news-details

زينة.. وعين العذراء.. وعمّي نعمة سليمان الصباغ | د. هاني صباغ

صفحات من سيرة ذاتية- نصراوي من حارة العين (3):

أطلقت أم أحمد زغرودة عالية عكّرت صمت الهدوء وجعلت العصافير المتفيئة بين الأغصان تفر مذعورة من ذلك الصوت المفاجئ ورافقتها ضمة وقبلة لأمي صديقتها الروح بالروح. وحدثتني أمي  بما جرى من حديث في داخل الطابون مع جارتنا فقد كان الطابون والعين ملتقى النساء والبنات ومركزًا للقيل والقال.

أنا وزينة بنت الجيران ذات العيون العسلية

حملت العسلية الفارغة وهي جرة صغيرة تصنع عادة من الفخار الأسود من إحدى أذنيها، وخرجتُ متوجهًا إلى عين العذراء القريبة التي تبعد عن بيتنا قرابة مئة أو مئة وخمسين ذراعًا.  كان في العين كثرة من النساء يملأن جرارهن وبعض الجمّالة يسقون جمالهم من الأجران الكبيرة أمام العين. كانت زينة بنت الجيران تملأ جرتها عندما وصلت صبية في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة قمحية اللون ذات عينين عسليتين كبيرتين ونهدين صغيرين منتصبين وقوام رشيق متميز محط أنظار الرجال. كانت حديث الحارة لجمالها وأدبها وذكائها وحسن معشرها. رأتني، صوبت نحوي نظرة باسمة بعينيها الجميلتين وأشارت إليَّ بيدها أن أعْطِني العسلية أملأْها لك فلا حاجة لك أن تنتظر بالدور. أعطيتها إياها. وسرعان ما أخذت النساء والبنات الأخريات المنتظرات بالدور على العين ينظرن إليّ، يتهامسن ويتلامزن ويخفين ابتساماتهن ذات المغزى التي لم أفهم لها سببًا أو قصدًا، ومع ذلك بدأ الدم الساخن يتدفق إلى وجنتيّ فاحمر وجهي خجلًا. أشحت بوجهي عنهن وعنها كي لا يظهر لهن اضطرابي.          

- راجي راجي،  انتلت (امتلأت) العسلية. ناولتني إياها شكرتها بصوت خافت، أخذتها وأردت الانصراف. كانت جرتها ملأى هي الأخرى . قالت بصوت مرتفع:    

- وقِّف وقِّف، بتقدر تحمّلني الجرة؟ قالت بجرأة دون أن تهتم بمن حولها من النساء والفتيات والجمّالة.                                   

اقتربت منها. وَضَعَت إكليل القماش على رأسها وساعدتُها على حمل الجرة. لمست يدي اليسرى يدها اليمنى الغضة فسرت في عروقي رعشة لم أدر سببها. أمسكت الجرة بكلتا يديها فازداد ثدياها تكورًا وانتصابًا.. لامسا صدري فسرت رعشة أخرى في جسدي وتدفق الدم الحار إلى وجنتيّ وأُذُنيَّ بغزارة. استدرت بسرعة، حملت عسليتي وانطلقت على عجل. تبعتني وأسرَعَتِ الخطى لتلحق بي. كانت تحمل الجرة على رأسها مائلة فيتمايل قدها ذات اليمين وذات اليسار مع كل خطوة. ما أجمل ذلك القوام.

راجي، راجي استنى.

تمهّلت ، أدركتني.                

أنا مثل أختك مش لازم تستحي مني. إنت متل أخوي الزغير. قلّي  شو عملت اليوم الصبح. أكيد ما رحتش عالمدرسة لأنو المدرسة مفورصة.

- أيوه،  بس رحت قدمت امتحان الدخول لمدرسة المسكوب.

- وقبلوك؟                                                         

- طبعا . نجحت بالامتحان وهناني الأستاذ.                  

_ نيالك. يا اللـه، شو  بحب أروح عالمدرسة أتعلم أقرا وأكتب مثلك وأصير معلمة للبنات. بس هالدنيا غدارة، قال البنات ممنوع يتعلّمو قال! ليش مش عارفه. ليش الله ما  خلقنيش صبي؟

هـززت رأسي موافقًا وأسرعت الخطى لأتخلص من رفقتها فلا أسير معها لأن ذلك مجلبة للقيل والقال.

  وما إن وصلت البيت حتى بادرتني أمي بالسؤال:      

 - شو إنُّه ما فش حدا على العين تنّء رجعت ءوام؟               

- مبلى يما، بس في وحده صبيه ملّتلي العسلية بدون دور.        

- هلملعونه، شو إنها لعبت عينها عليء؟                                                     

 قالت وهزت رأسها وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيَّة ذات مغزى.                

- لا يمّا، هاي بنت جيراننا.

قلت وأحسست بالدم يتدفق إلى وجنتيَّ وأذنيَّ ثانية. لا بد أن أمي لاحظت اضطرابي والاحمرار الخفيف الذي بدا على وجهي. غيَّرَت الموضوع .

 - فطنتني. بس أطعمي أخوء لازم أروح أخبز الخبزات في طابون الجيران. بس بدي اياء تدير بالء عليه.

كان الطابون والعين ملتقى النساء والبنات ومركزًا للقيل والقال 

وضعت على رأسها إكليلًا من القماش الملون وحملت لجن العجين الخامر المغطى بقماش ناصع البياض كانت تغسله كل يوم محافظة منها على قداسة الخبز. غطته بطبق من قش الأرُز الناعمّ الملون وخرجت من طرف الحاكورة الشرقي متجهة إلى طابون الجيران. وقفتُ على باب الغرفة أراقبها تبتعد عني بقامتها القصيرة  الرشيقة المنتصبة. كان الطابون مشتعلًا يتصاعد دخانه فيملأ الجو برائحة الطوابين المميزة. كانت جارتنا أم أحمد التي انتهت لتوّها من خبز عجينها، تقف على مدخل الطابون. كنتُ على مسمع ومرأىً منهما لقربهما مني وللهدوء الذي خيم على الحواكير ولم يَعكر صفوه شيء سوى صوت الطبيعة الهادئ الصامت وحفيف أوراق  الشجر.                               - أهلًا وسهلًا بجارة الرضا أم راجي. نوّرت السهلة. كنت والنبي طالعة أندهلِك وهو الطابون حامي. هاتِي أخبز لك خبزاتك. قالت مرحبة.

- لا لا يا عيب الشوم بديش أغلبِء. ءيف هالعيال نشالله بخير يا جارتنا؟

 - الحِمدِلله كلهن ببوسوا إيديكي يا جارة الرضى. شو سمعت إنو الله يخليه راجي قدم اليوم امتحان مدرسة المسكوب ونجح.                             

- مبلى راح ءدمو والحِمد لله نجح. مين ألِّء.                   

 - بنتي زينة. يا  ريته ألف مبروك وحياة النبي فرحتللو.

 وأطلقت أم أحمد زغرودة عالية عكّرت صمت الهدوء وجعلت العصافير المتفيئة بين الأغصان تفر مذعورة من ذلك الصوت المفاجئ ورافقتها ضمة وقبلة لأمي صديقتها الروح بالروح. وحدثتني أمي  بما جرى من حديث في داخل الطابون مع جارتنا فقد كان الطابون والعين ملتقى النساء والبنات ومركزًا للقيل والقال.

وتغدينا المجدرة بالبرغل النصراوية المشهورة والسلطة الفلاحية

شارفت الساعة الثامنة بعد الظهر وما هو إلا وقت قصير حتى وصل أبي وقد بدا عليه الإرهاق والألم.

 - مسيكو بالخير. كيف حالك يا أم راجي إن شا اللـه ما غلّبك واصف اليوم.

- ميت مسا يمسّيء يا أبو راجي الله يخليلنا اياء ويبارِء فيء. لا والـله ءان منيح اليوم. غليتله شوية ببونج من حاءورتنا وسءيته اياه بدون سُءّر والحِمْدِلـه ما صابه مغص متل العادة. احطلّء تتغدى وِلّا بِدَّء تنام شوي بالأول؟ شايفتء موجوع.

- آه واللـه موجوع شوي يا أم راجي بس جوعان كتير. يلّا اعملي لنا سلطة بندورة مقشرة مع بصل يابس ونعنع. أنا بطلع   أجيب شوية نعنع.

 - لأ لأ . تبَطّح إنت  تريَّح. أنا بعمل ءُل شي.                                             وتغدينا المجدرة بالبرغل النصراوية المشهورة والسلطة الفلاحية وصعد أبي ليرتاح في المستوى العلوي لينام. 

درت عليهم بالماء وصابون زيت الزيتون النابلسي المشهور

حضر الضيوف يوم الجمعة بتاريخ 14 أيلول شرقي فاستقبلهم أبي بحفاوة بالغة وقدم لهم القهوة السادة بالهال. طبخت أمي ذلك اليوم طعامًا يكفي لنا وللضيوف. وقام الخوري عيسى خليف بمباركة الطعام وبالصلاة قبل الأكل وتغدى الرجال جميعًا. قمت وأبي على خدمتهم وتقديم احتياجاتهم. ولما فرغوا درت عليهم بالماء وصابون زيت الزيتون النابلسي المشهور وفوطتين بيضاوين نظيفتين ليغسلوا ايديهم وينشفوها. ثم قُدِّمَت القهوة الحلوة ومربى الصُفِّير الذي كانت أمي ماهرة في صنعه والذي كنت اختلس منه قطعة أو أكثر يوميا. كانت أمي تجلب الصفير من بستان دار المزط أقربائها، وهو من أنواع الحمضيات يُصنَع المربّى من قشوره والشراب من عصيره.    **                                                         

بُدئ العمل على كتابة اتفاقية قسمة الملك وقام الخوري عيسى بصفته رئيس المحكمة الكنسية الأرثوذكسية بكتابتها حسب إجابات الأخوين ابني يوسف الصباغ، أبي وعمي سليمان، على الأسئلة التي كان يطرحها عليهما أمام الشهود وعلى مسمع منهم. ولما انتهى من كتابتها كُتِبَت منها نسختان أخريان  مهرها جميعًا ابي وعمي بتوقيعهما وتعانقا وختمهما الشهود بأختامهم وتواقيعهم وأخذ كلٌّ نسخته وأخذ الخوري عيسى النسخة الثالثة لتحفظ مع سجلات الكنيسة . 

تعلمت من أبي صنع الأحذية النسائية الحديثة..وأعنّة الخيل   

بدأت العمل مع أبي نزولًا عند رغبته. علمني صنعته.  تعلمت منه معرفة الجلود بأنواعها واستخداماتها وطرق أخذ قياس أقدام الزبائن واستخدام القوالب الخشبية  وصنع الأحذية النسائية الحديثة والأحزمة والهمايين الجلدية للرجال وأعِنَّة الخيل وغيرها من حيوانات النقل والحراث واستخدام وصيانة آلة خياطة الجلود الألمانية الصنع. كان ذلك كله في وقت قصير. عملت معه سنتين أو اكثر بقليل. ولكنه كثيرًا ما  

كان يشعر بألم حاد في بطنه، فيذهب إلى البيت ليشرب البابونج الذي كان يريحه ثم ينام. استشار كل مطببي البلد وأصحاب حوانيت العطارة والمداواة بالأعشاب وشيخهم سليم ورور، وكلهم خرجوا بنتيجة واحدة وهي أنه مصاب بـ"ريح سُدَدي" ولا أمل في شفائه منه. بدأ غيابه عن العمل يتكرر ويزداد يومًا بعد يوم. كان الخوري عيسى يزوره أسبوعيًا بعد قداس الأحد فلما اشتدت عليه وطأة المرض نصحه:       

_ اسمع يا أبو راجي. الأعمار يا ابن العم بيد الله، ومن عين العقل أن تكتب وصيتك وسوف أساعدك على ذلك الأسبوع المقبل إن لم يكن عندك مانع. سأمُرُّ كعادتي ونعمل على كتابتها، فيكون لديك متسع من الوقت لتفكر فيمن تترك له مخلفاتك من حطام هذه الدنيا الفانية. هه، ماذا قلت؟

 -ذلك عين الصواب يا قدس الأب عيسى لا حرمَنا الله منك ومن بركاتك ورجاحة عقلك. سأكون بانتظارك يوم الأحد القادم وأرجو أن تخبر بعضًا من وجهاء طائفتنا وتطلب منهم الحضور ليشهدوا على الوصية.                                  

بقي والدي على تلك الحال سنتين أو أكثر قليلًا يعاني من الأوجاع الشديدة توفي بعدها وله من العمر أربعون سنة. بكته أمي وعمتي وأختي وابنتها والنساء وبكيته كثيرًا، فقد أصبح رفيقي بالإضافة إلى كونه والدي. بقيت أشعر بوجوده إلى جانبي في الدكان بل كنت أتخيل أنني أسمع صوت أنينه أحيانًا.             

هذه ابنتي نايفة وأريدك أن تأخذ مقاس رجلها وتصنع لها  شحويطة واسعة قليلًا

وفي أحد الأيام، بينما كنت في الدكان كعادتي منهمكًا في العمل، إذ دخل الدكان عليّ رجل مربوع القامة أبيض البشرة أشقر الشعر أزرق العينين وسيم برفقة فتاة صغيرة.

 - مرحبا يا ابني.                                                   

 عرفته للحال ..إنه توفيق ابن الخوري عيسى.                        

- أهلًا وسهلًا عمي توفيق.                                      

_أهلًا فيك يا ابني. هذه ابنتي نايفة وأريدك أن تأخذ مقاس رجلها وتصنع لها  شحويطة واسعة قليلًا تخدمها سنتين أو اكثر، فكما تعلم ستكبر وتكبر قدماها.

- حاضر يا عمي، سأصنع لها شحويطة جميلة لم أصنع مثلها لأحد من قبل.

بعد القياس اختارت من الجلد لونًا يعجبها ونقدَني الثمن. كان ذاك هو العم توفيق ابن الخوري عيسى الذي تشرفت بلقائه في بيتنا من قبل، وأشرف على كتابة اتفاقية قسمة الملك والوصية.

**

ذات يوم زارني في الدكان  نعمة ابن عمي سليمان . لم يكن من عادته أن يزورني إذ كان يصغرني بسنتين. كان ما يزال في عداد الصبية، وأصبحت أنا في عداد الرجال. رحبت به  ودعوته للجلوس فاعتذر.

- شكرا يا ابن العم. جئت أنقل لك خبرا سارًّا، فأنا أعرف حسن ظنك بي واهتمامك بأمري. يجب أن أذهب لأزف البشرى إلى والدي. جئت الآن لتوّي من امتحان الدخول إلى السمينار الروسي، وقد نجحت فيه وتعرفت على طلاب جدد كثر قدموا من مختلف أنحاء بلادنا السورية غابت عني اسماؤهم إلا ثلاثة كان أحدهم يجلس إلى جانبي في غرفة الانتظار وبجانبه الإثنان الآخران. تعارفنا وتحدثنا طويلًا عن سابق دراستنا وآمالنا ومستقبلنا. تيقنت من أنه ستجمعنا في المستقبل صداقة حميمة لما كان عليه من دماثة الخلق والأدب. سألت:                                                

- وما اسم صديقك الجديد هذا؟                    

 - ميخائيل نعيمة. وهو من بسكنتا في لبنان. أما الآخران فأولهما نسيب عريضة والثاني عبدالمسيح حداد.                                 

هنأته على النجاح وتمنيت له كل خير وتوفيق وانصرف. كم كنت أغبطه. لقد نكأ ابن عمي في قلبي جرحًا قديما كان قد انكتم.                                                     

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب