news-details

رافضو التطعيم يتصرفون كـ"طفيليين" ويضرّون بنا جميعًا| عوفر كسيف

في مقالته "حول مسألة اليهود" (1844)، يشير كارل ماركس إلى حدود وقيود إعلانات حقوق الإنسان والدساتير الليبرالية المعتمدة في فرنسا والولايات المتحدة خلال سبعينيات القرن الثامن عشر. يجادل ماركس بأن حقوق الإنسان المنصوص عليها فيها ليست سوى "حقوق الإنسان الأناني، المنفصل عن الآخرين من البشر وعن المجتمع"، فهي لا تستند "إلى علاقة الإنسان بالآخرين، بل على العكس من ذلك، تستند على انفصال الإنسان عن أخيه الإنسان".

يقول ماركس إن حقوق الإنسان التي يتم التعبير عنها في الإعلانات الليبرالية هي تقدم كبير في ما يتعلق بالماضي، ويجب مباركتها، ولكن بدلاً من رؤية الآخرين كشركاء، فإنها تقدس الانفصال والتنافس بين البشر. يستنتج ماركس أن دور الدولة البرجوازية هو ضمان والحفاظ على نفس هذا الانفصال والتنافسية والأنانية.

واحدة من المشاكل النموذجية للمجتمع الرأسمالي، والتي تقوم على الأنانية والانفصال، والتي يتم التعبير عنها في بعض الأحيان وتكريسها في مثل هذه الحقوق الليبرالية المذكورة، يشار إليها في الأدبيات باسم "مشكلة الطفيليين"، والقصد الإشارة إلى حالة يتمتع فيها الشخص بفوائد أي جهد اجتماعي مشترك دون المساهمة بحصّته هو، ومن الأمثلة المعروفة هو الشخص الثري الذي يتهرب من دفع الضرائب ولكنه يتمتع بالخدمات الاجتماعية والعامة التي تموّلها مدفوعات الضرائب.
 

هناك ثلاث صعوبات على الأقل تتعلق بمشكلة "الطفيلي". أولاً، أن أنانية سلوك "الطفيلي"، تتحدى مبدأ ماركس في نقده لـ "نقد خطة جوتا": "من كل فرد حسب قدرته، ولكل فرد حسب حاجته"! بعبارة أخرى، "التطفل" يتعارض مع التوزيع العادل لموارد المجتمع، أي أنه يقوض عدالة التوزيع.

ثانيًا، يضر "التطفل" بالشراكة الاجتماعية ويضحي بالصالح العام على مذبح المصلحة الضيقة للفرد. وتجدر الإشارة إلى أن هذا ليس تضحية بالصالح العام على مذبح حق الفرد، بل على مذبح مصلحته الأنانية.
وعلى ماذا يعتمد اصلاً نقد ماركس المذكور أعلاه لمذهب الحقوق الليبرالية؟ حول المفهوم الليبرالي الذي يماهي بين "الحق" و"المصلحة" و "المصلحة" مع "الإرادة"، وهي تماهيات ليست مفهومة ضمنًا (يجادل ستيفن لوكس، المفكر المعاصر، بأن الحقوق الليبرالية في نظر الماركسية تتعارض في الواقع مع المصلحة الحقيقية للجمهور بشكل عام والطبقات المستغلة بشكل خاص).

وهكذا، ثالثًا، وفي تناقض صارخ مع المذهب الاقتصادي لآدم سميث، أب التفكير الرأسمالي، فإن السوق الحر لا يخلق انسجامًا بين مصلحة الفرد (التي تعني عند سميث حرية وحقوق الفرد الليبرالية) وبين المصلحة الجماعية، بل العكس: السوق الحر هو من يخلق بالفعل تصادمًا بينهما إلى حد صراع صفري حيث يعني فوز أحدهما هزيمة الآخر بالضرورة، والعكس صحيح.

رافضو التطعيم ضد كورونا يتصرفون مثل "طفيليين" بشكل واضح: فهم يستمتعون بفوائد اللقاح العامة لكنهم يرفضون دفع ثمنه - بالجهد والوقت وبالأخص بأخذ أقل قدر من المخاطر في مواجهة خطر العدوى. أولئك الرافضون - بوعي أو بغير قصد، بغطرسة أو بحسن نية - يتمتعون بتطعيم الآخرين الذي يقلل بشكل كبير من معدلات الإصابة بالكورونا والوفيات في المجتمع ككل (من الملقحين وغير الملقحين على حد سواء)، دون تحريك إصبع منهم هم للمساهمة في ذلك.

علاوة على ذلك، في رفض التطعيم، يعبر بعض المتحدثين باسم "الطفيليين" عن مفهوم انتقده ماركس، كما رأينا، باعتباره مفهومًا برجوازيًا أنانيًا، مفهوم يقدس "حقوق الإنسان الأنانية، الانسان المنفصل عن الانسان الآخر والمنفصل عن المجتمع". إذ أنه في نهاية المطاف، ماذا يقدس هؤلاء إن لم تكن الإرادة التعسفية للفرد أمام أفراد مجتمعه وصحتهم ورفاههم؟ باسم الحرية الفردية المجردة، يسعى الطفيلي إلى الحق في التضحية بالآخرين ورفاهية المجتمع ككل، وبالتالي يؤدي إلى تفاقم التوتر القائم بالفعل في المجتمع الرأسمالي بين المصلحة الضيقة للفرد والصالح العام.

السؤال الذي يطرح نفسه، كيف ينبغي معالجة مشكلة "الطفيليين"؟ هناك بالفعل معضلة صعبة هنا. من ناحية،اعطاء الشرعية العامة لرفض التطعيم تتناقض بشكل صارخ مع الصالح العام وتقوض التضامن الاجتماعي. ومن ناحية أخرى، فإن فرض العقوبات على من يرفض التطعيم، هو انتهاك الحقوق الليبرالية للفرد، ويمنح الدولة قوة قمعية أكثر خطورة، وقد يصبح سيفًا ذي حدين نتضرر منه جميعًا.

في مقالته "مأساة المشاعات"، يتعامل غاريت هاردين مع مثل هذه المفارقات ويجادل بأنه ليس لديهم "حلول تقنية"، أي في مجتمع قائم (على هيكله الاقتصادي ونظامه السياسي ونظام قيمه الخاص) التوتر بين الصالح العام والحقوق الفردية لا يمكن حلها بشكل نهائي

أما من وجهة نظري - فان أي حل يقدم في ظل النظام الرأسمالي الحالي سيكون معطوبًا، سيكون نسبيًا وليس مطلقًا وجزئيًا وليس مثاليًا. بدلاً من السعي وراء المنع الكامل لانتهاك حقوق الفرد أو الصالح العام، يجب على المرء أن يسعى لتحقيق التوازن الصحيح -ليس فقط بين حقوق الفرد والصالح العام ولكن أيضًا بين حقوق فردية معينة (حرية التنقل، على سبيل المثال) وحقوق فردية أخرى (الحق في الصحة، والذي يتضمن بالطبع الحق في عدم التعرض لناقلي العدوى وخطر الإصابة). خلاصة القول، الهدف هو الوصول إلى ضرر متناسب وبالحد الأدنى.

إن فرض اللقاحات يتعارض مع ملكية الإنسان للجسم ولحقه المنصوص عليه في القانون الدولي والاتفاقيات المختلفة وحتى في القانون الأساسي: كرامة الإنسان وحريته. لكن من المعروف أن هذا المبدأ ليس مطلقًا. في العديد من البلدان المتقدمة، يُحظر، على سبيل المثال، القتل الرحيم، أو  بيع شخص ما أعضائه أو بيع نفسه للعبودية.

هل هذا انتهاك لهذا المبدأ؟ لا أنوي تقديم "حل تقني" هنا، لأنه لا يوجد شيء من هذا القبيل، ولكن فقط للإشارة إلى الطبيعة الإشكالية لقضية القيود المفروضة على رافضي التطعيم. من الواضح أن كل حالة تحتاج إلى فحصها على أساس مزاياها. وينطبق الشيء نفسه على فرض قيود (حركة التنقل، على سبيل المثال) على رافضي التطيعم الطفيليين، ولتحليل القضية سأتناولها للمقارنة مع مسألة دفع الضرائب المذكورة سابقًا.

حتى بين الليبرتاريين الذين يعبدون ما يسمى بحق الملكية "الطبيعي"، هناك إجماع واسع على أن درجة معينة من الضرائب ضرورية لوجود المجتمع. مثلما يجب قياس تحصيل الضرائب بشكل أساسي من خلال حيويته لرفاهية المجتمع وخاصة للضعفاء فيه، بغض النظر عن المس بحق الملكية للأفراد، لذلك سيكون من الصحيح قياس موضوع القيود على رافضي التطعيم وفقًا لـمساهمتها في الصحة العامة وخاصة بالنسبة للسكان المعرضين للخطر، والاهتمام بدرجة أقل في تجنب المس في إرادة "الطفيلي" أو اختياراته.

وهذا في رأيي يجب أن يكون معيار صياغة السياسة تجاه من يرفضون التطعيم. معيار يحافظ على التوازن المناسب بين الصالح العام وحقوق الفرد، بل إنه يساهم في تقوية التماسك الاجتماعي والمدني الضروري لمجتمع ديمقراطي متقدم.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب