news-details

ديمة بكري والميتسو سوبرانو: حكاية انحياز لانزياحات صوت..

كُثر ممّن تلتقيهم يثيرون حفيظة قلبك، أو ذاكرتك أو جسدك. كثر آخرون يثيرون حفيظة لسانك، وحين تطلقه لأجل أن تعزّز اعتقادك فيهم إمّا أن يخذلوك أو يفتنوك. يعجبني هذين الضدّين، الخذلان مقابل الفتنة لأنّهما الأوضح في مرآة ألـcontrast  ذائع الصّيت، الأبيض مقابل الأسود. أغترف للمرّة الأولى من هذه الحقيقة حفنات سعادة لانتمائي الرّسميّ لمدرستيهما. قليلا ما أجد نفسي في منطقة الرّمادي، سيّء السّمعة. اللّون المُحيِّر الضّائع المتملّق أحيانا والمخادع غالبا، حين يقفز ظلّا شفّافا لا يراه أحدا ممّن يراسلونه أو يجاورونه. أمّا الأسود، سيّد الحضور فعلاوة على قوّته ووضوحه فهو قاطع في قراره، وإصرارهِ مقابل الأبيض الصّريح هو الآخر. أن يعترف الأبيض بأفضال الأسود عليه مأثرة وحظوة في فرض شخصيّة خالية من التردّدات. وقد يكون أصحاب هذه المدرسة أكثر النّاس تعرّفا لأنفسهم واتّفاقا معها، وأكثرهم أيضا إثارة للرّهبة والإبتعاد من الشّخوص الرّخوة، الحلزونيّة والصّدفيّة عموما.

ليست شطحات نهار لا تتّفق فيه مسوّغات العالم بقدر ما يشكّل كلّ ما أسلفت مدخلا واضحا لحدث أثار حفيظة ذائقتي وقلمي وقلبي وأدخلني إلى نوافذ الرّوح من مواقع شيّقة، أختصرها باسمها كعنوان مُشدَّد يدخل إلى عالم الأوبرا العالميّة من أبوابهِ العريضة، الصّوت المُلهِم (ديمة بكري). لم تكن مشاركتي الوحيدة أوبراليّا في الكونسيرت الأخير الّذي ظهرت فيه ديمة بكري، لكنّها المشاركة الأعمق أثرا في عالم الثّراء الرّوحي في كنيسة مار الياس|حيفا. تذكّرت ديمة قبل سنوات في سعيها المتخبّط حينذاك للعثور على كليّة لتعلّم الأوبرا. خفت عليها من المحاولة والمغامرة. كانت أصغر عمرا من خوض هذه التّجربة الباذخة، ورغم ذلك لم تتراجع لحظة واحدة. ويبدو أنّها أرادت ذات يوم كما فعلت في الأمسية، أن تصدم دهشتي بإنجازها حين ظهرت بأدائها الّذي لوى القلب ومعه العنق إلى الخلف. لا أجمل من السّحر نضيفهُ إلى قاموس متعتنا حين يلخمنا حضوره حولنا أو فينا.

كنتُ سمعت أنّها سافرت وبدأت دراستها بمنحة من الكونسرفاتوار الّذي انتسبت إليه في فينيتسيا|إيطاليا،  Conservatorio di Musica Benedetto Marcello di Venezia. مجرّد سمعتُ ثمّ شهدتُ حضورها بعد سنوات كمغنّية أوبرا مركزيّة في طاقم موسيقي كامل يقوده هدوءها العذب، تأمّلها البعيد لروحها وأسلوبها في إطلاق شرائط المتعة لمن حولها. متعة أن يُغنّى في أذنك وتسعى روحك خلف مفاهيم الجمال المتضاربة. 

خليّة نحل كاملة بدت وهي تحاور نوتة سريّة في مخيّلتها وتدوزن لحنها. أسجّل لأُذكّر أنّ الغناء ليس سرّ هذه الهامة الأوبراليّة الشّابّة، بل انزياحات الصّوت وانحيازه لمساحته العريضة في التّجريب الحيّ. كثًر يُغنّون في فرق موسيقيّة كلاسيكيّة، وقلّة منهم عرب، وقليل من القلّة يذهب كي يزيح السّتار عن قدراته ويكتشف مساحة تأثيرهِ على خارطة العالم، ذلك لأنّ الغِناء قضيّة كينونة نصقلها وفق خياراتنا من نسبة الإشباع الجمالي لحجم وعمق ونوعيّة ومذاق الصّوت. ووفق اعتباري الشّخصيّ تشكيلة جماليّة لجبروت الفنّ في تغيير شكل الحياة، كلّ الحياة. لا فصل ولا تفصيل للمعطى، فالجمال اعتبار جماليّ نتذّوقة غالبا وفق حيّز التّواصل الداّخلي لعوالم أرواحنا الغنيّة أو الفارغة. وسوف أَضيف أنّ القلّة الّتي تذهب كي تقشّر موهبتها وتُعرّيها من الفكر المسبق الّذي نتبنّاهُ نحن العرب بامتياز، تذهب أيضا كي تقشّر الشّخوص الّتي تعيشُ في شخصها الواحد. هؤلاء الّذين يقفون على هذه المسارح العالية النّابضة بهيمنة المشاعر يتوالدون من أنفسهم أوّلا، ومن مصادر ثقافتهم الغنيّة بندرة اكتشافات العمق النّادر، وأمثال ديمة بعد كلّ أداء من هذا النّوع ينهض من رؤوسهم المسترسلة للنّشوة شخصيّات جديدة أبعد طموحا من سابقاتها. هنا، لا أداء يعيدُ مجدهُ، فمجدُ الصّوتُ هو سيّد الحالة. يستمدّ مجده من انزياحاتهِ وتحيّزهِ لمنجم الطّاقة الحافل بكينونة صاحبه المضيئة بمعرفة العالم، وأعني الضّوء الإلهي لعالم لا نعرفه جميعا. وكلّما اختبر زاوية من أدائه طمع في اكتشاف الأصعب وكشف الأغلى. هذا تماما درب التجلّي الّذي اختارتهُ ناشرة اللّحن في حنايا أرواحنا، ديمة بكري. لم تكتف بما وزّعتهُ النّوتة، بل بما ارتجلت توزيعه من مساحات صوتها المرهِب في اختيارها لطاقتها الخاصّة وزوايا انتشارها، تعرف أين تريد أن تغرق في ذاتها، وأين تخرخ إلى عيون روحها ثمّ عيون الحضور. تختار ما يرفعها لمسافات النّور في النّوتة لتنشرح مفاصل اللّحن وفق ما تجيد النّوتة عزفة في رموز. خروجها غير المألوف عن اللّحن لا تملك أن تسيطر عليه لأنّ دافع التّحليق أقوى من طاقتها على الكبت، وحين تفعل تلفُّ أعناق الحضور بقوّة لحضورها ومعها رغبة البحث في تشكلية أدائها. 

لم أسأل إلى أين تريد هذه الصبيّة أن تصل بإلغائها لثوابت اللّحن ورقصها الماتع على سلالمهِ المنسيّة لأنّ السّؤال باكر جدّا، ولأنّي انتظرت أن توقظ تحلّقات نبراتها حول الدّرجات المكسورة علّوّاً ونزولاً في النّوتة. السّلالم الّتي لم يستدرجها أحد كي تعرض إلى إمكاناتها العالية.

هذه المغنيّة، تمثّل حالة جماعيّة لقلّة ممّن يؤمنون بطاقات أرواحهم الحرّة، إذ لا يمكن للّحن أن يحلّق أعلى من الغيم إلّا إذا توفّر على مسافات عالمهِ الفضفاض. لقد تعلّمت ديمة كيف تتسلّق الطّموح، وبريق عيونها يتخاطف تحدّيه الجسور لشمس سيأتي بها دافئة ناعمة قويّة وكاسرة أيضا، بلا تبعيّة وبلا علاقات زنخة تلمّع حضورها. وقودها منجم البلّور الّذي لحضورها أينما وقفت كي تنتشر. طموحها العالي ورغبتها في الاختلاف زادُ المرحلة. على طرف عينها لمحتُ كم لا تسعُها المساحة، وكم تفهم أنّ صوتها أبعد من النّوتة وهندسة اللّحن. ولا بدّ لخامات صوتها القصب أن تستوقف كلّ منصّة تقف فوقها، تجاوزا أو تساوُقا. تذكّروا هذا الإسم جيّدا في عمق الذّاكرة,,

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب