news-details

نتائج الانتخابات: زومبي واحد بثلاثة رؤوس | إبراهيم طه

مصيبة.. زومبي واحد بثلاثة رؤوس طلع علينا من الانتخابات الأخيرة: (1) تنامي اليمين العنصريّ الفاشيّ الدمويّ الذي انسرب من شقوق الأزمة المستمرّة في بنية النظام السياسيّ. (2) انقراض اليسار. ما يعني أنّ إسرائيل تهرول بوتيرة مرعبة تجاه فاشيّة فقدت القدرة اللسانيّة على التواصل الإنسانيّ. (3) إسباغ الشرعيّة وإضفاء الأحقيّة على هذا اليمين الدمويّ الفاشيّ، بعد أن كان اليمين "التقليديّ" نفسه يفرّ منه ومنه يبرأ.. والمصيبة الثالثة أخطر من الأوليين وأعظم لأنّ الأوليين قد تكونان حالة سياقيّة عابرة من إفرازات الظرف السياسيّ المؤقّت، سحابة صيف عن قليلٍ تقشّع، مثلما يقول أصحاب اللغة. أمّا الثالثة فهي تعني رفع الظرفيّ ونقله إلى الوعي الجماعيّ وتمكينه وتثبيته هناك لأجيال لاحقة. وهذه أمّ المصائب وأبوها.. وعند المصائب والملمّات ما أحوجنا إلى ثلاث: (1) ترسيم الطريق والثبات عليه، (2) التنادي لتوحيد الصفوف، (3) توسيع دائرة الفعل السياسيّ.

 

ترسيم الطريق والثبات عليه

"نؤثّر بكرامة"؟! ما معناها هذه؟! هكذا بهذا النبر بالضبط، سألني من سألني قبيل الانتخابات، في الحرم الجامعيّ وخارجه، سؤالَ جاهلٍ يسعى إلى المعرفة وسؤال مشكّك يسعى إلى اليقين وسؤال منكِرٍ يسعى إلى المقارعة والمناكفة. ولا بأس بها جميعها. وكنت أجيبهم على قدر فهمي للأمور، رغم أني لست شريكًا في هذه الصياغة "الرخوة" ولا ممثّلًا لحزبٍ ولا منظّرًا سياسيًا أصلًا. قلت في جوابي وقتها: "هذه" ليست شعارًا انتخابيًا ظرفيًا مارقًا. ولا ينبغي أن تكون. وقلت: لا بدّ أن تظلّ "هذه" موقفًا استراتيجيًّا صلبًا، خصوصًا إذا تنامى المسخ اليمينيّ الفاشيّ العنصريّ البغيض بعد الانتخابات. وقد تنامى. "هذه" معناها كرامة مؤثّرة. الكرامة مصدرٌ وأصلٌ والتأثير السياسيّ من اللواحق. الكرامة تسبق التأثير وهي شرطه. وفعل الشرط لا ينفصل عن جوابه ولا يتبعه. الكرامة في انتمائنا القوميّ والوطنيّ هي علّةٌ والتأثير المدنيّ السياسيّ معلول. والعلّة لا تنفصل عن معلولها ولا تتبعه. وقلت: "هذه" تعني أن نراعي التوليفة الثلاثيّة في هويّتنا الجمعيّة الجامعة، القوميّة والوطنيّة والمدنيّة، مراعاة دقيقة متأنّية لا ينفصل فيها بعضها عن بعضها...

على المستوى القوميّ، "هذه" تعني أن يصرّ نوّابنا في البرلمان على المطالبة باحترام اللغة العربيّة في المؤسّسات الرسميّة والعلميّة والمدارس العربيّة بكلّ مستوياتها. معناها المطالبة بضخّ الميزانيّات اللازمة لتثبيتها في عقول الأجيال اللاحقة وقلوبهم. معناها تدريس التاريخ العربيّ المشرّف المتشابك مع التاريخ الإسلاميّ بقوّة. معناها تدريس الثقافة العربيّة والحضاريّة ومنجزاتها الأدبيّة والعلميّة والفكريّة. وهذه لا تحظى إلا بالفتات في المناهج الدراسيّة المفروضة علينا منذ عقود. وهي مفروضة لمسخ هذه الحضارة وشطبها من الوعي والذاكرة. ومعناها أيضًا فتح قنوات التواصل الفكريّ والثقافيّ والأدبيّ مع عمق الأمّة العربيّة بعيدًا عن دوائر التطبيع...

وعلى المستوى الوطنيّ، "هذه" تعني المناداة بإقامة الدولة الفلسطينيّة على النحو الذي يرتضيه شعبنا وقيادته. وهذه المناداة تحتاج إلى إبطال قانون توحيد القدس (2018). وهي تعني المطالبة بإتاحة الرواية التاريخيّة الفلسطينيّة في كلّ المدارس في إسرائيل. وتعني قبول الفكرة والمجاهرة بها على الملأ. والمجاهرة ضروريّة حتى تصير بالتراكم جزءًا من الخطاب السياسيّ الإسرائيليّ الشرعيّ دون أن تكون من الجرائم الكبرى التي لا تغتفر، مثلما هو الحال اليوم. وهذه تعني التوقّف عن مصادرة الوطن التي تتحصّل بالقوانين المجحفة الموصولة بالأرض والبناء عليها والبقاء فيها (قانون كامينتس 2017 مثال بغيض)...  

أمّا على المستوى المدنيّ فهي تعني رفض التعامل معنا كحالة مؤقّتة، كمجموعة من الرعايا المارقين العابرين على نحو ما يظهر في قانون القوميّة (2018). و"هذه" تعني أيضًا إبطال قانون "مكافحة الإرهاب" (2016) الذي يمكّن أجهزة الشرطة والمخابرات من قمع أيّ نشاط سياسيّ شعبيّ جماهيريّ. ولا يتحقّق هذا الرفض والإبطال إلا إذا صارت المؤسّسة الإسرائيليّة تنظر إلينا كمواطنين شرعيّين كاملين لنا انتماؤنا القوميّ والوطنيّ. وقتها، ووقتها فقط، ستخفّ الهموم المدنيّة أو تزول من تلقاء نفسها. من تلقاء نفسها ستنتفي حاجة السياسات الحاكمة إلى إشاعة الجريمة والفوضى في قرانا ومدننا حين تكفّ هذه المؤسّسة عن النظر إلينا كأعداء. والإشاعة تعني الإتاحة والإباحة، تعني صرف النظر، تعني التواطؤ والتقاعس والتراخي. ومن تلقاء نفسها ستختفي الحاجة إلى التمييز العنصريّ ضدّنا، في كلّ جوانب الحياة والمؤسّسات الرسميّة والمرافئ والمرافق، حين نتحوّل من وضعيّة الرعايا إلى حالة المواطنة الكاملة...

 

التنادي لتوحيد الصفوف

وهل نحن على قدر كبير من السذاجة حتى نحسن الظنّ بالمؤسّسة الرسميّة وسياساتها إلى هذا الحدّ؟ من تابع الحملة الانتخابيّة الأخيرة لاحظ أنّ هذه المؤسّسة العنصريّة ظلّت تنظر إلى منصور عباس و"نهجه الجديد" كما لو كان الرجل بأفكاره هذه مسخًا مرعبًا أجرب. وكلّ من أصغى لشركائه بالأمس القريب سمع في نبرهم رجّة وحناجرهم تأتأة ورأى في رؤوسهم طأطأة كلّما ذكروه على استحياء.  

 الهموم المدنيّة، كالجريمة والعنف وفوضى السلاح، هي التي أجاءت الإخوة في الموحّدة إلى حالة انسلاخ عن عمقنا القوميّ والوطنيّ. وحتى نظلّ مسكونين بهمومنا المدنيّة وحدها غارقين فيها لا بدّ من دوام هذه الهموم. هذه هي مصلحة السلطة ومسعاها بالضبط. وهذه الهموم لا تدوم ولا تتكاثر أو تتناسل إلا بسياسات مدروسة ومحسوبة بدقّة. هذه تحتاج إلى من يديرها. وهذه تُدار في مكتبٍ شغلُه الشاغل "إدارة الهموم المدنيّة"، أو سمّوه ما شئتم من الأسماء الطريفة المبتكرة. تعلّق المشيئة وارتهانها بالسلطة قائم على مبدأ الحاجة. هذا مبدأ كولونياليّ قديم معروف. حتى تظلّ مشيئة الفرد معطّلة ورهينة بيد السلطة لا بدّ من حاجة له عندها توهمه السلطة بأنها الوحيدة القادرة على قضائها. دوام التعلّق بالسلطة من دوام الحاجة إليها إمّا بصفة مجازيّة افتراضيّة وإمّا بصفة حقيقيّة. وهكذا كان لا بدّ للسلطة إذًا من افتعال الحاجات حتى تُحكم قبضتها على من تشاء. ولهذا، لن يحقّق الإخوة في الموحّدة أكثر ممّا تحقّقه الأحزاب العربيّة الأخرى ضمن الهامش المتاح للتأثير في العمل البرلمانيّ. لعلّهم يعتبرون ويغيّرون الطريق. ولمّا كان الإخوة في الموحّدة قد يئسوا من إقامة التوازن الدقيق بين أبعاض الهويّة وفكّكوا التوليفة الثلاثيّة الدقيقة كان لا بدّ أن يفشلوا. أمّا الإخوة في التجمّع الوطنيّ فقد أصرّوا بطريقتهم على هذا التوازن بين الأبعاض الثلاثة على نحوٍ يجعل خطابهم ضروريًا لتفعيل الحوار الاستراتيجيّ والأيديولوجيّ والجماهيريّ بعيدًا عن الحسابات الحزبيّة الفئويّة التي لا تشغلني.

"فشل النوّاب العرب" هي مقولة مغرضة مدسوسة مضلّلة. فعل النوّاب أقصى ما يستطيعون بقدر ما يتيح لهم هامش الفعل البرلمانيّ. وإذا كان هذا الذي حقّقوه لا يرتقي إلى مستوى التوقّعات والرغبات فلأنّ الدولة تفشلهم وتحدّ من نجاحاتهم. تفشلهم بإقصائهم عن دائرة التأثير. وإقصاؤهم عن هذه الدائرة هو سياسة خبيثة عنصريّة مقصودة ومحسوبة في أروقتهم السفليّة والعلويّة. وهذا "الإفشال" المتعمّد والممنهج يتحوّل إلى خطاب سياسيّ تستخدمه الأحزاب الصهيونيّة بخبث لتخريب العلاقة بين نوّابنا والقاعدة الجماهيريّة. والغريب أنّ بعضنا بسذاجته تنطلي عليه هذه اللعبة المكشوفة، وبدلًا من معاقبة هذه الأحزاب الصهيونيّة عليها نروح نتّهم نوّابنا بالفشل ونمتنع عن التصويت. غريب عجيب! هذه أغرب مفارقة سياسيّة أحسنت الأحزاب الصهيونيّة والمؤسّسة الرسميّة استغلالها... مطلب الظرف المحتقن هو الالتفاف حول مبدأ "الكرامة المؤثّرة". مطلب اللحظة الراهنة هو التفكير الاستراتيجيّ بعيدًا عن كلّ الحسابات الفئويّة.    

 

توسيع دائرة الفعل السياسي                                            

العمل البرلمانيّ في ذاته هو من أدوات البقاء في الوطن حتى وإن لم يحقّق الكثير المأمول. في ظلّ المحاولات المستميتة ليظلّ التمثيل العربيّ في البرلمان شكليًا صوريًّا، يبقى العمل البرلمانيّ، رغم أهميّته القصوى، محدودًا في قدرته على تحقيق الغايات القوميّة والوطنيّة، على النحو الذي سبق بيانه، ما لم ترافقه أدوات إجرائيّة أخرى. وفي ظلّ الإفشال المتعمّد والمبرمج، رغم كلّ ما يبذله نوّابنا من طاقات وأعصاب ووقت وعرق، لا بدّ من تفعيل القواعد الجماهيريّة الشعبيّة وإحياء حركتها وتعميق وعيها السياسيّ على مدار العام. على مدار العام. ولعلّ تدنّي نسبة التصويت عندنا هو ما عمّق الأزمة وهو ما سمح للفاشيّة أن تدلف إلى مركز القرار السياسيّ. وكلّ هذه تحتاج إلى قيادة توجّهها وتنظّمها. وعلى رأس هذه القيادة الأحزابُ نفسها ولجنة المتابعة العليا، تليها المجالس والبلديّات والمؤسّسات الثقافيّة، كاتحادات الكتّاب، والجمعيّات البحثيّة والحقوقيّة.  

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب