news-details

خطاب جريس دبيات الشعري| رياض كامل (1-2)           

عنيت هذه الدراسة بقراءة إنتاج الشاعر جريس دبيات في دواوينه الثلاثة، وتوقفتْ عند أهم المواضيع التي شغلته، والوسائل الفنيّة والتقنيّة التي وظّفها، فوجدت أنّ الشاعر قد تمكّن من أدواته، منذ بداية مشواره مع الشعر، يؤثّث نصوصه بالإحالات إلى الأساطير والكتب المقدسة والتراث الشعري العربي مما يثري النص ويجعله أكثر عمقا وتشظيا.

بدأ دبيات بكتابة الشعر في سن مبكرة، تعود إلى المرحلة الثانوية، ملتزما بالشعر الموزون دون غيره، حين كانت المعركة بين الشعر الكلاسيكي وشعر التفعيلة قد حسمها شعراء طلائعيون وضعوا الأسس المتينة لشعر التفعيلة، دون إلغاء دور الشعر العمودي، وقد ظل ملتزما بالشعر الموزون حتى اليوم. وهو، كما كثير من الشعراء، بدأ حياته الشعرية مقلِّدا للسابقين متأثّرا بهم، إلى أن شقّ طريقه الخاص به.

إن أي دراسة جديدة تأخذ بعين الاعتبار ما كتب عن الأديب من دراسات سابقة، ولكن بالرغم من أننا نتحدث عن شاعر يكتب منذ نهاية العقد السادس وبداية العقد السابع من القرن الماضي، إلا أننا لم نعثر على دراسة منهجية واحدة قامت بتعقُّب أشعاره والوقوف على أهم المحطات في مسيرته، أو معاينة أسلوبه، والمواضيع التي طرقها وعالجها.

أصدر الشاعر دبيات ديواني شعر متتاليين: "مع إطلالة الفجر" (1994)، و"تظلين أحلى" (1996)، بفارق سنتين، ما يدلّ على أنّ الشاعر كان يقوم بجمع ما يكتب حتى قرّر، لأسبابه الخاصة، أن يبادر إلى إصدار ديوانه الأول فالثاني. ثم كانت ولادة ديوانه الثالث "رماديات" سنة 2001. ومع أنه لم يتوقف عن الكتابة والنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلا أنه لم يصدر أي ديوان منذ ذلك الحين.

لقد تبين، بعد معاينة الدواوين الثلاثة، والتوقف عند العناوين وأبعادها، والمواضيع وحيثياتها، وقياس القيمة الجمالية وعواملها، أنّ الشاعر يقوم باختيار العناوين التي تختزل أهم الأفكار التي تتمحور حولها معظم أشعار الدواوين، وأنه ينشغل بما يدور حوله من أحداث، على الصعيد الخاص والعام، وأنّ التحول اللافت فهو نضوج الأدوات الفنية في ديوانه الثالث التي جعلت حيّز التحاور مع المتلقين أكثر اتساعا، أفقيا وعموديا.

 

  •  

ترمي هذه المقالة إلى تسليط الضوء على خطاب جريس دبيات (1950) الشعري، والتعرف على شاعر لم ينل من الدراسة ما يستحق، رغم أنّه بدأ الكتابة قبل بلوغه سن العشرين، كما يتضح لنا من التواريخ التي يذيّل بها قصائد ديوانه الأول. كان الدافع الرئيسي إلى تناول إبداعه بالدراسة هو الإيمان بأهمية ما قدّمه للشعر الفلسطيني، وضرورة تقديمه كما يليق به للقراء، وتعريفهم على هويته الشعرية، وتمهيد الطريق أمام باحثين آخرين لتناول أشعاره.

تستفيد هذه الدراسة من نظريات التلقي، التي ترى إلى دور القارئ في ملء ثغرات النص وفراغاته، من خلال التأثير والتأثّر المتبادل بين القارئ والنص، بمنأى عن التسليم المطلق بها، فكل نص له مؤلِّف، وله بيئة، وله قارئ/ قراء. وقد علمتنا التجارب أن القراءات المتعددة للنص لا بد أن تتفتّق عنها معان جديدة لم ندركها في اللقاء الأول.

يصرّ الشاعر جريس دبيّات على الالتزام بالشعر الموزون: الشعر العمودي، شعر التفعيلة والشعر المقطوعيّ، وهو يؤمن بموسيقى الشعر وتأثيرها في الأذن العربية، التي اعتادت عليها قرونا طويلة. ويشدّد على أهمية الوزن ودوره لدرجة جعلته ينكر وجود المقوّمات الشعريّة في حال انعدام الوزن، كما صرّح بذلك بشكل علني في أكثر من مناسبة. (انظر: حوارات في الفكر والأدب، ص63-76)

يتابع دبيات الأحداث الاجتماعيّة والسياسية والفكرية فيخوض فيها، داعما المرأة في نضالها اليومي، وهي تتعرّض للظلم من ذوي القربى، ويدلي بدلوه في القضايا السياسية القريبة والبعيدة، داعيا إلى حرية الفكر وانعتاقه من القيود التي تحدّ من الإبداع، ومن بناء مجتمع يعيش الحاضر والمستقبل، غير مكبّل بأفكار لا تجاري العصر.

 

لماذا الشاعر جريس دبيات؟

ولد الشاعر جريس دبيات في قرية كفركنا / قانا الجليل، قضاء الناصرة، أنهى دراسته في موضوع الإسلام واللغة العربية في جامعة حيفا سنة 1970. وهو مطّلع على أصول اللغة ملمّ بقواعدها، واسع المعرفة في نحوها وصرفها وبلاغتها ومعانيها، حافظٌ أشعارَها القديمة والحديثة. عمل مدرّسا للغة العربية في المدارس الثانوية، وتخرجت على يديه أفواج عدة من الطلاب.

يكتب جريس دبيات الشعر، كما ذكرنا أعلاه، منذ سن مبكرة، وقد صرح لي في مقابلة أجريتها معه أنه كتب قصيدته الأولى في السابعة عشرة من عمره، وبالتحديد سنة 1967. لكنّه لم يصدر ديوان شعر إلا سنة 1994 لانشغاله في التدريس وفي بناء عائلة. (أنظر: حوارات في الفكر والأدب، ص63-76) نذكر ذلك ونحن على علم تام بأنّ هذا هو حال العديد من الشعراء والأدباء، الذين كان بإمكانهم أن يعطوا أكثر مما أعطوا لولا ظروف الحياة الصعبة. نسجّل هذه المعلومة ليقوم من يأتي بعدنا من الدارسين للاطلاع عليها ومناقشتها، فهي ظاهرة جديرة بالبحث والتنقيب.

يثيرني كتاب "الشعر كيف نفهمه ونتذوّقه" للباحثة إليزابيث درو، كلما عدت إليه، رغم صدوره قبل أكثر من ستة عقود، خاصة ما جاء فيه من أقوال حول الشعر ودوره، وعلاقته بالشاعر والقارئ. وهي مقولات صادرة عن شعراء وباحثين ومفكرين غير تقليديين. فالشعر، كما نعلم، فكر قبل أن يكون مصبوبا في قوالب وأوزان، وهو ليس صورة طبق الأصل عن الواقع، ولا هو مرآة عاكسة لما تراه العين، بل هو أعمق بكثير، فالمرآة تعكس السطح فقط وليست قادرة على اختراقه والغوص في الداخل.

ترى إليزابيث درو أن أي مناقشة في الشعر يجب أن تأخذ بعين الاعتبار العاملَين الفنيّ والنفسيّ، مضافا إليهما العامل الفسيولوجي، وهي تستحضر جملة وردت على لسان إيميلي ديكنسون تقول فيها: "إذا بدأت أقرأ وشعرت أنّ قمة رأسي قد انتزعت فإنني حينئذ أدرك أنّ ما أقرأه شعر..". (درو، ص104) لفت نظري تكرار حديثها عن العامل الفيسيولوجي وما يصيب المعدة واللسان أثناء عملية القراءة. ما يعنيني في هذا السياق هو ما يثير الكثيرَ من قراء الشعر ومتذوقيه ونقاده المتمرسين، وهم يواجهون هذا "الزخم" وهذا الكم من "الإبداع"، وهذا "الإعجاب" مما لا علاقة له بالشعر. فأي وجع يصيب معدتهمّ وحلوقهم وألسنتهم؟!  

الشاعر جريس دبيات يكتب الشعر الجميل، برأيي، منذ أكثر من خمسة عقود، وفق المقاييس الأدبية المعروفة لا يحيد قيد أنملة عن أصول اللغة وقواعدها، يتقن إيقاع الشعر؛ أوزانه، وتفعيلاته ومركباته كلها، والأهم أنه كتب شعرا وهو دون سن العشرين، يلتزم فيه ب"الأصول" الشعرية ويأتينا بصور جميلة وبمعان قادرة على دغدغة المشاعر دون أن يحرك قلما واحدا. لذلك فإني أقدم هذه الدراسة تعويضا عن غبن لحق بشاعر متمرس لم يحظ بالاهتمام والمتابعة من الباحثين والنقاد، فيما حظي بعض من لا علاقة لهم بالشعر بالمدح والتشجيع.

 

وقفة مع الديوان الأول "مع إطلالة الفجر"

ذكرنا أعلاه أن هذا الديوان قد تأخر صدوره، إذ رأى النور بعد أكثر من عقدين ونصف من ممارسة الشاعر كتابة الشعر. وهو ما جعلنا نتساءل، قبل ولوج عالم الديوان الداخلي، حول دوافع اختيار هذه التسمية. فقد بات العنوان أمرا لافتا في عملية الدرس والتحليل، وحظي باهتمام المنظرين، في العقود الأخيرة، بقدر ما شغل الأدباء أنفسهم، (انظر: عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص) إذ يأخذ حيّزا كبيرا من فكرهم، بعد الانتهاء من عملية التأليف، (ثقافة الأسئلة، ص58) مدركين أهميته ودوره في التواصل مع المتلقي. وقد أولته الدراسات السيميائية اهتماما كبيرا ورأت فيه مفتاح دلالات النص. وقد يكون إشارة إلى أهم ما يشغل فكر المؤلِّف.

يحمل العنوان نظرة تفاؤلية، تحث القارئ على البحث عن مسببات هذه التسمية. فيجدها بوضوح في الإهداء الذي تصدّر الديوان: "أهدي هذه المجموعة الشعرية إلى كل الذين أرادوا لها أن ترى النور"، ما يعني أنه كان متردّدا في اتخاذ هذه الخطوة حتى رضي عما كتب واقتنع به، بفضل الدعم والتشجيع. وكان من الطبيعي أن نعود إلى القصيدة التي استعار الكاتب عنوانها ليحمل اسم الديوان، فوجدنا أنها تعالج الانتفاضة الأولى (كانون الأول، 1987) مذيلة بتاريخ 9.4. 1988. تخيّم على القصيدة روح التحدي، رغم ما يواجه الفلسطيني من جور وظلم وقتل، فكانت خطابا موجّها نحو الذات ونحو الآخر؛ بث روح التفاؤل في ظلّ تخاذل الأنظمة العربية التي توغل في الخيانة منذ زمن بعيد، كما جاء في القصيدة، ومواجهة الآخر المحتل كي يتراجع ويتوقف عن ظلمه، فالفجر آت لا محالة، حاملا نورا وجمالا يعمّ على الكون. (انظر القصيدة: ص54-60) ويبدو أن سعادة الشاعر بصدور الديوان، وجو الحماسة الذي رافق الانتفاضة الأولى، كانا الدافع لاختيار هذا العنوان.

قام دبيات بترتيب قصائد الديوان ترتيبا زمنيا تسلسليا بدءا من الأبعد فالأقرب. أتاح هذا الترتيب للقارئ أن يرى أنّ الشاعر كان قد نشر ما بين 1969-1973 ما مجموعه إحدى عشرة قصيدة، وأنه نشر ما بين 1988-1994 ثلاث عشرة قصيدة، أي بفارق خمس عشرة سنة. فهل توقف الشاعر عن الكتابة؟ أم توقف عن النشر؟ لا أحد يملك الإجابة سوى الشاعر، فقد صرح لي في الحوار أجريته معه أن أمر بناء عائلته، وعمله في حقل التربية والتعليم شغلاه جدا فابتعد مجبرا لا اختيارا. (حوارات، ص65)

تصدرت الديوان قصيدة "شجرة الميلاد" التي كتبها بتاريخ 19.12.1969، وهي تكشف عن شاعر مرهف يحسن الصياغة، رغم أنه كان آنذاك في التاسعة عشرة من عمره. من يقرأ القصيدة قراءة متأنّية فسيقف أمام شاعر يكتب بأدوات شعرية ناضجة من حيث الوزن، والإيقاع واللغة، ويقوم بتوظيف الرموز الدينية ذات الصلة بميلاد السيد المسيح، واستحضار مسيرة تشرد السيدة العذراء المؤلمة، وما تحمّلت من مشقة السفر:

"يا حبيبي

يا دموع الحب والنجوى

وضوعات الطيوب

يا رؤى الأحلام

في ليل العواصف

والرياح الهوج والبرد الرهيب". (مع إطلالة الفجر، ص9)

في القصيدة نفحات من الشعر الرومانسي، ومن روح الشاعر نزار قباني (ضوعات الطيوب) الذي تأثّر، في بداياته، بالشاعر الكبير سعيد عقل، الذي كان آنذاك مدرسة في الشعر يعود إليه كثير من شعراء بلاد الشام، خاصة، ليستفيدوا من تجربته الغنية. ولكننا نميّز فيها، بوضوح، صوت الشاعر جريس دبيات، وأنفاس الشاب العاشق الحالم. هي قصيدة ناضجة وفق مقاييس تلك الفترة، فيها سرد وحوار ومونولوج مما يسبغ عليها صفة الدرامية التي وظّفها بعض شعراء النهضة العربية الحديثة من أمثال خليل مطران ورفاقه، دون الالتزام بتلك "الأصول" القصصية ومركباتها.

تحتاج هذه القصيدة وغيرها إلى وقفة مطولة تتناول تفاصيل تلك المدرسة وذلك الأسلوب، وتبيان نقاط التشابه والاختلاف، ف"لكي نقرأ قصيدة ما علينا أن نعرف موروثها النوعي، أي ما يسميه جيرار جينيت جامع النص architext، وعددا من نماذج ذلك النوع، وثانيا أن نكون ماهرين في فرز عناصر النص الغائبة. ولكي نتمكن من ذلك نحن بحاجة إلى قارئ ماهر قادر على تأويله لأنه نص مرتبط بنصوص أخرى"، كما يرى روبرت شولز. (شولز، ص77).

لقد تأثّر دبيات بعدد من رواد الشعر الرومانسي والنيوكلاسيكي، واستفاد من تجاربهم، حتى بنى لذاته هويته فشقّ طريقه وسار فيها، وظلت أشعاره، مثل كثيرين، تتقاطع مع قصائد غيره ممن سبقه. فهل هذا يعني أنه سبق غيره من الشعراء الفلسطينيين في تلك الفترة؟ وأنه أتانا بما لم يأت به الأوائل؟ لا تدعي دراستنا ذلك بقدر ما تؤكد على أنه مثل غيره يقتفي درب الشعراء الطلائعيين الذين جاؤوا قبله، فكان مطّلعا على قصائدهم وأساليبهم، ومواكبا لأهم المنجزات الشعرية آنذاك.

ما تصبو إليه هذه الدراسة هو تتبع مسيرة الشاعر وتعريف القارئ، على شاعر لم يلق من الاهتمام ما يستحق، خاصة وأن هذه القصيدة، وما تلاها من قصائد المرحلة الأولى، كما أشرنا أعلاه (1969-1973) تشهد على اكتمال أدواته الشعرية، رغم صغر سنه، ولنا على ذلك أمثلة عدة، كما يتجلى في الصورة الشعرية التالية:

"ويسير الليل في جسمي

وعن عيني يثوب

ويظل البرد يصفعني

وتلسعني حكايات الدروب". (مع إطلالة الفجر، ص9-10)

لذلك لا يمكن أن تكون هذه هي قصيدته الأولى التي ألّفها، ولا بدّ أنّ هناك تجارب سابقة أحجم الشاعر عن تضمينها في هذا الديوان، لعدم رضاه عنها، كما نعتقد. وهذا، بحد ذاته، يشير إلى وعي الشاعر وإدراكه مفهوم الشعر في مرحلة مبكرة من تجربته الإبداعية. ولا شك لدينا أنه كان قد كتب قصائد أخرى سابقة حتى اكتملت أدواته الفنية.

يرى القارئ، بعد الاطلاع على مجمل ما جاء في الديوان، تأثُّرَ الشاعر، شكلا ومضمونا، بحركة الشعر النيوكلاسيكي، الذي انتشر في مصر والعراق، في النصف الأول من القرن العشرين، والذي وصل تأثيره، سريعا، إلى بقية أنحاء الوطن العربي. وكان، كما يبدو، يمنح إجازة لمن أراد من الشعراء المبتدئين، آنذاك، أن يدخل عالم الشعر من أوسع أبوابه. لم يقتصر هذا التأثير على الشكل الخارجي، بل إن هناك تأثيرا للموضوعات الاجتماعية الثورية التي دعت إلى تحسين أحوال الأمة الاجتماعية، كما تجلّى في شعر الرصافي، والزهاوي، والجواهري. وقد انعكس ذلك في أكثر من قصيدة، ومن الأمثلة البارزة قصيدة "متسول" (مع إطلالة الفجر، ص27) ومطلعها:

طاف يرجو العطاء من كل باب      شامخ النفس في أذلّ الثياب

تعيد هذه القصيدة إلى الذاكرة قصيدة الأرملة المرضعة لمعروف الرصافي التي مطلعها:

لقيتها ليتني ما كنت ألقاها                    تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها

أثوابها رثّة والرجل حافية                     والدمع تذرفه في الخدّ عيناها

أما ما لفت نظري فعلا فهو قصيدة بعنوان "نظرة فابتسامة... فلقاء" مذيلة بتاريخ 7.6.1970. (مع إطلالة الفجر، ص15-19) التي تحمل إشارة واضحة إلى قصيدة أمير الشعراء، أحمد شوقي، الشهيرة، التي غناها محمد عبد الوهاب، "خدعوها بقولهم حسناء"، وبالتحديد بيت الشعر التالي:

نظرة فابتسامة فسلام                 فكلام فموعد فلقاء

لم يلتزم الشاعر جريس دبيات بمضمونها وبمبناها الخارجيّ، واكتفى بالفكرة التي بثّها البيت أعلاه، فقام بتوزيع القصيدة إلى مقاطع يحمل كل مقطع عنوانا استلّه من كلمات البيت وفق ترتيبها أعلاه؛ بدءا من "نظرة" وانتهاء ب"فلقاء"، فكانت قصيدة قصصية رومانسية جذابة، تتقاطع مع شعر الغزل العربي الحديث، منذ "سامبا" قباني ومغامراته مع النساء. إذ تحكي عن تجربة الشاعر الشاب مع إحدى الجميلات التي دخلت حلقة الرقص، هي الأخرى، فتستفزه وتثيره وتلفت نظره بحركات مقصودة، فكان ما كان حتى تم اللقاء.

كما يلاحظ الباحث تأثير الأسلوب القصصي الذي انتشر بداية عصر النهضة، الذي وظّفه عدد من شعراء تلك الفترة، رغم اتباع القصيدة أسلوب التفعيلة، ما يعني أنّ الشاعر لم يلتزم التزاما مطلقا بالشكل، فجاءت القصيدة تعبر عن روح الشاعر الوثّابة التي تحاكي شعراء المدرسة الرومانسية.

جريس دبيات حافظٌ الشعرَ الكلاسيكيّ، معجب به وبأصوله وأوزانه، وقد عاد إلى أصولها الشعراءُ العرب الطلائعيون، وكتبوا قصائد كان لها دورها الفاعل في حركة إحياء الشعر العربي خلال القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، فانتعش الشعر العربي من جديد بشكله القديم وبمواضيعه الحديثة. أطلق الباحثون على هذا الشعر التقليدي مصطلح الشعر النيوكلاسيكي الذي كان من رواده محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم. كما ظهرت بوادر تجديد آخر لدى شعراء المهجر، من أمثال جبران خليل جبران، إيليا أبو ماضي، ميخائيل نعيمة، نسيب عريضة وغيرهم، الذين كان لهم تأثيرهم على بعض الشعراء في الوطن العربي الذين قاموا هم أيضا، مع شعراء المهجر، بإدخال تعديلات على مبنى بحور الشعر التقليدية وعلى المواضيع المطروحة، وعلى النبرة الشعرية التي ابتعدت عن الخطابية المعهودة.

أما التجديد اللافت فقد ظهر قبيل منتصف القرن العشرين مع ظهور قصيدة التفعيلة، التي كان من روادها بدر شاكر السياب، نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي. فأثاروا حربا شعواء كان النصر فيها للمجددين. سرعان ما اخترقت كل حدود العالم العربي، إلى أن وصلت شرارتها بلادنا هنا، فاستجاب لها شعراء فلسطين آنذاك، كما ينعكس في شعر محمود درويش وسميح القاسم ورفاقهما، وكان من الطبيعي أن يستجيب لها عدد من الشعراء في فترة لاحقة بعد أن ثبتت أصولها ونمت أغصانها، ومنهم الشاعر جريس دبيات، فكتب الشعر العمودي وشعر التفعيلة.

يلاحظ القارئ أنّ سمة الوعظ/الحكمة أكثر بروزا في الأشعار التي انتهجت الشكل العمودي، بينما القصائد التي انتهجت شكل التفعيلة منفتحة على مواضيع أكثر حداثة، كما أنّ النص، بحد ذاته، مفتوح على تأويلات أوسع. وكي لا نظلم الشاعر، فإننا نسارع إلى التأكيد على أنّه قد نجح، أيضا، في الشعر العموديّ، الذي تناول من خلاله مواضيع اجتماعية حديثة، لكنّ هويته الشعرية المجدّدة، برأينا، قد برزت أكثر من خلال شعر التفعيلة. نعي تماما ما تعنيه هذه الاستنتاجات، ونعي جيدا أنها بحاجة إلى أمثلة تثبت صدق ما نقوله، فلربما نفتح يذلك بابا لغيرنا يدحض ما نقوله، وله الحق في ذلك.

نؤكد، بعد الاطلاع على مجمل ما جاء في الديوان الأول، على أن الشاعر ملتزم بالوزن لا يبرحه، يعمد إلى الإيقاع الشعري سواء كان ذلك في الوزن والقافية، أو في التجنيس الحرفي، أو فيما يمكن أن نسميه "إيقاع الصورة"، حيث يكون النبر سريعا أو بطيئا استجابة للصورة الشعرية.  (يتبع)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب