news-details

ساسون حسقيل ــ صفحات مطوية من تاريخ العراق الحديث | الياس خليل نصرالله

يتفق كثيرون في تقويم شخصيته وممارساته في إدارة وصيانة المال العام بأنّه كان أشهر وأنزه وزير مالية عراقي في تاريخ الحكومات العراقية المتعاقبة، فهو أول وزير أسهم بشكل كبير في وضع الأسس الصحيحة والسليمة لقيام الاقتصاد العراقي وبناء ماليته وفق نظام دقيق جدًا. حيث قال عنه أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب: "انه الوزير الثابت في الوزارات العراقية".

ولد ساسون حسقيل 1860 -1932، لأسرة يهودية بغدادية قديمة، وكان والده من رجال الدين المتفقهين في الشريعة اليهودية، وقد شيد كنيسا في بغداد سنة 1909م.

وتلقى ساسون دراسته في مدرسة الاليانس. ثم قصد استانبول في أوائل سنة 1877م ليدرس في المدرسة السلطانية، والتحق بعدها بالأكاديمية القنصلية في فينا. ثمّ عرج بعد تخرجه في الأكاديمية على برلين ولندن. وعاد بعدها إلى استانبول ونال إجازة الحقوق، وعاد إلى بغداد 1885م، وعين بوظيفة مهمة كترجمان لولاية بغداد، لأنها تؤمن له حلقة اتصال بالقناصل الأجانب. 


انتخب ساسون نائبا عن بغداد في مجلس النواب التركي الأول مع إعلان الدستور 1908، وظل في مقعد النيابة إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، وانفصال العراق عن الدولة العثمانية (1918م). وبرز في المجلس بنشاطاته المتعددة، وترأس لجنة الميزانية العامة. وأوفد عام ١٩٠٩ إلى لندن وباريس في مهام خاصّة، بما في ذلك كعضو في وفد عثماني إلى لندن في عام 1909 بصفته وكيل وزارة الخارجية للتجارة والزراعة.

عين عام 1913 مستشارا لوزارة التجارة، وعاد إلى بغداد في أوّل سنة 1920م، فعين أول وزير للمالية في حكومة السيد عبد الرحمن النقيب في 27 تشرين الاول 1920م. وفي آذار 1921م حضر مؤتمر القاهرة برئاسة وزير المستعمرات "ونستون تشرشل" مع المندوب السامي السر برسي كوكس ووزير الدفاع جعفر العسكري، حيث تقرر انشاء المملكة العراقية وتتويج الأمير فيصل ملكًا عليها.

ساسون حسقيل وتاريخ العراق الحديث:

خطا العراق نحو توثيق حقبة مهمة من تاريخه الحديث تتعلق بشخصية يهودية عراقية، كان أول وزير مالية للبلاد ورائد إصدار عملتها الوطنية هو ساسون حسقيل الذي تولى حقيبة المالية في خمس حكومات بين عامي 1921 و1925. إلّا أنّ بريطانيا عارضت ومنعت توليه هذه الحقيبة لاحقًا

ساسون هو أحد الأعضاء الثمانية في أول حكومة عراقية قام بتأسيسها السير برسي كوكس "المندوب السامي البريطاني"، ثم عيّن أول وزير مالية في حكومة رئيس الوزراء عبد الرحمن النقيب المؤقتة بين عامي 1918و1921 ثم اختير لوزارة المالية في وزارة النقيب الثانية والثالثة عام 1921، وفي وزارة عبد المحسن السعدون الاولى ثم وزارة ياسين الهاشمي، أي شغل منصب وزير المالية خمس مرات إبان الحكم الملكي.

ويعتبر ساسون من الشخصيات العراقية البارزة في تاريخ العراق المعاصر، ويرتبط هذا بحرصه على التقاليد البرلمانية الصحيحة وتطبيق النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي فوصف، بأنه "أقدر رجل في مجلس الوزراء لمواقفه الصلبة والمتزنة، ونظرته إلى الأمور من خلفية الحقوقي الدستوري. وكان يمارس مهامه وصلاحياته بحرية ونزاهة ومهنية وحصافة وبرؤية عميقة وبعيدة المدى. كما أسهم بشكل كبير في وضع الأسس الصحيحة لقيام الاقتصاد العراقي وبناء ماليته وفق نظام دقيق.

مما يذكره فتحي صفوت، في مجلة دراسات فلسطينية بأنه عثر في أوراق رفائيل بطو بأن الشيخ محمد الهيبي، أحد أعضاء وزارة الهاشمي الأول نقل له "أنّه عندما كان وزيرًا للمالية، وجرت مناقشة لبعض الأمور الاقتصادية وعرض على مجلس الوزراء نظام الوزارة المالي، وقام بطرح خطته الاقتصادية، فعارضه وقاطعه بعض الوزراء، كان من بينهم جعفر العسكري، فما كان من ساسون ألا أن انتفض في وجههم وبصوت مرتفع: "أرجو يا جعفر باشا ألا تتدخل في أمور لا علاقة لك بها، ولا تعرف عنها شيئًا، فهذه قضايا قانونية وأنت رجل عسكري". وكما أنّي لا أعارضك في الشؤون العسكرية، فأطلب من حضرتك عدم معارضتي في موضوع هو من اختصاصي. فإذا وافقتم عليه ففيه خيرا وإلا فلا أعمل معكم وغادر الجلسة. إلّا أنّ رئيس الوزراء الهاشمي قام بإرجاعه، وتمت المصادقة على اقتراحاته المالية.

 يتفق كثيرون في تقويم شخصيته وممارساته في إدارة وصيانة المال العام بأنّه كان أشهر وأنزه وزير مالية عراقي في تاريخ الحكومات العراقية المتعاقبة، فهو أول وزير أسهم بشكل كبير في وضع الأسس الصحيحة والسليمة لقيام الاقتصاد العراقي وبناء ماليته وفق نظام دقيق جدًا. حيث قال عنه أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب: "انه الوزير الثابت في الوزارات العراقية، لأنه ليس في العراق من يضاهيه في علم الاقتصاد والتضلع في إدراك الشؤون المالية".

عرف عنه، أنه كان متشددًا في محاسبة الموظفين والمسؤولين {وغير مستثني المسؤولين، والملك فيصل الأول والحكومة البريطانية} فلا يترك لهم ثغرة يسيئون فيها لمالية البلاد، ومن هنا جاءت الكلمة المترددة على ألسنة الكثير من العراقيين (يحسقلها... تريد تحسقلها عليّ!)، بمعنى يتشدد في المحاسبة. كما يُروى عنه بأنه كان سريع الغضب مع الموظفين إذا وجد منهم تهاونًا أو تقصيرًا. ويذكر مير بصري أن صفوت باشا حدثه حينما كان ناظرًا للخزينة الملكية الخاصة عن نفقات البريد والبرق المخصصة للديوان الملكي عام 1925، بأنها قد نفذت قبل أشهر من انتهاء السنة المالية نتيجة تواتر البرقيات اليومية للاطلاع على تطورات الحرب الحجازيةـ النجدية. فكتب الديوان الملكي إلى وزارة المالية يسأله الموافقة على نقل مبالغ من بند آخر في الميزانية المصادق عليها لخدمات البريد، وذلك لتغطية العجز الحاصل، فرفض هذا الاقتراح جملة وتفصيلًا والملك يسمع رده أثناء وجوده في غرفة مجاورة، إلّا أنّه تقبل هذا الرفض، تقديرًا لحرص وزير ماليته التمسك بقواعد التوفير والمحافظة على خزينة الدولة.

وذكر عنه الباحث ضياء كاظم العراقي: "عندما طلب الملك منه صرف مبلغ 20 دينارًا لبناء مدرسة في لواء الديوانية، بعد مطالبة السكان ببنائها، ردّ ساسون على الملك: "لقد أقرت الميزانية في البرلمان، وليس هناك اي مجال للتلاعب في الشؤون التي اقرها البرلمان".

وكتب الكثير عن مواقفه الثاقبة عندما كان عضوا في الوفد العراقي للتفاوض بين العراق وشركة النفط البريطانية عام 1923، والتي كانت مسجلة لحينه شركة النفط العراقية التركية، لتوقيع اتفاقية جديده لحصة العراق من النفط. وخاصة تشبثه بأن يتضمن الاتفاق شرطًا بأن تدفع الشركة للعراق حصتها بالذهب وليس بالنقد الورقي البريطاني. وواجه في حينه اقتراحه هذا، الاتهام بأنّه قديم الطراز لأن النقد البريطاني كان في تلك الفترة أقوى نقدًا في العالم. فردّ عليهم صحيح أنا رجل متحجر الفكر ومن بقايا العهد العثماني ولكن أصر تسجيل اشتراط الدفع بالذهب.

ومع انفصال ارتباط صرف نقد بريطانيا بالذهب [١٩٣٠] والذي أدى لهبوط قيمة النقد البريطاني وارتفاع سعر الذهب. مما أدّى لاستفادة العراق ماليًا نتيجة هذا التغيير لازدياد مدخولاته من النفط، ليؤكد بشكل قاطع ان ما اشترطه حسقيل صب في مصلحة العراق.

ولا عجب أن ينزعج البريطانيون من وجوده على رأس وزارة المالية في كل مفاوضاتهم معها، فسعوا إلى التخلص منه وتمكنوا من ذلك بعد سقوط حكومة ياسين الهاشمي.

حسقيل ساسون كان أمينًا مثقفا مخلصا ووفيا لمهنته. كان مؤمنا كغيره من النخب العراقية الوطنية بكل أطيافها، بإمكانية صهر جميع الطوائف والأقليات في بوتقة الوطن واعتبارها شعبًا عراقيا واحدًا لمصلحة الوطن.

وهذا ما أكده وأثنى عليه د. مظهر صالح في ندوة معرض أربيل الدولي للكتاب في ندوة عن الاقتصادي اليهودي ساسون حسقيل أنه شخصية عراقية مؤسسة للدولة العراقية من عائلة بغدادية عريقة غنية كان يطلق عليها لقب روتشيلد الشرق لغناها.

وأضاف أنّه شخصية عراقية وطنية، عملت بإخلاص في الدولة العثمانية بوظيفة ترجمان الدولة وبعضويتها في مجلس النواب العثماني 1908.

وعندما انسلخ العراق عن الدولة العثمانية بعد الاحتلال وظهور الانتداب البريطاني، اشترك في مؤتمر القاهرة للمستعمرات والذي جرى فيه تقرير مصير العراق كدولة. وكان مرحبًا بفكرة قدوم الملك فيصل الأول للعراق. مضيفًا: إنه أوّل وزير مالية في فترة الانتداب من بين 8 وزراء وشغل لخمس مرّات كوزير مالية. وتؤكد كل الكتابات: أنه كان أذكى وأخلص وزير عراقي. واتسم بإصراره ارتداء الطربوش العثماني رغم أن الملك فيصل حاول أن يلبسه السدارة، لكنه رفض ذلك رغم أنه علماني التوجه.

وحظيت هذه الشخصية في حينه تقديرًا واسعًا لتتقلد عددًا من الأوسمة: وسام الملك جورج الخامس، وسام الامبراطورية الفارسية وكورش، إضافة إلى وسام الرافدين من الدرجة الثانية من قبل فيصل الأول ووسام الامتياز من الحكومة العثمانية.

وساهم هذا ولأول مرة في تاريخ المنطقة باعتماده موازنة للعراق المعروفة باسم موازنة البنود [وأخذها من بريطانيا، الا انه طبقها تزامنًا مع تطبيقها في الولايات المتحدة]. وتعتبر هذه الخطوة حجر الأساس لبناء ميزانية ونظام مالي في العراق عندما كانت المنطقة كلها لا تعرف الموازنة. كما ساهم في بناء نظام ضرائبي، انطلق من قاعدة المعارضة للتبذير والتلاعب بالمال العام، وعدم التواني والتردد لإيقاف الحكومة عند حدها إذا أساءت التصرف بالميزانية. ويذكر ياسين الهاشمي: "عند ذكر ساسون أفندي، فيجيء ذلك مقرونًا بالكفاح العظيم في تنظيم شؤون دولة العراق في سني الانتداب العجاف".

وكمثال لتوجهه الحريص على المال العام، تدقيقه في الاقتراح لتخصيص ميزانية 300 دينارًا لترميم القشلة. فقام ببحث التكاليف مع المهندس المسؤول، وتبين أنّ هناك 45 دينارا من المال السائب، فصادق بأن تكون ميزانية هذا المشروع 255 دينارًا، فاحتج وزير الداخلية في حينه مصرًا تخصيص الميزانية التي قدمها للأهمية التاريخية لهذا المشروع. فرد عليه: يا سيادة الوزير إنّ الحفاظ على المعالم التاريخية في بغداد، يجب أن يكون متوازيًا مع الحفاظ على المال العام، وبعيدًا عن الإهدار. لأن الإهدار يجعل المال سائبًا، وهذا بدوره يعلّم السرقة، "العراق ُيسْرَق، وماله ُيهدر، والشعب يجوع وكان الله في عون الشعب المسكين".

وتميّزت ثقافة حسقيل بتعدد مجالاتها، وأجادته سبع لغات وترك مكتبة ضخمة وثرية بمصادرها والتي بقرار الحكومة في السبعينات أصبحت جزءًا من المتحف العراقي.

إنّ أعمال حسقيل مقرونة بالكفاح العظيم بتنظيم شؤون دولة العراق عند بداية تأسيسها.

ومن انجازاته في حقول المال دعمه مع مدير المحاسبات ابراهيم الكبير، وهو خبير مالي عراقي يهودي، بمشاركته من لندن في تأسيس مجلس نقدي عراقي ليحل مكان نظام التداول النقدي والذي كان خليطًا من نقود انجليزية، روبية هندية وليرة عثمانية. وفعلًا أصدرت العراق أول دينار عراقي بعد وفاته، فيكون له الفضل بالمبادرة التي شارك فيها بتأسيس السياسة النقدية وإصدار نقدي للعراق وتأسيس موازنة البنود.

ساسـون حسقيل شخصية فريدة في تاريخ العراق السياسي الحديث، فهو أول وزير مالية في دولة العراق الحديثة، واليهودي الوحيد الذي شغل منصب الوزارة فيها، ومن رجالات العراق الذين أسهموا مساهمة فعّالة في رسم مستقبله، وإرساء كيانه السياسي والإداري والمالي.

رغم ما قدّمه للعراق، هناك من يشكك في الهالة التي أحيطت به وبنزاهته كذلك، ويصفه أنّه كان الشخصية المدعومة من البريطانيين. لكن برأيي لا يمكننا دراسة أعماله وشخصيته بمنأى عن السياق التاريخي والمرحلة التي عايشها حيث كان الاستعمار البريطاني القوة المهيمنة في شرقنا وعالمنا. لذا يجب التعامل مع أعماله وانجازاته من مخاض تاريخ وظروف العراق في حينه. وبرأي الكاتب الماركسي جاسم المطير، فقد كان اختيار ساسون حسقيل لمنصب وزير اختيارًا وظيفيًا وليس سياسيًا ولا دينيًا ولا مذهبيًا. وكان هذا الاختيار لا يعبأ إلا بالكفاءة والمهنية والنجاعة لإدارة المال العراقي العام. ويضيف أنّه كان في قمة الإخلاص والموثوقية للمال العراقي العام، حتّى أنّه هدّد ذات يوم بالاستقالة، إذا ما أصر الملك فيصل برفضه طلبه لزيادة طفيفة في مخصصات البلاط الملكي، لأن هنالك مس بالحق والعدل والأمانة.

ويشير لبيب رؤوف حسن في كتابه "معجم الكلمات، المصطلحات العراقية" بأنّ العراقي حتى يومنا يستعمل مصطلح حسقل بمعنى قتر. ويذكر أن أصلها ومصدرها من اسم ساسون حسقيل (وزير المالية ) لأنّه كان يحقق ويدقق في جميع مصاريف الدولة قبل موافقته عليها. أي هذا المصطلح لا يدلّ على البخل إنّما على الأمانة والحرص على أموال الدولة، حتى أصبح مثالًا يحتذى به، فيقال لا تحسقلها، بمعنى لا تمحص تدقق فيها لحد الفلس.

وأخيرًا يبقى أن نسأل لماذا غُيّب من ديوان الرصافي في رثائه لكل من ساسون والمحسن العراقي مناحم دانيال (المتبرع ببناء عمارة الايتام الإسلامية 1928) والصادر بطبعتين عن دار العود؛ في بيروت عام 1972. واسأل بأي حق، تكتب دار النشر أنّها نشرت شعر الرصافي كاملًا.

ستبقى هذه الممارسة وصمة عار، ومسا بالأمانة في النشر، من منطلقات منافية للمنطق والموضوعية وحق الجمهور في المعرفة، وتجاهلها لا يمس بالرصافي ولا بمكانة وسمعة الشخصيتين اللذين حُذفت قصيدتي رثاء كل واحد منهما.

 

*رثاء الشاعر معروف الرصافي لساسون حسقيل*

نعى البرق من باريس ساسون فاغتدت   ببغداد أم المجد تبكي وتندب

ولا عرو ان تبكيه اذ فقدت به          نواطق اعمال عن المجد تعرب

لقد كان ميمون النقيبة كلما        تذوقته في النفس يحلو ويعذب

تشير اليه المكرمات بكفها         اذا سئلت اي الرجال المهذب

ألا لا تقل قد مات ساسون، بل فقل:   تغور من أفق المكارم كوكب..

فقدنا بها شيخ البرلمان ينجلي        به ليله الداجي اذا قام يخطب

وكان اذا ما قال اوجز قوله         ولكنه في فعله الخير مسهب

وكانت له في الترك قبلا مكانة       بها كل ذي فضل من الترك معجب

رزين النهى لا يستخف حصاته     مع الغيد ملهى او مع الصيد ملعب

وما سره من دولة العجم رتبة       ولا غره من دولة العرب منصب

لقد كان في الأوطان يرأب صدعها      فيسعى الى الاصلاح فيها ويدأب

فأصغى لشكواها وزيرا ونائبا     وعالجها منه الطبيب المجرب

وابعد مرمى حبها في شبابه      وجاهد في اسعادها وهو اشيب

لئن كنت، يا ساسون، غيبك الردى  لذكراك بالعلياء لا تتغيب

 

وفي الختام هل هذه المرثية حذفت عمدًا، أم وراء عملية حذفها تغييب صفحات من تاريخ العراق الحديث؟

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب