news-details

رواية: ذياب (15)| محمد نفاع

حومة الاولاد ومعهم ذياب يلعبون على المزبلة، وينكّرون الدجاج السارح الذي يرغب كثيرا في نبش هذا الكوم والفعْفلة فيه بأرجله السوداء وأظافره ويدلّي اجنحته كمن يكنس المكان، ويلتقط ما يراه صالحا، والديك يصيح بصوته الناضج الممطوط ويمد رقبته، ويموج الريش الملون الناعم عليها، يجد ما يؤكل فيروح يُتكتك بكرم وسخاء للإناث، يتسابقن لالتقاط الموجود.

كل ديك على مزبلتُه صيّاح.

الأولاد يقلعون النّخل الذي سمّخ على زومة قلب العَجوة، عجوة من العراق في قُفران من سعف النخل او القوص والحلفا، العراق بلد التمر والترياق، لكنها بعيدة عن بلادنا: ما بوصل التّرياق من العراق تيكون القَريص شرب كاس الفراق.

فقط النسوان قليلات المروّه او المقطوعات يرمين الكناسة على المزبلة، فالزبل والرماد وكناسة خُم الدجاج تحمل الى الأرض، الى الحواكير التي تزرع بالثوم والبصل، او على عروق جَرْد العِنب.

غزية عملت لذياب طابه شراطيط، في قلبها حبّة جوز تلفّ عليها قطع ملابس عتيقة وتكوّرها وتشدّها بخيط مصّيص لتصير صالحة للعب، يتتاوَز فيها الاولاد الذين انقسموا الى فرقتين، ذياب لعّيب طابه شاطر، فرقته تغلِب دائما، حتى انه يتوز البيضه، يرميها حتى تكاد تدقُم في السقف ويتوزها، بيد واحدة، وهو ايضا عِسراوي مثل والده.

  • يابا ليه إسمي ذياب!!

الأسماء الدارجة في البلد، محمد وأحمد وعلي وسلمان وحمزه ومصطفى... وصالح

  • وقاسم قسّومه...

وتضحك غزية حتى تدمع عيونها، ترجّ ويهتزّ بطنها وصدرها العامر وكتافها وهي تضحك.

  • على إسم ذياب بن غانم من فرسان بني هلال، ومثله أبو زيد الهلالي سلامة، والزير أبو ليلى المهَلهل، وعنتر بن شدّاد وسيدنا هاني بن مسعود كريم الأب والجدود صاحب ابن شداد، كانت فرس ذياب الخضْرا، خضرة ذياب من نسل فرَس سيدنا الخضر، بَسّ تِكبر بْتقرا تغريبة بني هلال...

في عصر أحد الأيام، اجتمع عدد من أهل الحارة عند غانم، وهو يدق المهباج لتحضير القهوة المرّة، وذياب يحبّ حديث الناس والحكايا، ومع كل واحد حسَكِه في جيبته لتنقيب الأسنان، ولها طعمه طيبة، يجلبونها من ارض الخيط او من بلاد الساحل، كفر ياسيف ويركا وأبو سنان وجولس، هذه النبتة بزهرتها البيضاء الواسعة كالمُنخل، تلتف على بعضها على جناب سهل مُران وبين الزيتون، اما في البلد فتظل طبوقا لا يصلح ليصير حسَكا.

كان وجيه الحارة يحدّث، يمكن للمرّة المئة عن المَشْيَخه. مِش من إشي قليل أخذنا الشّيخة والوجاهة، تكّينا ذبايح، غَدايات وعَشايات، الضيوف حوِّل وارْكب، حكّام واُمّار وأفندية، هدايا زكاكير لبنه، فرجينا عين حَمرا، حياة بوي الله يرحمه فَقع صيتُه في اسطمبول ولندن، طِلع اكثر من عشرين مرّة على صفد، والحضور الذين سمعوا هذا الكلام حتى حفظوه، يصغون باحترام، البعض يهزّ رأسه استحسانا، والبعض يقول: علم الله هذا الحكي، هذا الحق.

نسمات عذبه طرية تنعش الوجوه، ورائحة القهوة المحمّصة ودخانها ودقة المهباج ونكهة الهيل، وحديث الرجال في الديوان كلها يحبها ذياب، ويسأل:

  • شو بوك طلع يسوّي على صفد كعمّي فايز!!

نقز الديوان، رفع الناس نظرهم الى ذياب، وقال الوجيه:

  • إيه طِلع!!
  • طلِع طلِع شو يْسوّي!!
  • قُلنا طلع، عَبس الوجيه ورشق ذياب وغانم بنظرات غاضبة، كلها ذات معنى. طلِع يركِّب تُهم على وجيه الحارة هذيك.
  • يفسِد عليه!!
  • أسكتْ يا عفريت، يا قِرد، انصُت واسكتْ.
  • أي نعم يفسد عليه، مِثل ما تراني يا جْميل بَراك، كم مرّه حاولوا يْشحشطوا بوي على الحبس..
  • فشروا، بِقصروا، حاشا الله يخْلي نظرُه عن الأوادِم.

كان الوجيه في الواقع يكلّم الأب غانم وليس الولد، ويكلم الموجودين لئلا يشك أحدهم في هذا الكلام.

ويحدّث عن مَبدا الحارة، وإن جَد الجدّ كل عنزِه بتلحق قطيعها، واللي بِشلح ثيابو بِعْرا. لكن دلائل وجهه تقول:

هذا حكي كبار مِش حكي ولاد زْغار، واللي بِقابِح جارُه يهبّط داره، والنبي وصّى في سابع جار، وجارك القريب... غانم ابن الحارة، وجار، وجارك صُبحَك ومَساك، والجار موكّل في الجار...

الوجيه متكلّم، زلمة ديوان، يتكلم بلسانه وعينيه، ويشبِّر بيديه. واللي ما بكون ذيب بْتوكلُه الذيابِه، واللي بخاف من الذياب ما يقحم الغاب، لازم الواحد يكون سَبع الغاب.

أحدهم ينصح غانم: إبنك قليل أدب، رَدّيد جوابات، هِتّ عليه، ربّي ولدك وهو صغير تفرح فيه وهو كبير، وكثر الفرْفره بتكسّر الجناح...

الإنكليز عظمهم أزرق، يلعبون الطابه في الحارتين، وهم أمكر وأنجس من فار الحَبس، ينظرون الى أهل البلد والوجهاء متل طاقية بو ناعْسِه سيعَه على راسي وسيعة على مداسي، جَمعوا الوجهاء عند الوجيه الأكبر في العُمر. تكى ذبيحة وقال لنظيره: هاي البلد نجمها في الجوزِه ما بتيجي إلا في الكسِر، هات نحطّ ايدينا في ايدين بعض وعفا الله عمّا مضى.

كان الوقت وقت حركات، وتبيّن ان الانجليز أعطل من الأتراك وبدأ الناس يلقّحون الكلام الفاحش ضد الانجليز واليهود، يُسكتون الناس بالشُطرُب والبرطيل، وإذا انقشعت غيمة الحركات يُشعلون نار الخلافات من جديد، لتنقسم البلد الى قسمين، وصار لكل حارة ببّور طحين ومعصرة زيت ومعبد، وسايِس وإمام، وناطور، ومخضّر وحوّاط، وراعي عجّال وراعي داشورة، ومأمور حْراش، وطوشات ورُكُب سطوح، وإذا ركدت الحالِه فهناك ثلاثة أربعة من ولاد الحرام، يطلعون على السطوح ويضربون كم من جمشِه على أهل الحارتين، ويندسّون مثل حية التبن، بتقرص وبتلبِد.

غانم مغضوب عليه من الحارتين، لا مع سيدي بخير ولا مع سِتي بخير، قلائل الذين يصغون له: هاي عيني وهاي اختها، لقّاط بحبِّش لقاط وصاحب الحقلة ببغض التنين، كلنا منموت ومنخلق عند بعضنا، صحيح ان في البلَد أمثلة على ذلك، اشتكى أحد الوجهاء على زلمة من عاميّة الناس، مات وخِلِق عِنده، كان هذا من ايام زمان لكن كل أهل البلد يعرفون ذلك، وقت الزّعَل والطوشات من يفطن الى مثل هذا الكلام!!

العصابة المُفسِدة المُخلفة راحت تسرق السِّكك وعيدان الحراث، سَرقوا فدّان البقر والتعليلِه عامْره، سَحْجِه ودبكِه وشبّابه وأرغول، والحادي يحدي في الصّف:

بسم الله بادي حَدادي

  واعتمادي عالدَّيان

والصف يردّد حلالي يا مالي.

شعلة النار تتوهج في نصّ الساحة والشّرار يبرقط، والنساء والصبايا يتفرّجن على السطوح، وحتى الوجيه الوقور نَزل الى صفّ السّحجه، والحادي يْحورب:

من هو عَقيد الخيل نِرفَع رايتُه

                         أبو (...) كلّ العروبة عِزْوِتُه

في التعليله جاءت العصابه وسرقتْ فدّان البَقر، لفّوا الخيش على حوافر البقر لتضييع الأثر، وساقوه الى الدّير القاسي لبيعه في لبنان، لكن أهل الدير القاسي عرفوا الفدّان: حضّروا الذبايح والخبز والرزّ والجريش والسمن والطبّاخات ودْسوت البُحلق، وأعادوا الفدّان بمحوربه، وحتى الحراميّة تعشوا مع الناس بعد ان فَزعوا ليدوّروا على الفدان المسروق.

غانم وحيد أهله، لا أخ ولا أخت، وهو العِسْراوي إيدُه فِرطه، ما حدا بغدر يرمي جنبه على الأرض، يحكي هذه الحكايات لذياب وحيد أهله. ذياب يصغي الى الكلام، وفي الليل يروح ينتخي، ويطلق أصواتا رهيبة، ويلبط اللحاف.

غزية العلم عند الله مريضه، أكلها قليل، والزوج يمزح معها: العنزِه ان أكلت ثُقل شاهينها في الثلج، ما في عليها خوف لا هي ولا اللي في بطنها، وانتِ يا غزيه إن أكلتِ قد الزبيبه، ما عليكي خوف من الضّريبِه.

والضريبة هي المرض القوي، ضريبه تضُربك، وللطرش في ساعة شيطانية يقولون: بُذْراع يْبطّك، بْريعِزْ، ريتك تْهَدْلِن وتحرطِم، لحّام يشخَتك، والبذْراع هو النّمر، يلقّي للفريسة بذراعه القوى الجبار وأظافره المخيفه، ينشبْها في الفريسة ويمسكها على خْناقها ويمصّ دمها، ويبدأ بأكل القصَبه والقلب والكِلى والطحال، ثم يشقل الفريسة بعد ان يفرغها من الكَرْش ويصعد بها الى الشجرة، حتى لا تضايقه الضباع الفجعانه والثعالب والنسور والغربان وكلها تريد حصتها من الوليمة الشهيه، النمر لا يأكل إلا قَتل ذراعُه، بعكس الضبع الذي يخمخم على الفطايس، ويأكل الكرش المحشو بالرِّث.

  • والذيب يابا!!

الذيب في البداية يُشردق الكثير من المعزى، ولا يأكل، هذه طبيعته، يحبّ الدم، وهو الآخر لا يأكل الفطايس، عكس النسر والضبع والواوي ابو نوّاره والغراب والشّوحة والبوم.

يضحك ذياب ويروح يغني:

شوحَه يا شوحَه

  (قَـ...تِكْ) مَقْدوحَة

لكن الذيب المعروف بوثبته يخاف من الكلاب ويقول: لولا الكلب ونَبحاتُه أكَلت الراعي وعنزاتُه، أما النمر فيقول: لولا الراعي ونهراتُه أكلت الكلب وعنزاتُه،

  • بَدّك تِشتريلي فرَس خضرا مثل فرس ذياب،
  • إبشر، بَس تِكْبر،

ذياب وغزية وغانم يفلحون ويزرعون القمح والشعير والقطاني، ارضهم بتضحك إلها ولحالها، والخلايا والمداور ملانه خير وبركه.

وشقفة الزيتون متل العرايس، القُصفه مرشومِه رشم، وغزية تحضّر المرصوص الأخضر والمالح مع الفيجن والمرمّد والجرجير الدّسم والمجرّح مع زيت وليمون حامض وفلفل أحمر، الارض إتعبْ عليها بتتعَب عليك.

(يتبع)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب