news-details

رهَاب  العين والحسد – تغليب الخرافات على العقل

رهَاب العين والحسد في المجتمع: ان ارتباط العين في الذاكرة الشعبية بفكرة الحسد من أكثر المعتقدات الشعبية شهرة وشيوعا وخاصة في المجتمعات العربية.  ومن المعروف أن الاعتقاد بالعين الحاسدة يرجع إلى عصور قديمة، وكان في حينه كونيًا، وما زال كثيرون يؤمنون بذلك.

وردت في السجلات التاريخية المصرية والكلدانية واليونانية والفارسية إشارات تفيد بأن هذه الشعوب اعتقدت بوجود عين شريرة؛ وحاربت أذاها بشتى الوسائل والطرق.

والمقلق ان التشاؤم والخوف من العين الحاسدة في عالمنا العربي قد يصل في عصرنا إلى حد "البارانويا"، وهو ما يُثبت أن الكثير من شعبنا تتغلب عليه قرون من المعتقدات الشعبية الخرافية والغيبية، المتراكمة داخل وعيه الجمعي وتتحكم بارادته ونفسيته، لتؤكد تغلب الموروث الشعبي على العقلاني وإعمال المنطق.

ان الايمان بقدرة العين الحاسدة هي من اكثر المعتقدات الخرافية تأثيرا في العقول والنفس الانسانية. والمحزن نجدها متفشية بين شرائح المجتمع، الجاهل والامي وحتى عند الذين بلغوا مرتبة عالية من العلم وارفع الشهادات الاكاديمية. لسنا أصفياء النية جدًا، وربما نحمل عللا نفسية بشكلٍ أو بآخر تغذيها وتروج لها قوى رجعية، كإحدى الوسائل لتخليد جهلنا،لان فيه استمرارية، دوام سيطرتها علينا. وهذا رغم رحلة الانسان الشاقة والطويلة لاستكشاف "العلل "والحقائق الكامنة وراء الأحداث. فالغريب أن الإنسان المعاصر الذي قطع أشواطا بعيدة من هذه الرحلة نحو حضارة وتفكير يرتكزان على منطق "السببية" الذي يفسر الظواهر الطبيعية والبشرية منطلقا من أرضية البحث التجريبي، لا يزال يحمل فوق كاهله طبقات متراكمة من آثار التفكير الخرافي من الحقب السابقة. ونجد فئات منه تقف في مفترق طريقين للتفكير، احداها تجذبه إلى إعمال العقل، والأخرى تغريه بالنكوص إلى مراحل الطفولة الإنسانية بما إرتبط بها من تفسير عشوائي للظواهر. ( إنه الحائر المتخبط بين العلم والخرافة).

وهذه المقالة محاولة لاستبطان حيرة الإنسان المعاصر وهو يقف في هذا المفترق الحرج بين طريقين متناقضين من التفكير. كما تلقي الضوء على تورط بعض العقول في تبني الكثير من الأفكار الخرافية لتفسير بعض الظواهر المعقدة ولكشف مساهمة وسائل الإعلام في ترويجها. اننا مطالبون بأن نؤكد أن العجز المرحلي للعلم عن تفسير بعض ظواهر الكون لا يعني أن نندفع إلى الخرافة قفزا على قواعد التفكير السليم التي أثبتت قدرته على تحقيق إنجازات هائلة انتقلت بالبشرية نقلة نوعية حاسمة، وبدلا من ذلك فإن علينا مواصلة البحث العلمي وتشجيعه لنستكمل رحلة الإنسان إلى عالم المستقبل وليس إلى غياهب الماضي.

يعود الإيمان بالعين الحاسدة الى عصور قديمة. فالاعتقاد بالحسد متأصل في منطقتنا العربية، جذوره ضاربة في القدم، ففي مصر الفرعونية اشتهرت عين حورس (اله الخير والعدل) بأنها تدرأ الحسد، وفي سومر كانوا يعلقون التمائم على أبواب البيوت للغرض ذاته ويذرون الملح لاعتقادهم بقدرته السحرية للإنتصار على ضربة العين. 

وما زال مثلنا الشعبي يردد هذا المعتقد "الملح الفاسد في عين الحاسد"، كما ونردد ايضا،عبارة "عين الحسود فيها عود" ظنا ان في ذلك وقايتنا من العين القاتلة-"العين الي بتفلق الصخر" وخاصة العيون الزرقاء المتوارثة فكرتها من الآشوريين. وقد توارث العالم من بابل ومصر الفرعونية تعويذة "خمسة بعينيك" كوسيلة لتفادي قوة حسد العين الفتاكة. وما زالت فئات كثيرة في مجتمعنا تؤكد ذلك بقولها:ِ تلْت إلْلي في القبر من العين.. وعينه بترمي الطير الطاير، وترديدنا "معاونة ما بتعينونا وبالعين بتصيبونا". ان تعويذة "خمسة في عينك" (خمسة وخميسة) يرجع استخدامها المبكر إلى بلاد ما بين النهرين القديمة. حيث عُثر في الحفريات الأثرية على تمائم للالهة إنانا (الهة الحب والحرب في سومر) بشكل يد يمنى مفتوحة والتي آمنوا انها التجسيد لقوة هذا الاله للوقاية من العين الحاسدة. وتناقلت هذا الموروث الديانة الفنيقية بتميمة يد الهة القمر "تانيت". ويؤكد العثور على أكثر من 2000 لوح منقوش عليه نصوص تمائم تتضرع "لتانيت" للحماية من العين الحاسدة والشريرة سعة انتشارها. ويفسر الباحث "برونو بارباتي" ذلك، بأن الدافع للمبالغة في التوجه اليها لدى الفنيقيين قد نبع من اعتقادهم الراسخ بأنها تملك قوة سحرية لابعاد تأثير قوى الشر وسؤ الحظ الكامنة في العين(apotropaic )  كما انهم امنوا بأنها القوة القادرة على قهر ظاهرة العقم. وانتقل هذا المعتقد الى الديانة اليونانية متمثلا بيد الالهة افروديت (الهة الحب والخصب، وفي روما بيد فينوس الهة الامومة). وتأثرت بهذا الموروث مجتمعات اعتنقت التوحيد. 

ففي اليهودية نجد من يعتبر الكف الواقي من شرور ومصائب العين الحاسدة، رمزا لكف مريم اخت النبي موسى، بينما المسيحية الشرقية، نسبته الى يد مريم العذراء، وفي الاسلام نسب بشكل خاص لدى فئات من الشيعة، لكف فاطمة الزهراء. والمثير للإنتباه بأن القاسم المشترك لرمزية الكف في صفوف كل المجموعات الدينية التي ذكرتها هو قيامها بحماية الاطفال والنساء من مآسي صيبة العين الحاسدة. وما زال البعض في عصرنا يقوم بممارسات غريبة عجيبة لوقاية ابنائه من "ضربة العين" مثل تكنية اطفاله بأسماء قبيحة، عندما ينادي احدهم ابنه "زبالة" امام الناس، لكي لا تناله عيون الحاسدين، وهناك من يلبِس ولده الصغير ملابس البنات ويطيل شعره، خصوصا عندما يكون الولد جميلا، أو يهمل نظافته حتى ليظن من يراه بأنه متشرد.

أضف لذلك، أن "للعين" أهمية خاصة في المعتقد الشعبي والثقافة الشعبية عموما وليس في الحسد فقط.. فبعض الناس يؤمنون بأن صفات الشخص تتجلى في نظرات عينيه: "خبيث، ماكر، طيب، هادئ"، وبعض الناس تجدها تقول: "إن فلان نظراته مخيفة أو نارية أو نظرة عينه بتقول إنه بيكذب"، وأيضا اقترنت العين بالجمال أو القبح.."،اذا هناك ايمان مترسخ بأن العين هي نافذة الروح وأنك مهما أخفيت في داخلك فإن عينك تكشفك.

يقدم علم النفس التفسير لمعتقد قوة العين السحرية بربطه بعوامل التأثير النفسي والتفكير المقولب. وهذا تفسيرهم للتفاوت بين الافراد في ايمانهم بصيبة العين اكثر من غيرها. وتؤكد ابحاث علم النفس في هذا المضمار بأن السبب في "تأثّر أشخاص أكثر من غيرهم في موضوع الحسد، إلى ضعف في الشخصيّة والإرادة، وضعف تقدير للذّات، والنرجسية وايضا لتأثيرات البيئة التى تجتمعوا فيها". كما اثبتت دراسات في علم النفس التربوي والعيادي، أنّه من غير السليم أن يعيش الإنسان حالة الخوف من الحسد بشكل دائم، لأنها قد تتحوّل إلى حالة من الوسواس القهري، بحيث يشعر هذا بأنّ أيّ إنسان، أو أي سلوك، أو تصرف، أو فعل من الآخرين، سيفسّره على أنه حسد منهم، فيرفض التواصل الاجتماعي، لعدم الثقة بأحد.ويصنف علماء النفس الحسد الى ىنوعين، الأول إيجابي وفيه يسعى المرء إلى أن يجتهد ويحاكي الشخص الذي يحسده من أجل الوصول إلى ما وصل إليها المحسود، والثاني النوع السلبي، يرغب ويخطط فيه الحاسد لتراكم المصائب على المحسود.

ولهذا ليس غريبا بأن تكون العين في منظورهم وتصورهم، هي مركز الحسد والشرارة التي تنطلق منها موجات الشر نحو المحسود. ولقد اكد التحليل لشخصية الحاسد بأن الحسد لا يؤثر سلبا على المحسود، انما على الحاسد لتورطه في الحقد والضغينة.فنجده ظاهريا يتصرف بسادية،الا ان تصرفه هذا هو إنعكاس لمعاناته.

اللاواعية بفعل جروح نفسية لطفولة مهمشة.وإذا سلمنا جدلا بأن للعين الحاسدة القدرة على إلحاق الضرر بشخصٍ ما، فهي لا تؤذي إلّا صاحبها، لانها تورطه في غياهب حسد وحقد دفين والتي هي في واقعها ليست الا تمويه وانكار وإزاحة لانانيته وعقده النفسية. وعليه فالحسد السلبي هو مواقد الشر والأذى للحاسد لانه يموت نفسيا كل يوم، لان حقده يهشمه،فيترك تأثيرا سلبيا على صحته النفسية بفعل تعامله المنحرف مع الآخرين مما يدفعهم للإبتعاد عنه.

والمذهل استمرار ترسخ المعتقد بأن العين مصدر قوة شر وستبقى كذلك. ان الربط بين العين والحسد يعود لعصور غابرة كان عقل ووعي الانسان عاجزا عن التفسير المنطقي لما يصيبه من شرور وكوسيلة دفاعية يقوم بربطها بالعين.رغم التقدم العلمي في كافة المجالات والتي من اثباتاتها القاطعة،ان العين بريئة من الحسد ما زال يؤمن الكثير منا بكل جوارحه بان العين الحاسدة هي مصدر الكثير من الشرور التي تُصيبنا.

هذه الممارسات وغيرها لم لتكن غريبة، ولها ما يبررها في مجتمعاتنا قبل قرن، وخاصة بما يتعلق بالاطفال كونهم كانوا يموتون بكثرة، لعدم توفر الخدمات الطبية والدواء، والوقاية الصحية، فدفعهم هذا الواقع المأساوي للاعتقاد الراسخ بأن مرض الطفل وموته سببه العين الحاسدة. والمؤسف اننا ما زلنا في عصرنا نسمع الكثير من الامهات ترددن بغضب وحسرة، وهن يحملن الأطفال المرضى الى الطبيب "مسكين لقد حسدوه.... بالأمس لم يكن به شيئا".

ان الايمان بطرقة عين، في عصرنا، مثل التفسير لافلاس فلان، او موت طفل الخ، هو هراء وأسطرة، لانه لو صحّ اعتقادهم هذا، لتسابقت الدول والأفراد لتوظيف اصحاب العيون الحاسدة برواتب مرتفعة، للإستفادة منها في ضرب اقتصاد الدول المعادية، او للتخلص من اشخاص او دول تضايقنا. واذا سلمنا جدلا بمعتقدهم هذا فمن الافضل لنا مصادقة العميان لفقدانهم هذه الطاقة، ومن حقنا الشرعي مساءلتهم هل "الاعمى في تصورهم مستثنى من هذا المعتقد"؟

لقد اثبتت التجارب والابحاث العلمية أن كل الفرضيات التي توارثناها هي مفترض للقيام بتفسير ظاهرة تناسبت مع امكانيات المعرفة والتفسير المتوفرة في عصرها، اي انها ليست سوى توضيح مفترض لظاهرة معينة، وليست نظرية، لان النظرية هي أساسيات ظاهرة معينة،مع وجود حقائق علمية داعمة لها.

فالإيمان بقوة وتأثير السحر هي ظاهرة نجدها بدرجات متفاوتة في جميع الثقافات. كانت ولا تزال تؤثر على البشر.. إنها وسيلة تعود جذورها كما تقدم الى فجر الانسانية حيث واجه الانسان جبروت الطبيعة ولَم يكن يملك المعرفة لفهم وعلاج مسبباتها، فقام معتقد "ضربة عين"في حينه،بوظيفة للتأقلم والتوازن،لمواجهة مصائبه وامراضه وازماته. وبرأي فيلسوف العلوم كارل بوبر أنه قد اصبحنا في عصرنا قادرين على وضع الحدود الواضحة بين العلم والخرافة التي من المستحيل اثباتها بلغة العقل. اي النظريات المعترف بها هي التي اثبتت التجارب والابحاث العلمية صحتها. وسيوفر ذلك لنا امكانيات التمييز بين العلم والخرافة.الا اننا رغم الثورة العلمية والتقنية في كافة المجالات، لم يتمكن كثيرون الصمود امام الازمات والمحن التي يتعرضون لها،فيصورون لأنفسهم ان الاسباب لذلك بفعل صيبة عين، فيلجؤون الى دجال ليخلصهم منها.

يمكن للمرء أن يميز الخطوط المشتركة وفي بعض الأحيان الروابط الأيديولوجية بين الثقافات، بتحميل العين من القوة والتأثير بما يتنافى بشكل قاطع مع فيزيولوجيتها ووظائفها. برأيي ان كل من يترك العنان لنفسه بالتوجه الى دجال ليشفيه، فهذا الدليل الجازم انه جسديا ابن هذا القرن،الا انه بعقلية الانسان في فجر تاريخه. واعلل موقفي هذا لفقدانه القدرة

لتحليل المسببات الحقيقية للامراض والكوارث وخاصة عندمايتواتر حدوثها ويتعسر قهرها.. تصوروا اية عقول مضللة وسخيفة تلك التي تتوجه الى دجال ليعالجه من صيبة العين بتمائم الخمسة، طلاسم وبخور وغيرها من الطقوس السحرية. يا لغضاضة هذا التفكير لان كل ما لا يمكن اثباته بشكل امبيري فهو مرفوض جملة وتفصيلا.

ان كل من يؤمن بصيبة العين ينفي حقيقة بيولوجية وفيزيولوجية من ناحية، ويقوم بعملية استمرار توارث الجهل والخرافة والسحر من ناحية اخرى. المحزن والمأساوي بأن صيبة العين هيمنت على عقول القدماء وما زالت تسيطر على عقول من المعاصرين لدى كثيرين من شعوب المعمورة مع تناسب طردي مع مستوى تخلفها. ولكن لا يجوز لنا ان نلوم القدماء للجؤ لمعتقد صيبة العين لان حدود تفسيراتهم العلمية للظواهر كانت شبه معدومة، ولكن المؤلم ان نستمر اليوم بالتمسك الاعمى بها.

ان وعينا وادراكنا لانجازات علوم الطب، يطالبنا بالتحرر من كل الشوائب والبدع المدسوسة والمتوارثة من عصور انعدام الامكانيات لتحليل المسببات الحقيقية لأمراضنا وأزماتنا، لنؤسس توجهنا واسلوبنا لتفسير كل ما يحصل لنا من خير وشر بضوابط ومنهجية علمية لنتمكن من اتقاء رد مصيبتنا للسحر (وهنا صيبة العين)، والذي يؤدي الى مسخ العقل ومنجزات العلم ومنطق العصر. نحن مطالبون بالاعتصام لعقولنا وتفعيلها مستمدين منطقنا وتحليلنا بان تقدم الطب وارتفاع مستوى المعيشة، والتغلب على كوارث الأوبئة، نجم عنه الهبوط لموت نسبة ضئيلة جدا من الاطفال، في الدول التي توفر خدمات طبية واقية. ولنسأل أنفسنا على ضوئها، اذا كانت صيبة العين والحسد هي التفسير لأمراض ولموت الاطفال وغيرها من النكسات فكيف تمكن تطور العلم والطب من هزيمتها؟ واخيرا متى سيصبح هذا التراث السلبي حكاية شعبية اسطورية نتعامل معها بتوجه جدلي وثيق الصلة بظروفه السياقية، ليصبح موقفا ايجابيا وبناء من حركية الواقع، تغييرا وإنجازا وتثويرا؟

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب