريس دبيات بالقوالب الشعرية الموزونة والمموسقة، ولا يعمل على تغيير ما كان من حيث الشكل لأنها، وفق رؤيته، وصلت إلى كمالها. أما ما لا يلتزم بالإيقاع والوزن فلا علاقة له بالشعر. فقد وظّف الأوزان الخليلية، وشعر التفعيلة، وعاد إلى شعراء بني العباس، وعرّج على ديار الأندلس يحاكي موشحاتها، دون التقيد بمضامينها، وكنا نتمنى عليه أن يكسر بعض هذه القوالب، كما فعل مع المضمون، فلا شيء في الشكل مقدس، وتحطيم القوالب غاية المبدعين. وإن كنا نعلم أن ليس كل ما هو جديد أفضل مما كان لمجرد جدّته، لكن هذا هو دور المبدع.

يلتزم الشاعر بالمواضيع الاجتماعية والفكرية والسياسية التي تشغل المحيط الذي يعيش فيه. ويحافظ على مسافة قريبة من المتلقّي، في اعتماده على الرموز الشفافة القريبة من القراء، ويلجأ إلى توظيف التناصّ الدينيّ والتراثيّ لتوسيع عالمه الشعري.

لم يتوقف جريس دبيات عن قول الشعر، وهو سريع التجاوب مع الأحداث اليومية، محليا وعالميا، إذ سرعان ما يكتب في أكثر الأحداث جدّة. وهو، كما ذكرنا في أكثر من موقع من هذه الدراسة، واسع الثقافة عالم باللغة وأصولها وقواعدها وأسسها، ولديه رصيد يكفي لأن يعبئ مجموعات من الدواوين الشعرية.

 

//المصادر

دبيات، جريس. مع إطلالة الفجر. كفركنا: وزارة المعارف والثقافة، 1994.

دبيات، جريس. تظلين أحلى. د. م: وزارة المعارف والثقافة، 1996.

دبيات، جريس. رماديات. الناصرة: وزارة المعارف والثقافة، 2001.

//المراجع

إيزر، وولفجانج. فعل القراءة. ترجمة حميد لحمداني، والجيلاني لكدية. فاس: منشورات مكتبة الناهل، 1994.

إيكو، أمبرتو. "القارئ النموذجي". من كتاب نظرية الأدب: القراءة، الفهم، التأويل- نصوص مترجمة. ترجمة أحمد بو حسن. الرباط: دار الأمان، 2004. ص29-49.

بلعابد، عبد الحق. عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص). بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر: منشورات الاختلاف، 2008.

جبران، سليمان، الإيقاع في شعر درويش نظم كأنه نثر. دالية الكرمل: جدل، 2017.

درو، إليزبيث. الشعر كيف نفهمه ونتذوقه. ترجمة محمد إبراهيم الشوش. بيروت: مكتبة منيمنة، 1961.

شولز، روبرت. السيمياء والتأويل. ترجمة سعيد الغانمي. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994.

الغذامي، عبدالله. ثقافة الأسئلة. ط2. الكويت: دار سعاد الصباح، 1993.

الغذامي، عبدالله. الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية. ط4. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.

صالح، بشرى موسى. نظرية التلقي – أصول وتطبيقات. بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1999.

غنايم، محمود. غواية العنوان- النص والسياق في القصة الفلسطينية. الناصرة: مجمع اللغة العربية،

2015.

كامل، رياض. حوارات في الفكر والأدب. عمان: الدار الأهلية للطباعة والنشر، 2021.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب