news-details

دور جيل النّكبة في استمرار الرّواية| د. رلى حامد – أونيل

 توطئة

قرّرت البدء بالكتابة عن دراستي للنّكبة، الذاكرة، الصّدمة ودور النساء بالعربية بعد حصولي على درجة الدكتوراه مؤخرًا. ولأنّه لا يمكن فصل الخاص عن العام، خاصةً في حالتنا الفلسطينية، لذلك قرّرت البدء من "الأنا". من دور ستّي آمنة الكبير، وبعدها دور سيدي خليل، في نقل صورة الأحداث وما حصل لهم ولنا خلال نكبتنا المستمرّة حتّى يومنا هذا.

 

ستّي آمنة العوض وسيدي خليل الدخيل

ستّي آمنة وسيدي خليل مثل جميع جدّاتنا وأجدادنا الذين عاشوا الانتداب البريطاني والنكبة الفلسطينيّة "على جلدهم"، وبعدها الاحتلال الإسرائيلي والحكم العسكري. إن لجيل النكبة الدور الأساسي والرئيسي في وجودنا وصمودنا في أرضنا وبلادنا، لقد تحدّوا الصدمة والمعاناة المستمرة من أجل عائلاتهم الصغيرة والكبيرة معًا.

 لم تستسلم ستّي آمنة وسيدي خليل للوضع القائم... لقد قاما بالبحث عن سبل للتّحدي والتّصدي لأنظمة الانتداب والاحتلال الّتي لا تعرف الرّحمة أو الإنسانية أو حرمة أحد. ورغم معرفتهما بعواقب "جريمتهم"، إلا أنهما قرّرا السّير في طريق وعر وغير معبد، وكانا جزءًا من "البلدوزر"، كما وصفه خالد الذكر توفيق زياد. سيدي خليل كان من أعضاء عصبة التّحرر الوطني أيام الانتداب البريطاني، وبعدها من مؤسسي الحزب الشيوعي. وقد كان من بين معتقلي أحداث 1958 (الذكرى العاشرة لاستقلال دولة إسرائيل) بتهمة مشاركته في التنظيم للمظاهرات التي جرَت في الناصرة.

سيدي خليل وستّي آمنة كان لهما دور في منع تهجير أهالي الناصرة، خاصّةً الحي الشرقي، عندما تم تجميع شاحنات من قبل العصابات الصهيونية قرب مسجد السّلام لترحيل وتهجير الأهل الأصليين للبلد. لقد استلقوا بأجسادهم، مع رفاق الحزب، أمام الشاحنات لمنعها من التحرّك والسير نحو الحدود اللبنانية.

رغم أنه كان لسيدي خليل دور مهم جدًّا في الحيّز العام، النشاط السياسي والجماهيري، إلا أنه لم يخبرنا الكثير عن هذه "الأشياء" و "شو اللي صار"، ربّما بسبب انشغالاته والمعاناة الشخصية التي لازمته بسبب طريقه السياسي، خاصة فترة الحكم العسكري ومنعه من العمل، مما أثّر على وضع العائلة الاقتصادي. رغم عدم حديثه إلا أننا كنا نرى في تجاعيد وجهه ويديه صورا عن "اللي صار"، وكنا نسمع الكثير من خلال تنهدات تعبه، بالإضافة الى أحاديث ستّي آمنة المتكررة.

ستّي آمنة، لم تكن فقط الجدّة التي تقصّ "اللي صار"، لم تكن فقط المرأة الحازمة، القاسية، الحنونة والشاطرة، بالنسبة لي أنها "القديسة"-قديسة رواية التّحدي والصمود على الصعيد الفردي والجماعي، هي رمز لشعب، خاصة نسائه، اختار الحياة والبقاء رغم الفقدان والألم. إنّها الإنسانة "الأميّ ة" والأممية التي لم تلتحق بمدرسة، إلّا أنها كانت مدرسة وجامعة بحد ذاتها، فقد استطاعت تعليم وتدريس أجيال. لقد كانت القاصّة التي تشغفك للاستماع لها والتركيز بكلّ التّفاصيل الصغيرة، حيث كانت نبرات صوتها تتغير حسب الموضوع والزمان.

ستّي آمنة، قامت بدور الأب والأم معًا، فقد تمّ اعتقال وسجن سيدي خليل عدة مرات، وهذا ما جعلها تقوم بدوره في الأماكن العامة وفي الحزب. لم تخف الجيش وهراوته، كانت دائمًا بجانب رفيقاتها ورفاقها في خطّ المواجهة، غير عابئة بالعواقب والنتيجة على الصعيد الشخصي. كانت ربة المنزل "المدبرة" التي زرعت الجنينة، طبخت واشتغلت لتطرّز المناديل بالصنارة والخرز، ومن لا شيء تصنع ما يكفي لسدّ رمق العائلة والعيش بكرامة وعزة النفس. لم تقبل أو ترض أيّة إهانة، بل بالعكس كانت تردّها بالمثل (وأحيانًا أكثر). آمنت بالعمل والعلم ولم تفرّق بين أولادها الذكور والإناث. أحبّتهم جميعًا، وآمنت بدور المرأة والفتاة برفع مكانة شعبها وأمتها لآخر يوم في حياتها. نعم لقد كانت ستّي آمنة شجاعة وصاحبة النكتة الناقدة والهادفة.

 

 دور النّساء في تدبير الحياة اليومية

 لقد تمّ الحديث عن دور نساء شعبنا فقط في العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة، فقد تم تغييبهن عن الحيّز العام والرواية الفلسطينية، رغم أنّه كان بالإمكان كتابة الكثير عن كل امرأة من جيل النكبة. ولكن لأنّ مجتمعنا بطبعه ذكوري، فإن الغالبية العظمى من الرّوايات كانت تُقص من قبل الرجال سواء في الخطابات الجماهيرية، السياسية، الإعلام وغيره. ففي أغلب مناسبات ذكرى النكبة، يوم الأرض وغيرها من المناسبات الوطنية تمتلئ المنصّات بالرجال والنادر أو القليل جدًّا، إن لم يكن معدومًا، بالنساء.

في الوقت الذي كان فيه الرجال بالعمل، أو البحث عنه، كانت النساء تدير البيت وتعيله، اذ ان "الزلمة جنّا والمرة بنّا". هذا المثل الشّعبي ما زال متداولًا حتى يومنا هذا، يظهر أهمية المرأة ودورها في بناء الفرد، العائلة والمجتمع عامة. وبحكم هذه المنزلة عملت المرأة في الأرض والأشغال اليدوية، وساهمت باستعادة جزء من مكانتها التي كانت قبل النكبة، إذ أنّها كانت جزءًا لا يتجزّأ من الاقتصاد العائلي خاصة في المجتمع القروي.

لقد نجحت المرأة بتعزيز هويّتها النسوية، وهي لم تعِ معنى النسوية بعد، وذلك من خلال عملها وزرعها الخضراوات وتدبير منزلها، بالإضافة إلى مساعدة الآخرين. وهي التي قامت ببيع مصاغها وأغراضها الشخصية لكي تأخذ دورًا في إعالة العائلة وقت الحاجة. كما وأن عددًا غير قليل من مهجّرات الداخل قمن "بالتسلّل" لأرضهن وبيوتهن لأخذ مؤن، قطع أثاث، ومستندات، بالإضافة إلى جني المحصول من خيرات أرضهن، رغم كل المخاطر التي رافقت هذا العمل.

 

دور النّساء في استمرار الرواية

رغم اكتظاظ منصّات المناسبات السياسية والاجتماعية بالرجال، وسردهم لرواية شعبنا، فإنّ هذه الرّوايات عامة ومتسلسلة، روايات تحكي عن الشجاعة والتصدي. غير أنّها –أي الروايات-تفتقد إلى الخاص والشخصي والتفاصيل اليومية الصغيرة.

نساء النكبة، كـأمّهات وجدات، سردن قصّتهن الشخصية، الرّواية اليومية للتحدي والتصدي، رواية الخوف، الألم، الفقدان (المادي، العائلي وغيره). إلا أنّهن كجميع جيل النكبة، رفضن اعتبار أنفسهن ضحية، إنّما تعاملن مع أنفسهن كناجيات، وهذا ما أعطاهن قوة لفهم وضعهن وما حصل لهن ولشعبنا الفلسطيني. وقامت النساء بقصّ أحداث الماضي على الأولاد، ومن بعدهم الأحفاد، من أجل التأثير على المستقبل واستمرار الرواية.

 لقد ساهمن من خلال قصّتهن الشخصية والفردية في بناء هوية ورواية وذاكرة جماعية تتداولها الأجيال. فمن خلال تحضيرهن الطعام، الطبخ، التطريز، الغناء والتهليل، تربية أولادهن، تحضير وصفات العلاج التقليدية، والأعمال المختلفة... ساهمن بتعليم واستمرار هذه التقاليد والذاكرة للأجيال القادمة. هل هو الخوف من الضياع؟ أو رسالة وواجب ملقى عليهن؟ أم هي طريقتهن للعيش ومكافحة الألم، الفقدان والمعاناة؟ مهما كان الدافع الشخصي لأية أمراة من جيل النكبة فإنهن رغم هذا كنّ الدعم والسند لجميع أفراد العائلة، فالمرأة وضعت جنبًا ألمها وفقدانها وخوفها لتهتم بأفراد العائلة الآخرين وتكون مصدر الأمان والقوّة لهم.

في النهاية، سوف أعود لبداية هذا المقال، للشخصي.. ستّي آمنة وسيدي خليل الذين بفضلهم بقينا في ناصرتنا وحيّنا الشرقي، ستّي آمنة حولت الرواية لمنديل من صنع يديها أو ممكن صابونة زيت، أو حتى أكلة مجدرة أصلية. كما أنّها استطاعت تحويل الذاكرة لمشاركة في مظاهرة واشتباك مع الشرطة في ساحة العين.

ستّي آمنة وسيدي خليل، كجميع جداتنا وأجدادنا، لم يمنحوا بن جوريون نشوة الفرح بتحقيق نبوءته عندما كتب لابنه "الكبار سوف يموتون والصغار سوف ينسون". رحل سيدي خليل عن عالمنا عام 1991 ورحلت ستّي آمنة عام 2016، إلا أنّهما ما زالا بيننا، حكايتهما "عشعشت فينا" وصقلت هويتنا وذاكرتنا وشخصيتنا الوطنية والسياسية، كما صقلت شخصية ستّي أمنة هويتي النسوية.

(جامعة كورك – إيرلندا)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب