news-details

سيف بن ذي يزن قاهر الأحباش| علي هيبي

 

العظماء (19)

 

//سيبقى اليمن سعيدًا:

عاد اليمن اليوم بلدًا عربيًّا، فقيرًا، مضطربًا، لا ينعم بأيّ استقرار، يئنّ تحت وطأة عدوان أميركيّ وحشيّ تنفّذه أسنان ومخالب عربيّة رجعيّة فاسدة، وحوشها قبيلة الفساد والظّلام والتّرف، زعامة مملكة العار والخيانة الّتي تحكم الآن في "الحجاز" حيث أسمى مقدّساتنا وأطهرها، فتدنّسها ولا تستطيع أن تحميها من "أبرهة ترامب" كما حماها "عبد المطّلب بن هاشم" من "أبرهة الأشرم"، فمن يفرّط بأولى القبلتيّن "القدس الشّريف" فسيفرّط بثانيهما وثالثهما إلى آخر المقدّسات، إنّها مملكة الجاهليّة الأولى والثّانية والثّالثة والرّابعة و....، بحكّامها وملوكها الأذلّاء الخانعين بقصورهم وقصورهم لدولة الطّاعون الأميركيّ في "البيت الأبيض" الّذي يحتقر كلّ شيء فيهم، ولا يعزّ إلّا ذهبهم الأصفر والأسود، إنّها الطّغمة الحاكمة السّعوديّة الوهّابيّة الظّلاميّة مذ كانت إلى يوم الدّين. ولكنّ اليمن سيبقى سعيدًا، أشمّ العرنين، كريمًا رغم أنوف من لا أنفة لهم ولا كرامة عندهم!

هكذا كان اليمن في الرّبع الثّاني من القرن السّادس الميلاديّ يئنّ تحت عدوان حبشيّ وحشيّ بدعم إمبراطوري رومانيّ دنس، ليس فيه من المسيحيّة شيء، كما يئنّ اليمن الآن تحت هجوم سعوديّ وخليجيّ وحشيّ أشدّ دنسًا، ليس فيه من الإسلام شيء بدعم إمبرياليّ أميركيّ وغربيّ دنس، ليس فيه من المسيحيّة شيء كذلك. وأحرار اليمن قديمًا ينتظرون ويراقبون ويقاومون بقيادة الملك العظيم "سيف بن ذي يزن" الرّافض والمقاوم للاحتلال وبدعم فارسيّ ينتصرون، وأحرار اليمن اليوم ينتظرون ويراقبون ويقاومون ويضربون العدوّ بقيادة "عبد الملك برهان الدّين الحوثيّ" المقاوم للعدوان وبدعم إيرانيّ وسينتصرون هذه المرّة على العدوان السّعوديّ - الأميركيّ من "صنعاء" سيتصورون كما انتصر أجدادهم أوّل مرّة على الغزو والاحتلال الحبشيّ من "صنعاء" أيضًا.   

 

//أسياد وعبيد:

عندما كنت في خضمّ كتابتي لهذا النّصّ أمسكت بجريدة "الاتّحاد" وقرأت مقالة كتبها صديقي "محمّد بركة" رئيس لجنة المتابعة العربيّة العليا (صفحة 2) بعنوان "ملاحظتان في زمن الكورونا" وقد أعجبني توصيفه للحالة الرّاهنة والواقع المعيش تحت شبح هذه الجائحة ومستغلّيها المهيمنين المتغوّلين في الاحتكارات الرّأسماليّة، ونقلًا لفقرة ممّا جاء فيها: "هذا الواقع قد يعيد إنتاج مجتمع العبيد والأسياد بشكل عصريّ وجديد مع تطويع الإمكانيّات الإعلاميّة الهائلة العابرة للقارّات لخدمة المشروع الجديد". وأنا أعتقد بعد موافقتي لرأيه وتعليقًا عليه أزيد، لو تسنّى لِـ "ترامب" وسياسة دولته/ إمبراطوريّته العسكريّة الاستغلاليّة وهيمنته الاقتصاديّة وقدراته الإعلاميّة أن يحقّق ذلك اليوم بمساعدة مجروراته في العالم العربيّ كالسّعوديّة ودول الخليج الذّليل، وفي أميركا اللّاتينيّة كأنظمة الدّمى الأميركيّة في بوليفيا (قبل الانتخابات الأخيرة) وهندوراس والبرازيل، لو تسنّى له الآن لفعل ذلك بلا تردّد وأعاد العالم إلى التّقسيمة الّتي يرغب فيها: قلّة من الأسياد المسيطرين المخدومين وكثرة من العبيد مسلوبي الإرادة، الّذين يخدمونهم بالسّخرة أو باللّقمة بلا كرامة وبلا حرّيّة وبلا أيّ حقوق تُذكر، هذا إذا بقي من العبيد الكثير ولم يتعرّضوا للإبادة بالكورونا ظاهرًا وبالأسلحة الفتّاكة المرئيّة وغير المرئيّة فعلًا، لأنّ تحقيق الأرباح الماليّة وفقًا لآلة التّفكير الاقتصاديّة "التّرامبيّة" وأرباب المال صارت في هذا الزّمان الأعوج والأهوج أهمّ من حياة البشر. ليس المهمّ كم يعيش من النّاس أو يموت بل المهمّ هو كم نربح من المال من حياتهم أو موتهم، وعند هؤلاء الأرباب الوحوش المجرمين موت النّاس يدرّ ربحًا أكبر.

يجب تصحيح هذا الاعوجاج الحيوانيّ وإعادة الزّمان إلى رشده الإنسانيّ أيّها العبيد!  

كما كانت الإمبراطوريّات القديمة: الفارسيّة والرّومانيّة قبل الميلاد وبعده، كذا العقليّات الاستعماريّة البريطانيّة والفرنسيّة والألمانيّة في منتصف القرن العشرين، والآن في الرّبع الأوّل من القرن الحادي والعشرين تأتي هذه السّياسة والهيمنة أشدّ شراسة وإجرامًا ونهبًا. ولنا في الحرب على اليمن الآن أوضح نموذج لهذه الوحشيّة الإرهابيّة الاستغلاليّة الّتي تبغي السّيطرة على النّفط والثّروات وعلى "باب المندب" والبحر الأحمر والمنافذ المائيّة ومحاصرة إيران وتدمير الشّام والعراق وتطويع كلّ العرب خدمة للمشاريع الصّهيو – أميركيّة، لتصبح المنطقة مهدًا وثيرًا لإسرائيل تنام فيه آمنةً مطمئنّةً بمزيد من سياسة الاستيطان والضّمّ والهيمنة، كما ينام رضيع في حضن أمّه في ليلة عربيّة ساجية القصور لا حراك فيها، لا ذئب يعوي ولا جرو "ينعوص" ولا قطّ يموء. هكذا كان الفكر الاستعماريّ المتوحّش منذ فجر التّاريخ ولم يقلع ولن يقلع عن وحشيّته إلّا إذا ثارت الشّعوب ضدّ الوحش ومن أجل حقوقها الأساسيّة في الاستقلال والحرّيّة والحياة الكريمة، تمامًا كما فعل شعب اليمن قديمًا ضدّ الاحتلال الحبشيّ وكما يقاوم الآن ضدّ الهيمنة الأميركيّة ومجرورتها السّعوديّة الخنوعة، وتمامًا كما قاومت الشّعوب في شمال أفريقيا وجنوبها وفي أميركا اللّاتينيّة وفي آسيا وشبه الجزيرة الهنديّة والهند الصّينيّة، حتّى طردت المحتلّين، وتمامًا كما يتصدّى الشّعب الفلسطينيّ الآن للاحتلال الإسرائيليّ الغاشم والظّالم، ولن يدع هذا الاحتلال ينام مطمئنًّا آمنًا حتّى لو طالت اللّيالي العربيّة السّاجية في القصور الملكيّة والجمهوريّة.                 

 

//إنّه اليمن السّعيد:

إنّه اليمن السّعيد من الأزل إلى الأبد، يمن عريق بحضارته وأمجاده ورجاله الأشدّاء الّذين قاتلوا أعداءه ببسالة وقاوموا وظهورهم إلى الجدران محتلّي الوطن الحبيب ومدنّسي ثراه الطّاهر، أولئك هم الّذين شيّدوا الحضارة وأتقنوا فنون العمران ووفدوا إلى التّاريخ من سدّ "مأرب" وقصر "غمدان" وانتصارات العظيم "سيف بن ذي يزن" على ممالك الطّاعون والأخاديد القديمة "قُتل أصحاب الأخدود"، لم يستكينوا لضيم ولا خضعوا لمعتد أثيم، بينما تخضع لأسيادها القبيلةُ السّعوديّة برمّتها ورممها وأموالها وبترولها وشماغات العار على رؤوس ملوكها وعباءات الخزي الّتي تلفّعهم من أساسهم وتنتهي بعُقُل الدّنس المقصّبة الّتي ازدادت دنسًا من راسهم.

إنّه اليمن الشّقيق المنبوذ من أشقّائه، هل يبتغون إلقاءه في غياهب الجبّ للعبث بمقدّراته وثرواته وبيعها بثمن بخس أمام عينيْ ذليل مصر الجديد العسكريّ اللّامع لعزيز أميركا وعظيم اليهود! إنّه اليمن عصيّ الدّمع وعصيّ على الكسر، الوافر العزيمة والثّبات والقادر على القتال حافيًا عاريًا، والقادر على ضرب العدوّ العربيّ الخليجيّ المطبّع وإيلامه، والقادر على عدم تمكين العدوّ غير العربيّ من راء المحيطات من تحقيق أطماعه وبرامج هيمنته، إنّه اليمن المتروك من إخوته في صحرائهم اليهوديّة ولا منّ ولا سلوى، ولكنّه سيبقى سعيدًا بفُتاته، بما بقي من خيراته، بصموده، بإيمانه الواثق بالنّصر، بالمساعدات المعنويّة والإمداديّة المتواضعة من أنصاره القليلين. إنّه اليمن المقاوم المنبوذ كفلسطين المتروكة سبيّة في صحراء الأرباع الخالية العربيّة، تتقاذفها أمواج البرامج الخيانيّة والتّطبيعيّة والصّفقات ذات القرون الناطحة للسّياسة الصّهيو – أميركيّة السّوداء القادمة من وراء البحار، من بيت الثّور الأبيض.

إنّه اليمن الّذي ذاد عن فلسطين بفرقة من الضّبّاط والجنود كجزء من جيش "الإنقاذ"، وقد ذكر الكاتب "سعيد نفّاع" في كتاب "جيش الإنقاذ وظلم ذوي القربى" وهو دراسة تاريخيّة لنشاطات هذا الجيش في فلسطين خلال النّكبة ومحاولاته العسكريّة الوطنيّة الصّادقة لإنقاذها، كتب وقد تشكّل هذا الجيش من متطوّعين عرب وغير عرب، وكانت الفرقة اليمنيّة سريّة هامّة من سريّاته، رابطت في تلّة "أبو شريتح" الواقعة غربيّ قرية "معليا"، لقد كانت هذه الفرقة اليمنيّة مصدر قلق للقوّات الصّهيونيّة الّتي قرّرت مهاجمتها ليلًا، فكمن اليمنيّون البواسل للقوّة الصّهيونية وقتلوا ستّة من أفرادها وجرحوا 21، وقد كانت هذه الفرقة آخر من غادر منطقة "ترشيحا"، وهي الّتي صدّت الكتيبة (92) من اللّواء التّاسع الصّهيونيّ (عوديد) وأبلت في قتاله بلاء منقطع النّظير، ويعود إليها الفضل في تغطية انسحاب كلّ فرق جيش "الإنقاذ" من المنطقة بلا خسائر. (هذه المعلومات استمدّها الكاتب من مصادر تاريخيّة اسرائئيلية وليست عربيّة). جيش "الإنقاذ" هذا كان من الممكن أن ينتصر في الحرب على فلسطين لو آزره العرب رسميًّا وشعبيًّا ولم يشلّوا مقاومته وقتاله وإنجازاته العسكريّة، وكان يمكن لهذا الجيش تغيير الوعي الّذي ساد ويسود الآن بالذّات وأكثر من أيّ وقت مضى، أنّه من غير الممكن الانتصار على إسرائيل المدعومة أميركيًّا، ولم يجد أصحاب ذلك الوعي الانهزاميّ طريقًا إلّا الانبطاح والخنوع والتّطبيع المتهافت وكيل الاتّهامات المغرضة لهذا الجيش. ولكن هذا هو اليمن السّعيد وسيبقى سعيدًا، عزيزًا رجوليًّا بطوليًّا بمقاومته وجنوده وعروبته واختياراته الوطنيّة والقوميّة في وقت عزّ فيه الرّجال.  

 

//هل يعيد التّاريخ نفسه؟

كثير ما يتردّد هذا السّؤال. اليمن اليوم يتعرّض لعدوان سافر وجريمة نكراء، ترتكب فيه المجازر بحقّ المدنيّين من أطفال ونساء وشيوخ وتهدم المساجد والمعابد، حتّى المآتم والأعراس لا تسلم من القصف، وتنهب الثّروات وتغلق الحدود والموانئ والمطارات، ويمنع الطّعام والماء والدّواء، وتدمّر المعالم الحضاريّة والسّياحيّة والمنشآت الاقتصاديّة والمعاهد والمدارس والآثار الثّمينة الّتي لا تقدّر بمال، وحوش الأحباش الّذين ادّعوا المسيحيّة دينًا والمسيحيّة منهم براء فعلوا هذا التّخريب من قبل ألف عام وما زال التّخريب مستمرًّا على يد وحوش أحباش جدد يدّعون الإسلام دينًا والإسلام منهم براء. لا أحد يؤيّدها ويقف معها وقوفًا سياسيًّا واضحًا ولا أحد يساند حقّها في المقاومة وقتال العدوّ حتّى كفّ يده المجرمة إلّا إيران، سوريا وحزب الله اللّبنانيّ وبموقف شبه معلن يمدّونه بقليل من السّلاح والإمدادات الإنسانيّة المختلفة. ولكن مع اليمن تقف شعوب العالم كلّه وكلّ الأحاسيس الإنسانيّة. عندما زار "سيف بن ذي يزن" "كسرى" الفرس ليمدّه بمعونة عسكريّة لقتال الأحباش المحتلّين لبلاده رفض وأمدّه بالمال فقط، ولدى خروج "سيف" من القصر نثر المال على العامّة من أهل فارس في الطّرقات، فسمع "كسرى" بذلك فاستدعاه مستفسرًا، فقال "سيف" بشجاعة عزّ نظيرها: "لم آتِ لاستجداء المال فجبال بلادي ذهب وفضّة". لهذه المواقف الشّمّاء ولذلك التّاريخ المجيد ولهذه البطولة الجسورة والرّجولة النّادرة سيبقى اليمن مهما اشتدّ أوار الظّلم والعدوان ومهما حلك ليل الجريمة وادلهمّ، سيبقى اليمن سعيدّا. ورحم الله الشّابّيّ التّونسيّ إذ قال:

"إذا الشّعبُ يومًا أرادَ الحياةَ              فلا بدَّ أنْ يستجيبَ القدرْ

ولا   بدَّ    للّيلِ   أنْ   ينجلي               ولا  بدَّ  للقيْدِ  أنْ  ينكسرْ"

والشّعب اليمنيّ يريد الحياة وسيكون قادرًا على جلاء اللّيل والأعداء، وسيكون قادرًا على كسر قضبان سجونه، وسيقهر كلّ العوائق وسيتخطّاها إلى الفجر المشرق بنور الحياة الكريمة وغد الحرّيّة السّاطع، حينذاك لن يستطيع القدر أن يتخلّف عن ميعاد استجابته لإرادة اليمن العظيمة وسيقول بخضوع: "آمين"!       

 

//الحبشة والصّراع على اليمن:

عندما نذكر الحبشة لا يمكن ألا نشرّفَ وجداننا وخاطرنا بذكر ملكها وعظيم قومها الملك "النّجاشيّ أصحمة بن أبجر" الذي استقبل المسلمين وأواهم في بلاده وحماهم من الاضطهاد القرشيّ، وقد مات قبل الرّسول بسنتيْن سنة (630 م) وصلّى عليه الرّسول عند وفاته صلاة الغائب لجلال دعمه للحقّ ولتقواه ولعدله. ولا يمكن أن لا نذكر أشرف أهلها وأسبقهم إلى الإسلام ذاك الحرّ الأسود العظيم "بلال بن رباح" الذي لم تلوِ صخرة التّعذيب الصّمّاء قوّة ذراعه ولم تليّن موقف صدره الصّلب، بل ظلّ متمسّكًا بأقوى المقولات ثوريّة "أحد . . أحد".

"النّجاشيّ" لقب ملوك الحبشة كقيصر عند الرّوم وكسرى عند الفرس وخاقان عند التّرك وفرعون عند مصر. وليس للنّجاشيّ "أصحمة" علاقة باحتلال اليمن سنة (525 م) لأنّه عندما حكم الحبشة كان عهد الغزو الحبشيّ لليمن قد انتهى. ومن خلال استعراض موجز لتاريخ مملكة "حمْير" الّتي استقرّت في الجنوب الغربيّ للجزيرة العربيّة، أي في مركز دولة اليمن اليوم والّتي امتدّ نفوذها إلى حضرموت وكانت "ظفار" عاصمة لها مثلما كانت "مأرب" عاصمة مملكة "سبأ" الّتي سبقتها، سنرى أنّها مملكة عربيّة جنوبيّة يعود نسب أهلها وملوكها إلى العرب الجنوبيّين اليمنيّين القحطانيّين وينتسبون إلى جدّهم "يعرب بن قحطان".

كانت بلاد اليمن في عهد مملكة "سبأ" الّتي حكمت لأكثر من ألف عام تنعم باستقرار سياسيّ ورخاء اقتصاديّ وازدهار عمرانيّ اعتمد على مصدريْن: الزّراعة التي برعوا فيها من خلال إتقانهم لاستخدام المياه وبناء السّدود (سدّ مأرب) والتّجارة مع بلاد مصر والشّام والعراق، لقد سمّى الرّومان هذه البلاد "بلاد العرب السّعيدة". وظلّت على هذا الحال من الهدوء والاستقرار والأمان حتّى تصدّع "سدّ مأرب" وتدمّرت الزّراعة وانهدمت البيوت واندثرت مملكة "سبأ"، وكما جاء بالمثل: "تفرّق القوم أيدي "سبأ" وهاجر من بقي من سكّانها إلى البلاد القريبة، وقامت على أنقاضها مملكة "حمْير" اليمنيّة العربيّة الجنوبيّة.

نشأت المملكة الحمْيريّة في مركز بلاد اليمن وعاصمتها "ظفار"، وقد امتدّ حكمها لحوالي 650 عامًا، حتّى فتحها المسلمون. في هذه الفترة كانت مملكة "حمْير" بعكس مملكة "سبأ"، مسرحًا للصّراعات السّياسيّة والدّينيّة والأطماع الاقتصاديّة والسّيطرة على طرق التّجارة إلى مصر وأفريقيا والهند وبلاد الشّام والعراق. قد يكون الدّين مجرّد ذريعة للقيام بالغزو بين الدّول، ولكنّ في صميم دوافع هذا الغزو وأيّ غزو في التّاريخ القديم والحديث أهدافًا للسّيطرة السّياسيّة والهيمنة العسكريّة بهدف تحقيق أطماع اقتصاديّة وأرباح مادّيّة من ثروات البلاد المحتلّة وعلى حساب أهلها، خاصّة إذا كانت هذه البلاد ضعيفة بلا سند يدعمها ولا ظهر يحميها.

كانت بلاد اليمن محلّ صراع وتنافس بين قوّتيّن: الدّولة السّاسانيّة في بلاد فارس والدّولة البيزنطيّة في بلاد الرّومان، وفي هذه الفترة كانت دولة الحبشة التي تأسّست سنة (325 ق.م) ودانت بالمسيحيّة في القرن الرّابع الميلاديّ وبدأت بالأفول في القرن السّابع، بعد ظهور الإسلام وانتشاره، كانت تدعى مملكة "أكسوم" وتعتبر القوّة الثّالثة في العالم بعد الاثنتيْن، أدخل الرّومان المسيحيّة إلى بلاد اليمن لتشكّل نفوذًا سياسيًّا لهم، في هذه الآونة أيضًا انتشرت اليهوديّة، ولاقى اليهود الظّلم والتّنكيل على يد الرّومان، وبالرّغم من ذلك قوي واتّسع نفوذ اليهود في اليمن فلجأوا إلى الانتقام والتّنكيل بالمسيحيّين يؤازرهم في ذلك الفرس، وقد وصل الأمر بالملك الحمْيريّ اليهوديّ "ذي نواس" (468 – 527 م) أن تعامل بقسوة رهيبة مع المسيحيّين الّذين رفضوا التّحوّل إلى اليهوديّة، فحفر الأخدود وألقاهم في النّار، "قتل أصحاب الأخدود، النّار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود" (القرآن الكريم، سورة البروج، الآية 4 - 6) ويقال إنّه قتل حرقًا في الأخدود 20 ألفًا ونجا واحد استطاع الهرب وإبلاغ الرّومان بتلك المحرقة.

 

//تفاقم الصّراع واحتلال اليمن:

لم يستطع الرّومان غزو اليمن لمساندة المسيحيّين وللثّأر من اليهود وذلك لبعدها، فأوعزوا للنّجاشيّ الحبشيّ الحاكم آنئذٍ (ليس النّجاشيّ أصحمة بن أبجر) وكانت الحبشة تدين بالمسيحيّة، أوعز الرّومان له وحرّضوه على غزو اليمن مستغلّين علاقة الانتماء الدّينيّ وبدافع السّيطرة على الطّرق التّجاريّة، فجرّد "النّجاشيّ" جيشًا من 70 ألف مقاتل أقلّتهم السّفن فقطعوا البحر وحطّوا على شواطئ اليمن سنة (525 م) بقيادة قائد الجيش "أرياط"(توفّي سنة 540 م تقريبًا) واستطاعوا احتلالها وحكمها لأكثر من 70 عامًا، حتّى سنة 599 م). لقد كانت هذه الحملة الحبشيّة وبالًا ليس على اليمن فقط بل على الجزيرة العربيّة كلّها. انتصر "أرياط" على "ذي نواس" واستتبّ الأمر للأحباش حتّى نشب الصّراع الدّاخليّ بين "أرياط" وبين "أبرهة الأشرم" (516 – 570 م) انتهى بمقتل الأوّل. دانت اليمن لحكم "أبرهة" فأعلن عن نفسه ملكًا على اليمن منشقًّا عن حكم "النّجاشيّ" في الحبشة، فعاث في البلاد فسادًا وظلمًا ونكّل بأهلها وهدم حضارتها ومبانيها العمرانيّة وقصورها "غمدان" وَ "سجليق" وَ "سون" وبنى له كنيسة "بيعة القلّيس" في "صنعاء" لتجذب عرب الجزيرة للحجّ إليها بدل "الكعبة" في "مكّة"، أدّى ذلك إلى استياء العرب من هذا السّلوك الاستفزازيّ فقام نفر منهم بتدنيس البيعة في "صنعاء"، الأمر الّذي حدا بِ "أبرهة الأشرم" لغزو "مكّة" بهدف هدم "الكعبة" فيها سنة (570 م) عام "الفيل" الذي ولد فيه النّبيّ "محمّد"، وكان ما كان من أمر الأحباش أصحاب الفيل وأمر الله الّذي أرسل طيرًا أبابيل رمتهم بحجارة من سجّيل فجعلتهم كعصف مأكول، وعاد "أبرهة الأشرم" مدحورًا مهزومًا يجرّ أذيال الخيبة، ومات سنة (570 م) ويا للصّدف يموت "أبرهة" الّذي أراد هدم "الكعبة" في السّنة الّتي ولد فيها "محمّد" النّبيّ العربيّ الّذي جعل من "الكعبة" أوّل حرم بين ثلاثة وقبلة يستقبلها المسلمون في صلواتهم كلّ يوم خمس مرّات، ولا حجّ ولا عمرة بلا زيارتها. وما دام الهدم بالهدم يُذكر فقد أقدمت إسرائيل على هدم قرية "العراقيب" البدويّة في "النّقب" 177 مرّة حتّى الآن وفقًا لسياسة إفراغ النّقب من سكّانه العرب، وقام الأهالي ببنائها من جديد كلّما هدمتها "دولتهم" إسرائيل. وقد كتبت في هذه المناسبة قصيدة بعنوان "حيّ العراقيب" ذكرت فيها "أبرهة الأشرم" نشرتها في ديواني الأخير "أنا مع الحسين ولست مع يزيد" صدر سنة (2020) مطلعها:

"حيِّ العروبةَ في أرضِ العراقيبِ    حيِّ الفوارسَ ركّاب السّراحيبِ"

وقد قلت فيها:

"يا ناهبَ الأرضِ لنْ تحميكَ يابسةٌ           حتّى انْ تلفلفْتَ في سورِ الأكاذيبِ

 يا  هادمَ   البيتِ  اذكرْ  فيلَ  أبرهةٍ           خابَتْ  مراميهِ  بينَ  الطّيرِ  والنّيبِ

دمّرْتَ  مدرسةً   في  شكلِ  مصطبةٍ           ما  سرُّ  معهدِكُمْ  نهجُ  الحواسيبِ

لنْ نتركَ الأرضَ لوْ  صارَتْ  مدافنَنا            الموتُ أشرفُ  منْ  ذلِّ  الأطاييبِ

يا ابنَ العراقيبِ منْ  أصلابِ تربتِها            أمّا   الجديدُ    فأطفالُ   الأنابيبِ"

 فمتى سيموت المفرّطون بأولى القبلتيْن وثالث الحرميْن "القدس الشّريف" والمفرّطون بالقرآن والمسجد الأقصى مسرى الرّسول ومعراجه (الهيكل وفق التّرجمة السّعوديّة العبريّة للقرآن الكريم) الّذي بارك الله حوله. سيندثرون كما اندثرت مملكة "سبأ" وسيتفرّقون في هذه المرّة "أيدي سعود". 

 

//المقاومة اليمنيّة للاحتلال الحبشيّ:

منذ وطئت القدم الحبشيّة الغازية أرض اليمن لاقى الغزو الذي جاء من البحر مقاومة ضارية من كافّة اليمنيّين، سواء من المسيحيّين أو من اليهود أو من الوثنيّين، ورغم قوّة الجيش الحبشيّ المحتلّ كانت هناك محاولات يمنيّة دؤوبة للمقاومة حتّى زمن حكم "أبرهة الأشرم" الّذي عاث في اليمن فسادًا ودمارًا وتميّز بالغطرسة والتّنكيل والبطش، ورغم أنّ تلك المحاولات لم تنجح في بداياتها في التّخلّص من الاحتلال، إلّا أنّها لم تقلّل من إيمان اليمنيّين المظلومين بحتميّة الانتصار وطرد المحتلّ عن الأرض اليمنيّة. بعد "أبرهة الأشرم" تسلّم الحكم ابنه "يكسوم" لفترة قصيرة ثمّ تسلّم زمام الحكم أخوه "مسروق بن أبرهة"، وهو الأخ غير الشّقيق لِ "سيف بن ذي يزن" وقد كان أشدّ بطشًا وتنكيلًا وأشدّ تدميرًا وفسادًا، فتنامت روح العداء في نفوس اليمنيّين ووجدانهم للأحباش وتزايد معها الوعي اليمنيّ بضرورة المقاومة حتّى النّصر. كان اليمنيّون يدركون أنّهم لا يستطيعون بالاعتماد على قدراتهم الذّاتيّة من دحر العدوّ الغازي، وذلك لما كان يدبّ بينهم من خلافات قبليّة ودينيّة تُذكيها القوى الاستعماريّة العظمى الطّامعة بخيرات اليمن وثرواته وموقعه الاستراتيجيّ على طرق التّجارة العالميّة آنئذٍ، وكذلك بسبب الإمكانيّات الهائلة والعدّة والعدد والسّلاح والقدرات الإمداديّة الكبيرة الّتي يمتلكها جيش الاحتلال الحبشيّ. ولذلك تطلّع اليمنيّون إلى معونة من قوّة دولة عظمى تساندهم ضدّ الأحباش، مع أنّ القبائل اليمنيّة مجتمعة كانت تشدّد المقاومة ضدّ الغزاة.

في هذه الظّروف العصيبة وغير المحتملة من التشتّت والضّعف والانهيارات في "حمْير" وفي أثنائها حالة من الإحساس بالمهانة والذّلّ بسبب الحكم الجائر لِ "أبرهة" وأبنائه، في هذه الأحوال ظهر "سيف بن ذي يزن" وقد سبى "أبرهة" أمّه "ريحانة بنت ذي جدن" من أبيه "ذي يزن" بالقوّة وأنجبت له "مسروق" القائد الّذي قاد الأحباش بعد أبيه حتّى قتل في معركة "حضرموت" أمام المقاومة اليمنيّة الباسلة الّتي قادها أخوه غير الشّقيق "سيف بن ذي يزن". (يتبع)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب