news-details

شاعرٌ يعيش على خيوط الأمل | علا عويضة

في هذا الدّيوان، "عودة جفرا"، صوتٌ يرتفع من أنين هذا الواقع وصورٌ تخرج من وجه هذا المجتمع. يصوِّر الشّاعر مفلح طبعوني في قصائده الواقعَ ويعبِّر عن الأزمات التي يمرّ بها الإنسان.
     إنَّ مشاركة الكاتب في صراعات العصر إنّما هو المقتضى الأوّل للالتزام، فمدى التزام الأديب يتحدَّد بمدى ارتباطه بقضايا مجتمعه. يتميّز الأدب الملتزم بواقعيّته وبتصوير رؤية الأديب ومنهجه في الحياة. بكلمات أخرى، يعكس الأدب الملتزم العلاقة بين الأدب والحياة من جهةٍ وبين الأدب والأيديولوجيا من جهةٍ أخرى. العلاقة الأولى تشير إلى عدم انفصال الأديب عن مجتمعه حيث يصوّر المجتمعَ، ينقل تجربته، معاناته ويقدِّم بعض الانتقادات والتنبيهات. أمّا العلاقة الثّانيّة فتشير إلى عدم انفصال الأدب عن الأيديولوجيا؛ والأيديولوجيا تمثّل فكرًا ومواقف، والالتزام بفكرٍ وموقفٍ ما، يحمِّل العمل الأدبي وظيفةً اجتماعيّةً وثقافيّةً فيزيد من القيمة الفنيّة للعمل.
     صوّر الشّاعر مفلح طبعوني في قصائده الواقع بأبعاده المختلفة: السّياسيّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة؛ فنجده يكتب عن الوطن، الأرض، الإنسان، الحبّ، الطّرد والتهجير، النّضال، العنف والمرأة. 
وممّا جاء في المستوى الاجتماعي انتقاده لظاهرة استخدام المسدّسات في الأعراس (الديوان، ص 117- 118). وتجدر الإشارة إلى عنوان القصيدة "أعراسنا"، حيث يؤكّد انتماءه لهذا المجتمع، فهو لا يترفّع عن الآفات الاجتماعيّة ولا ينسلخ عن مجتمعه، بل يأخذ دوره في مواجهة هذه الآفات.
كما همس في قصيدةٍ أخرى إلى الفساد الاجتماعيّ والسّياسيّ:
"هيمنةُ الانتماءاتِ الفاسدة،
عتمةُ النّفعيّةِ المستدامة
وغبارُ الكوارثِ ينزُّ
من ضجيجِ الخطباءِ.." (الديوان، ص 32)
انتقد الواقع المشوّه، وأولئك الذين يتأتئون في نضالهم، أولئك الذين باعوا الوطن والقَناعات، يقول:
"يبيعون الموروث بالغموضِ
يستبدلون النزفَ بالورمِ
والقناعات بخرافاتٍ مهزومةٍ
والمعاناةَ بخيانةِ اللّيل للنهار
رداءةَ الارتزاق برحابةِ الهروبِ". (الديوان، ص 51)
     كما وجّه قلمه إلى أولئك الذين لا يملكون فكرًا واضحًا ويفاوضون على ما تبقّى لنا من خيام وعلى قضيّة اللاجئين (انظر الديوان ص 53). وجّه قلمه لكلّ جهةٍ يأكلها الفساد وتسري فيها الوشوشات؛ فالوشوشات "نوعٌ من الفساد" (ص 54)، تتمثّل بغيبوبة الفكر، بمتاحف الغباء المستورد وبالآفاق البائسة (راجع القصيدة ص 55).
     في ظلّ هذا الواقع اكتنس الشّاعر في صومعة الخجل؛ خَجِل من "تجاعيد خيبتنا"، "من ثرثراتِنا العارية" وفجّر قلقه صهيلا يطارد به النّفعيِّين المقنعِّين (راجع القصيدة ص 52).
     إنَّ تفجير هذا القلق منبعه الالتزام والانتماء. يسعى من خلال التّفجير إلى إيقاظ الضّمير الجمعيّ بهدف التّغيير؛ فالتغيير هو ما تسعى إليه الفئات الكادحة والمقهورة، ولذلك وظّف تقنيات تخدم هذه الرؤية، نحو: استخدام السّرد، توظيف الأسئلة الاستنكاريّة والتّكرار، وذلك بهدف تحديد الدّلالات المعنويّة والأيديولوجيّة.
     بالرّغم من الألم والصّراعات والحزن إلا أنَّ قصائد الشّاعر مفلح طبعوني مشحونةٌ بالإصرار والصّمود والثّبات. فالفكر الذي ينتمي إليه يأبى الهزيمةَ والاستسلام، بل يريد لنا أن ننفضَ المآسي ونخرجَ معافين محمَّلين بالأمل. لذلك، وفي ظلّ هذا الواقع المرير، لم تسقط منه القدرة على الحلم والاحتفال بالأمل، لم تسقط منه الإرادة، بل من هذا الواقع خرجَت جفرا:
"خرجَت من فتحاتِ الأزمانِ
......
خرجَت من أتعاب الأتراب" (الديوان، ص 24)
خرجت:
"تزرع كلّ حبوب العشقِ
تحصدُ أعشابَ السّمِّ". (الديوان، ص 28)

//اللّغة والأسلوب
نلحظ أنَّ قصائد طبعوني تتفاوت من حيث الطول، فبعضها لا يتجاوز الأربعة أسطر وبعضها الآخر يمتدُّ على عدّة صفحات، كما أنّها تتفاوت من حيث الوضوح والإيحاء. أمّا لغته، فبسيطة، غير معقّدة، نسج منها صوره الشّعريّة التي تتفاوت هي الأخرى في مستوى حبكها ونسجها.
     استخدم الشّاعر عدّة وسائل بلاغيّة، أبرزها التّشبيه والاستعارة بأنواعهما. كان للاستعارة الحظّ الاوفر في ديوان "عودة جفرا"، منها، على سبيل المثال لا الحصر، قوله: "مواقد الدّماغِ/ هاجرَتْ" (الديوان ص 72). لقد جعل الشّاعر للدّماغ مواقدَ، وهي ليست لها، على سبيل الاستعارة المكنيّة؛ والمواقد تحمل دلالة الاشتعال، أراد الحياة، ثمّ نسبَ لهذا التّركيب الاستعاري الفعل "هاجرَتْ"، أراد أنَّ هذا الدّماغ لم يعُد حيًّا بل أصبح ميْتًا. ونجد لدلالة الاشتعال صدى في القصيدة نفسها، إذ يقول: "أشعلْنا ذاكرتَنا/ دفنّاها/ ورقصنا حولَها/ فدفّنا/ وافترقْنا/ لم نعُد من الغياب" (الديوان ص 73). مرّةً أخرى يتلاعب الشّاعر بدلالات الاشتعال والسّكون ليثير معنى الموت! بدأ قوله بإشعال الذّاكرة ثمّ دفن الاشتعال أي أطفأه على سبيل الاستعارة الفعليّة.
    أمّا التّشبيه عند طبعوني فجاء بمعظمه مركّبا، إذ جعل أحد أطراف التّشبيه، المشبّه به، من الاستعارة؛ منها قوله:
لونُ التراب
كلونِ الرّكودِ" (الديوان ص 80)
وهل للركود لون؟! لقد جعل الشّاعر للركود، وهو شيء مجرّد غير حسيّ، غير مرئيّ، لونًا، على سبيل الاستعارة المكنيّة، ثمّ قارن بين لون التّراب ولون الرّكود من خلال التشبيه المرسَل المجمَل. أراد من خلال هذه الصّورة البلاغيّة التشبيهيّة أن يتجاوز المقارنة نحو التأكيد: إنَّ التّراب في حالة ركود، وقد أكّد مراده هذا من خلال عنوان القصيدة "ركود التّراب". 

     كذلك، برز أسلوب التَّكرار بنوعيه اللّفظي والمعنويّ؛ والتكرار وسيلةٌ بيانيّة يلجأ إليها الشّاعر لتأكيد وإبراز فكرةٍ ما. وممّا جاء في التّكرار، قول الشّاعر في قصيدة "عودة جفرا":
"مَن لم يعرفْ جفرا
فليسبحْ فوق الرّمل ..".  (الديوان، ص 20)
"مَن لم يعرفْ جفرا
.....
فليسكُنْ في القاع"  (الديوان، ص 20- 21)
مَنْ لم يعشَقْ جفرا 
فليبقَ في ظلِّ القهر". (الديوان، ص 21)
لقد كرّر الشّاعر جملة الشّرط، والشّرط يدلّ على الحال أو على تحقّق افتراض الحال الذي يحمله جواب الشّرط إذا تحقّق فعل الشّرط. كما يحمل في باطنه نصيحةً للآخرين.
وجاء في القصيدة نفسها:
"أعرف جفرا تسكنُ فوق تلالِ الوجدِ
أعرفها من بوحِ العشقِ
....
أعرفها تسكنُ مع قلقِ الصّوان" (الديوان، ص 21)
وجاء بصيغة الجمع:
"نعشق جفرا"، "نعرف جفرا/ نعرفها كتقاسيمِ الخدّ" (الديوان، ص 23)
إنَّ هذا التَّكرار جاء ليؤكّد معرفةَ الشّاعر بجفرا وعشقَه لها، إذ يرى بذلك ضرورةً، فكلّ فردٍ لم يعرف جفرا ولم يعشقها لهو أسير الموت.
    وهذا ينطبق على قصيدة "جفرا" في الديوان نفسه (الدّيوان، ص 103- 109)، حيث نجد تكرارًا للفعلين: "أعرف" و"أعشق" بصياغتهما المختلفة. والتَّكرار، في هذه القصيدة، زاد من قوّة النّصّ وساهم في إبراز وتعزيز المعنى الذي يريده الشّاعر.
     ولا بدّ من الإشارة إلى أنَّ تكرار الفعلين "أعرف" و"أعشق" بصيغتهما المختلفة (منسوبين لجفرا) ورد في قصيدة أخرى للشاعر بعنوان: "جفرا تنجب أطفالا في سخنين"، جاء في مطلعها:
"أعشق جفرا منذ البدء
أعشق جفرا حتى الموت
أعرف جفرا تسكن فوق القمم النّاريّة
أعرفها تسكن في المدن البرقيّة
حيث الرّيح الرعديّة
أعرف جفرا تسكن قلب الليمون
أعرفها تسكن أغصان الزيتون
......"
وجاء في المقطع الأخير منها:
"أعرف جفرا تسكن فوقَ القمم النّاريّة
أعرفها تسكن في المدن البرقيّة
حيث الرّيح الرّعديّة
...............
...............
أعرفُ جفرا تعشق أطفالاً قتلوا الموت الأيلولي
تعشق أطفالا صلبوا الحزن البيروتي
أعرف جفرا تنجب أطفالا في سخنين
وتربي أحفاد صلاح الدّين
أعرفها يا عزّ الدّين." (الاتحاد، 1 تموز 1977 ص 5)

     إنَّ التَّكرار اللّفظيّ والمعنويّ، عند طبعوني إنّما هو تكرار مقصود في مستواه الدّلالي، الإيقاعي والنّفسي. إذ ساهم في تلاحم أجزاء القصيدة الواحدة، كما ساهم في تأكيد وسبك المعنى الدّلالي في قصائد جفرا المختلفة. وللتكرار جماليّة لغويّة وأخرى صوتيّة تعود إلى الجانب الإيقاعي الذي يؤثّر على المتلقي، إذ يتجاوز التّكرار الدّلالة المرتبطة بالصّيغة والتركيب إلى المستوى الصّوتي والنّفسي، حيث يضيء الشّاعر من خلال التَّكرار عما يختلج في أعماقه وفي ذهنه.
     ومن الظّواهر الأسلوبيّة البارزة في ديوانه، إدخال (ال) الموصولة بمعنى "الذي" على الفعل الماضي. لقد أجاز بعض اللّغويين دخولها على الفعل المضارع، وهو مخصوص بالشّعر أي لضرورة شعريّة، نحو الرّماني في كتابه "معاني الحروف". بالمقابل، هناك من أشار إلى أنّ هذا اختيارًا وليس اضطرارًا نحو البغدادي في مؤلّفه "خزانة الأدب" وسيبويه (كما جاء في كتاب شرح الكافية الشافية لجمال الدّين الجيّاني).
    إنَّ دخول (ال) الموصولة على الفعل المضارع لها جذور عربيّة قديمة، وقد قيل إنّها لهجة قبيلة ما، وما زالت مستخدَمة في عصرنا في العراق وبعض دول الخليج. ويبدو أنَّ دخول (ال) على الفعل المضارع جاء من باب التسهيل والتيسير في اللّغة، كما في لهجتنا العاميّة حيث نقول "الي" بدلا من "الذي". وهناك من اعتبر(ال) مستقلة وليست جزءًا من "الذي".
     تجاوز مفلح طبعوني ما أجازه اللّغويون وأدخل (ال) على الفعل الماضي والأفعال النّاقصة. لم يكن هذا التوظيف موفّقًا في بعض المواضع، نحو "الهمَّشتني" في قوله: "تفيقُ التعاسةُ الهمَّشَتني" (الديوان، ص 47). إذ حشد الشّاعر مجموعةً من الكلمات في كلمةٍ واحدة، مما أثّر على انسيابيّة الموسيقى ووصولها بعذوبةٍ إلى أذن المتلقي، كما أنّنا لم نجد أيّة ضرورة شعريّة لالتزام هذه الصّيغة. وكذا الأمر في قوله:
"ومباركة المزاريب
السلمتنا
لفجرٍ ضحوك". (الديوان، ص 114)
نلحظ أنَّ دخول (ال) الموصولة على الأفعال المذكورة أحدثَت ثقلا وكسَرَت انسياب الموسيقى في آذاننا. بالمقابل، جاء دخول (ال) مقبولا في قوله: "كخجلٍ يحومُ فوق الكانت بيادرنا" (الديوان، ص 61)، حيث جاءت قصيرة وخفيفة، خاصّةً أنَّ الشّاعر قصد التّعبير عن الزّوال والاختفاء، فأزال (التي) واقتصر على (ال) وكأنّ الكلام يغادر فمك وينساب بطريقةٍ عذبةٍ.
وعليه نقول، لا بدّ عند إدخال (ال) الموصولة على لفظةٍ ما أن نحسن توظيفها فنصهرها في اللَّفظ والمعنى لتكون خفيفةً ومنسجمةً مع النّصّ.

//جفرا
جفرا من التّراث العربيّ الفلسطينيّ؛ أمّا راعي الجفرا فهو أحمد عبد العزيز علي الحسن (1915- 1987) ويُعرَف باسم أحمد عزيز، من قرية الكويكات- عكا، وكان قد طلب يد ابنة خاله من أبيها لكنَّ الفتاة رفضَت لأنّها كانت تحبّ رجلا آخر. عندها هام أحمد عزيز بالفتاة وأخذ يغني لها في الأعراس تحت اسم رمزيّ هو جفرا، وظلّ يردّده في أغانيه الشّعبيّة، كان ذلك عام 1939.
وممّا جاء في أغنية الجفرا:
جفرا ويا هالرّبع بين البساتين
مجروح جرح الهوى ويا مين يداويني
ويا حاملة الجرّة حطّيها واسقيني
بلكي على الله أشفى من شربة الميّة.
وجاء:
جفرا ويا هالربع / ريتك تقبريني
تدعسي على قبري/ تطلع ميرميّة.

كما وظّف الشّاعر الشّعبي الفلسطيني "جفرا" في الأغاني الشّعبيّة الوطنيّة، ليصوّر معاناته من الاحتلال، مقاومته والإصرار على البقاء في أرض الوطن. منها:
جفرا ويا هالربع/ بدي أرض بلادي
والقعدة تحلا والله/ بين أهلي واصحابي
كرمال عيون الوطن/ تحلا لي الشهادة
كرمال كروم الزيتون/ الروح مفدية.

     وممّن كتب الجفرا واشتهر بها كان عزّ الدّين المناصرة؛ حيث كتب قصيدته الشّهيرة "جفرا الوطن المسبيّ" عام 1976 في فتاةٍ فلسطينيّة أحبّها، هي جفرا النّابلسيّة، كانت تدرس في الجامعة اللبنانيّة واستُشهدت في غارة إسرائيليّة على بيروت.

       لم يكن ظهور جفرا في ديوان "عودة جفرا" هو الأوّل؛ إذ سبق أن نشر الشّاعر قصيدةً في صحيفة الاتّحاد عام 1977 بعنوان "جفرا تنجب أطفالا في سخنين". افتتحها باقتباس من قصيدة عزّ الدّين المناصرة:
"مَن لم يعشقْ "جفرا" فليشنق نفسه
مَن لم يعرفْ "جفرا" فليدفن رأسه".    (الاتحاد، 1 تموز 1977 ص 5)

      وتجدر الإشارة إلى أنَّ الشّاعر أدرج في ديوان "عودة جفرا" قصيدة أخرى بعنوان "جفرا" (الديوان، ص 104 - 109) تقوم على القصيدة السّابق ذكرها (جفرا تنجب أطفالا في سخنين)، مفتتحًا إيّاها بنفس الاقتباس المذكور سابقًا للمناصرة. وأكاد أقول إنّها القصيدة نفسها مع إجراء تعديلات كثيرة من حيث الشّكل، حذف أبيات وإضافة أخرى.
ثمّ كتب قصيدةً أخرى بعنوان "عودة جفرا" التي تتصدّر هذا الدّيوان؛ وبالرّغم من أنّ الشّاعر مفلح طبعوني لم يذكر في قصيدته هذه عزّ الدّين المناصرة، كما في القصائد الأخرى، إلا أنّها تتقاطع مع المطلع الشّرطيّ الذي اعتمده في قصائد جفرا الأخرى والذي يحاكي مطلع قصيدة المناصرة.
     لقد جاء في قصيدته "جفرا تنجب أطفالا في سخنين": "جفرا تصرخ من قلب البئر النفطية"، و"جفرا تصرخ من قلب التابوت" (الاتحاد، 1 تموز 1977 ص 5)؛ وفي قصيدة "عودة جفرا"، يقول الشّاعر:
"عادَت جفرا
من قلبِ الجُبِّ"  (الديوان، ص 18)
والجبّ هو البئر العميقة! 
ونلحظ في القصيدة نفسها تكرار الفعل "عادت":
"عادت تحمل أواجع الحبّ" (الدّيوان، ص 18)
"جفرا عادَتْ من عمق الصّحراء
عادت تحملُ رائحة النّزفِ
مِنْ ساحات الأسرِ.." (الديوان، ص 27)
     جفرا الحبيبة، جفرا الشّهيدة تحوّلت إلى رمزٍ تمتزج دلالاتها بدلالات الوطن. جفرا النّضال، المقاومة، جفرا الوطن، الأرض والثورة. انتفضَت جفرا وعادت محمّلةً بالوجع، بالحزن وبالدّمع، عادت تحلم بالأمل وبالخير. عادت تصرخ من شرايين الوطن!

//العتبة الداخليّة
الإهداء: "إلى حجارة الوادي الباقية..."
يحيلنا هذا الإهداء إلى المثل الشّعبي: "لا يبقى في الوادي إلا حجارته". 
ونسأل، لماذا اختار الشّاعر هذه العتبة الداخليّة تحديدًا؟
إنّه الواقع، التّاريخ، الذّاكرة الوطنيّة والانتماء! هذا الإهداء ينطلق من الرؤية الفكريّة الخاصّة بالشّاعر.
جفرا ترمز إلى الوطن، الوطن الذي ليس لنا سواه، الوطن الذي نناضل من أجله؛ ولا يكون الحفاظ على الوطن إلا من خلال المناضلين الوطنيّين، أصحاب الفكر، فهم المستقبل.
     يختصر الشّاعر، من خلال هذا الإهداء، عدّة دلالات سياسيّة وفكريّة، تتجلّى في النّضال ضدّ الاحتلال وفي الخطابات السّياسيّة العميقة التي تقوم على فكرٍ ثابتٍ وأصيل! 
هذا الوطن، هذا الواقع، كالنّهر، يحمل الضّحلَ والأصلَ؛ فبعض القادة والسّياسيين يتصارعون على المناصب، بعضهم نسي جذوره وباع القضية، منهم مَن أطلق شعارات فارغة ومنهم مَن حصّن نضاله بفكره الوطنيّ وبمبادئه الصّلبة.
إنَّ هذا الإهداء يحمل تنبيهًا مفاده أنَّ الأمور السّخيفة والسّطحيّة، التي لا تقوم على فكرٍ، زائلةٌ؛ فالزّبد يذهب جُفاء ولا يبقى إلا ما ينفع النّاس.
     تجدر الإشارة إلى أنَّ هذا الإهداء أغنى العالَم الدّلالي للديوان؛ إذ ساهمت هذه البنيّة الصّغرى (أقصد الإهداء) في تشكيل المعنى الدّلالي للديوان باعتباره بنية كبرى. لقد وظّف الشّاعر هذا المثل ليعلن المغزى العام لخطابه الشّعريّ كلّه بل لمسيرته كلّها. هذا التوظيف هو موقف!
    إنَّ الشّاعر مفلح طبعوني يعود في هذا الإهداء إلى بيئته، إلى بيته الحزبي، إلى الشّعب المناضل، إلى الحجارة التي بنَتْ رؤيتَه السّياسية والفكريّة.
     لقد جاء بهذا الإهداء ليصوّب رؤيته، ليؤكد لنا أنَّ التّضاد يعكس حال الواقع الذي نعيشه والصّراعات التي نعيشها، إلا أنَّ صراعنا الأوّل والأخير مع الاحتلال، هذه هي معركتنا؛ صراعنا الحقيقي من أجل جفرا الوطن. لذلك نسج خطابه الشّعريّ إلى حجارة الوادي الباقية، الحجارة التي لم ولن يأكلها الزّمن ولن تجرفها المياه والسّياسات العميلة، إلى أولئك الذين صانوا، وما زالوا، الذّاكرة الجمعيّة، يناضلون من أجل القضية ويسعَون من أجل التحرّر من نير الاحتلال.
هذا الإهداء هو لنا، لرفاق الدّرب؛ الإهداء هو لكلّ مناضل ثابت على مبادئه ومتمسّك بوطنه كالقابض على الجمر، كما جفرا الوطن. هؤلاء هم الباقون.
     يراهن الشّاعر على البقاء؛ بقاء لا تقتلعه العواصف ولا تحمله الفيضانات، بقاء وجوديّ يتغذّى من الرؤية الفكريّة الواضحة. فالبقاء هو الفكر، الفكر الذي يشكّل بوصلة النّضال، لأنّ الانتماء موقف والموقف فكر. بدون هذا الفكر تتفتت انتماءاتنا، تتكسّر خطاباتنا وتتعثّر نضالاتنا، بدونه لا تكون طريقنا واضحة. 

في الختام،
مفلح طبعوني، شاعر وطنيّ، مثقّف، مناضل، شيوعيّ يحمل همّ أمته، ملتزم بقضايا الوطن ويطمح إلى تغيير هذا الواقع البائس.
    إنَّ انتماءه السّياسيّ والفكريّ شكّلا أرضًا خصبة لقصائده ولمعجمه الشّعريّ، أشعلا قريحته الشّعريّة وقناديل حروفه. لقد هضم المضامين الاجتماعيّة والسّياسيّة بكلّ ما تحمل من صراعات وأنتجها وفق منظوره الفكريّ، فجاء خطابه الشّعريّ ينضح بالحنين إلى ماضٍ قد ولّى، مكتسيًا بلباس المقاومة، الثّورة، الغضب والأمل. مفلح طبعوني شاعرٌ يعيش على خيوط الأمل والتّحدّي.
حيفا
*نص كلمة الكاتبة في أمسية ثقافية أدبية للشاعر مفلح طبعوني بمناسبة اشهار كتابه "عودة جفرا" استضافها مقر الحزب والجبهة في الناصرة (في الصورة)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب