news-details

شعرية القصة القصيرة جدا في "عزف على نشاز " (1-2) | د. رياض كامل

مقدمة

الأدب خلاصة الفكر الإنساني في شكله النقيّ، ولا نبالغ حين نشبهه بالذهب أو بالعسل، يحتاج كلاهما، رغم ما لهما من خواص، إلى عملية تنقية وإزالة للشوائب. وهكذا الأفكار تمرّ في الذهن عملية تصفية وتنقية حتى تصبح جاهزة ليسكبها المبدع في قوالب فنيّة تسحر الألباب والأذواق والعواطف، في آن معا. فكيف يجب أن يكون اللقاء بين القارئ والنص؟ وبالتالي كيف على القارئ أن يؤوّله؟ ومن القادر على إرسال النص، ومن المخوَّل للقيام بتأويله؟

للقيام بهذه المهمات يجب أن تتوفر ثلاثة أسس رئيسية ومهمة: أولا تعرّف القارئ بعمق على النص؛ شكله، مضمونه، دلالاته، مركباته ومكوّنات هويته الفكرية والأدبية. ثانيا تزوُّد الناقد/المتلقي بثقافة واسعة في مجالات عدة فكرية وفلسفية واجتماعية ونفسية، والاطلاع على نتاجات أخرى من نفس النوع الأدبي، لأن ذلك يساهم في عقد مقارنات تبين نقاط التقليد والتجديد، وتحدّد مكانة النص الجديد بين الإبداعات الأخرى السابقة والمتزامنة، وأحيانا اللاحقة. أما العمدة الثالثة فهي المعرفة النظرية التي تساعد الناقد/ المتلقي على تأويل النص تأويلا منهجيا بعيدا عن العفوية والاعتباطية. من شأن التنظيرات أن تساهم في تنظيم الدراسة وتنسيقها ودعمها بأسس متينة قائمة على التجربة، وهي تزوّد الناقد بآليات تأويلية تساهم في فك شيفرات النص، خاصة وأن النصوص الحداثية تعتمد على أساليب جديدة وقديمة تتناغم معا وتتقاطع وتتشاكل. هذه الأسس الثلاثة تسعف المتلقي في فهم دلالات النص ومركباته، فلا يحمّله أكثر من طاقته، من ناحية، ولا يحدّ من انفتاحه وتشظيه، وتحويله إلى متلقين آخرين، من ناحية أخرى. إنّ كل قراءة لأي نص، مهما كان نوعه، تفرض على القارئ الإصغاء جيدا إلى ما يقوله النص وإلى خصوصياته، وإلا تحولت دراساتنا إلى نسخة واحدة تكرّر ما سبق.

تقوم هذه المقالة بدراسة خصائص القصة القصيرة جدا في كتاب "عزف على نشاز" (2019)، للكاتب جريس نعيم/ مريم خوري، والتوقف بشكل سريع عند مميزات المقامة لديه، من خلال لقاء القارئ بالنص وما ينتج عنه من تأثير وتأثُّر. فمن شأن هذه المقاربة أن تعرّفنا إلى رؤية المؤلِّف للحياة، وإلى لغته؛ مركباتها وخصائصها، وترشدنا إلى دوافع كتابته، وطريقة بنائه للقصة والمقامة، إذ يرى أمبرتو إيكو أنّ للكاتب أسراره التي لا يمكننا اكتشافها، فهي غامضة وتحتاج إلى تأويل كما هي كتاباته تحتاج إلى تأويل، وكتاباته هي التي تفصح عن حياته. (إيكو، 2004، ص112)

حين يلتقي القارئ بالنص فإنه يلتقي بمنطوقين؛ منطوق النص وما يحمله، ومنطوق المؤلِّف. وكي لا يغرق قارئ هذه المقالة في هذه العملية "الفلسفية" فإننا نقول، اعتمادا على أصحاب نظريات التلقي والتأويل، بوجود الكاتب الحقيقي والكاتب الضمني، أو "الشخصية الثانية للمؤلف" أو "الأنا الثانية"، تلك التي تنطلق من الأنا الأولى وتتحرّر منه أثناء العملية الإبداعية (انظر: وين بوث، ص83-84). ونحن نرى، انطلاقا مما اكتسبناه من هذه النظريات، أن "الأنا الثانية" لا تنفصل عن الكاتب الحقيقي انفصالا تاما، ما يعني أن المؤلِّف موجود ومرتبط ارتباطا وثيقا ببيئته في المكان والزمان والتاريخ والفكر والحضارة. وهذا ما يؤكد عليه أصحاب نظريات السيميائية وجماليات التلقي الذين يرون أن هناك تلاحما بين القارئ، النص والمؤلِّف. وللمؤلف هويته الفكرية الأيديولوجية التي تحاوره وتلازمه ويبلور بحسبها أفكاره، وهي ذاتها التي تفرض عليه طريقة بناء إنتاجه الأدبي. فكيف ينعكس ذلك لدى الأديب جريس نعيم/مريم خوري؟

ننطلق في تأويلنا لنصوص خوري من مقولة للمنظِّر أمبرتو إيكو: "إنه لمن الأهمية بمكان أن يدرس المرء كيف يُصنع النص وكيف ينبغي أن تكون كل قراءة له إبانةً محضة عن مسار تكوين بنيته... على أنني أظن أن ما يوازي ذلك أهمية أن يدرس الناقد كيف يُقرأ النص بعد أن يصنع". (إيكو، 1996، ص10) كما نؤمن أنّ هناك ما قبل الكتابة وما بعدها، فما قبلها هو رؤية الكاتب إلى الحياة (الفكر الأيديولوجي)، وما بعدها هو صياغة هذه الرؤية في قوالب فنية، وهما في النهاية كلٌّ متصل مترابط يكوّنان جسد النص.

تؤمن السيميولوجيا التأويلية أنه لا يمكن إهمال دور المؤلِّف إذ تقوم "الشعرية" (البويطيقا) على قطبين يجمعهما النص؛ القطب الفني (نص المؤلِّف) والقطب الجمالي (نص المتلقي)، والمؤلف يعيش في مجتمع له ظروفه وبيئته فيتأثر بها، وهو يكتب ليؤثِّر في هذه البيئة التي يعيش فيها، ومن يتابع إنتاج جريس خوري الإبداعي يراه مهموما إلى أبعد الحدود، مما دفعه إلى توجيه سهامه الحارقة في أكثر من اتجاه.

 

//تمهيد

يحتوي كتاب "عزف على نشاز" على أكثر من نوع أدبي نثري: القصص القصيرة جدا، القصص القصيرة، (قصة واحدة) المقامات وتأملات. هذه الأنواع الأدبية النثرية معروفة كلها للقارئ، منها ما هو معروف أكثر ومنها ما هو أقل.

من يقرأ الكتاب يلاحظ بوضوح أن هناك ما يميزه عن غيره من منجزات الأديب جريس خوري السابقة، وقد عرفناه شاعرا له ثلاثة دواوين: "بلا أشرعة" (2010)، "موال في ليل أمي" (2001)، و"جمرات" (1999)، وهو باحث نشيط أصدر مؤخرا كتابين بحثيين: "لافتات فلسطينية- دراسات وملاحظات في الحضارة والأدب المحليين" (2022)، و"هوية الأدب وأدب الهوية" (2020)، فضلا عن عشرات الدراسات الأكاديمية باللغة الإنجليزية والعربية التي نشرت في مجلات محكّمة. وهو محاضر أكاديمي مرموق، ويشغل حاليا منصب رئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة تل أبيب، ويُعنى جدا بالفلكلور والتراث والغناء الشعبي، وله في ذلك أبحاث رائدة في اللغتين العربية والإنجليزية.

لم تلق القصة القصيرة جدا، في بدايتها، ترحيبا من القارئ العربي، ولربما يعود السبب في ذلك إلى كونها جنسا أدبيا جديدا غير مألوف (نسبيا)، أو بسبب ربطها ببعض الإبداع العربي القديم مثل النادرة والطرفة والخبر والمثل والحكاية وغيرها. وكي يخترق الأديب الأسوار الواقية التي تحُول دون دخول هذا الجانر تخوم الذوق العربي نراه يلجأ إلى وسائل تساهم في مخاطبة المتلقي وتجنيده، ولعلّ من أهم ما وظّفه هؤلاء الأدباء هو التكثيف، المفارقة والفانتازيا لخلق حالة من الدهشة لدى القارئ. وقد عمد إليها الكاتب جريس خوري منذ العنوان، كما سنرى لاحقا.

لا تتغيا هذه المقالة التعرض لميزات "القصة القصيرة جدا"، بشكل عام، ولا تبغي تقصي أصولها وشروط كتابتها، وتاريخ نشأتها وتطورها، وتكتفي بالإشارة إلى بعض المصادر للراغبين في التوسع، منها: بحث بعنوان "الأقصوصة القصيرة في الأدب العربي الحديث – مقاربة تاريخية" للباحث إبراهيم طه، كتاب "القصة القصيرة جدا- رؤى وجماليات" للباحث حسين مناصرة، كتاب "دراسات في القصة القصيرة جدا" للباحث يوسف حطيني وكتاب "شعرية القصة القصيرة جدا" للباحث جاسم خلف إلياس. 

إن التعامل مع القصة القصيرة جدا يفرض على المتلقي توخّي الحذر الشديد والدقّة القصوى التي يتحلّى بها الكاتب المبدع ذاته، فهي نوع أدبي شديد الحساسية نظرا لقصرها، فكل كلمة يختارها المبدع تتطلب تفكيرا عميقا وموهبة ذوقية خاصة تعمل على التركيز على "العمدة" لا "الفضلة"، والتعبير عن أوسع الأفكار في أقل الكلمات، ومن لا يدرك هذه الخاصية يدخل في متاهة تجعله يعتقد أنها جنس أدبي سهل، تماما كاعتقاد البعض أنهم يكتبون شعرا منثورا، فيما هم يكتبون سردا مباشرا. وقد أشار الدارسون والباحثون إلى إشكالية هذا النوع الأدبي الذي يغري البعض على دخول المغامرة نظرا لقصرها معتقدين أنها نوع أدبي سهل. (المناصرة، ص7-9)،

تتناول قصص خوري القصيرة جدا مواضيع حارقة تبيّن الغبن اللاحق بالشرائح الضعيفة، وتُسلّط الضوء على الفساد المستشري، وعلى الضيم والظلم الذي يتعرض له الضعفاء في العالم، فكانت السخرية والمفارقة المُرّة والتهكم عوامل هامة في التكثيف والتبئير، وإثارة المتلقي في خواتيم القصص المفاجئة.

 

//لذة النص: القراءة المتأنية

يدعونا رولان بارت إلى التمهّل في القراءة وعدم التسرّع، فالقراءة المتسرعة تودي إلى تساقط النص وضياعه، أما القراءة المتمهّلة المتمعّنة في كل حرف وفي كل كلمة، وقراءة النص مرة ثانية فتضيئه وتجلب المتعة، "وما يجب على المرء أن يقوم به لقراءة كتاب اليوم ليس الالتهام ولا الابتلاع، ولكن الرعي بدقة، والجزّ بعناية". (بارت، ص37-38) أما الإسراع في القراءة فتجعل النص مظلما.

إن لذة النص لا تتحقق بناء على الذوق، رغم أهميته، إذ هناك آليات يعمل المتلقي وفقها ليبيّن جماليات النص من خلال متابعة عملية بنائه، مضمونه، تقنيّاته، ملء الفراغات، ومعاينة اللغة وما تحمله من إشارات ودلالات، والوقوف عند تشكلاتها المتعددة التي وظِّفت في خدمة المُتخيَّل وما يحمله النص من غنى ثقافي يحيل إلى أعمال أخرى، ويتشاكل معه أو يعيد المبدع صياغتها بصورة جديدة. بكلمات أخرى أن لا يكون القارئ مجرد مستهلك للنص بل مبدعا يعيد كتابته بصورة جذابة تبين فنية النص وجماليات التلقي.

لا تتعدى بعض القصص والنصوص في "عزف على نشاز" بضع كلمات، لكنها تستوجب من القارئ الترويَ وإعمال الفكر حتى يتمكّن من الإمساك بالفكرة، والإمساك بالفكرة لا يقتصر على فهمها وإدراكها فقط، فتلك هي المرحلة الأولى من دور القارئ الناقد، إذ يتوجب عليه أن ينقلها إلى المتلقين الآخرين عبر الورق، وأن يقوم بعملية "الفهم والإفهام"، كما يقول الجاحظ. (بلعابد، ص20) ففي قصة "احتجاج صامت" (ص،38)، حيث"رئيس "التمرد" في بلد الكبت أعلن سنة صمت احتجاجا على كم الأفواه!"، ما يدعو إلى الدهشة. إنها قصة مكوّنة من اثنتي عشرة كلمة، فيها الحدث والشخصية المركزية والمكان، وفيها النهاية المفاجئة المبنية على المفارقة. فإن كان الكاتب يلحّ على الكتابة بدافع الحث على التثوير وتغيير الواقع عبر كشف الرذيلة في أوضح صورها فإن المتلقي سرعان ما يتلقّف الفكرة مشاركا في الانفعال والتفاعل معها. 

إن السمة الغالبة على هذا الجنس الأدبي هو التكثيف والتوتر والإدهاش بهدف تحقيق الصدمة لدى المتلقي. لذا يلجأ الكاتب بشكل لافت إلى الترميز والإيحاء، وبالتالي تتكشف مواصفات الشخصية الداخلية التي تأخذ القارئ إلى أكثر من اتجاه.

يلجأ الكاتب في بعض قصصه إلى الحوار الذي يغيب عادة عن القصة القصيرة جدا، لكشف مواصفات الشخصية المركزية وهمومها وأفكارها، سواء اعتمادا على ما يرد على لسانها أو على لسان الآخرين. ومن أبرز القصص التي تمثّل ذلك قصة "أسد ميت خير من...". (ص18-20) حيث يتعرض الحمار إلى شتى أنواع الذل والإهانة والعنف الجسدي والكلامي، فيتعذب ويتألم، ويصرخ في داخله صراخا ما انفك أن تحوَّل إلى "حشرجة دموع مُرّة"، ثم ما فتئ أن تحوّل إلى نهيق جعل صاحبه يضربه بعصا كانت في يده "وازداد عويل الحمار فصار بوقًا من نار... اجتمع إلى صاحبه أصحاب... وانهالوا على الحمار ضربا"، وأخيرا تمكن أن يفلت من بين أيديهم ويهرب نحو الخروبة، ذلك المكان الذي يحب، رغم "الطوق الأمني حوله... حتى تمكن أخيرا من الموت تحت الخروبة...". وكانت المفاجأة التي أذهلت الجميع أنه "عندما وصل المارقون إليه.. ونشوة الانتصار في أشداقهم بعد أن منعوه من اقتحام بيوتهم... فزعوا، تراجعوا... رأوا ضربات عصيهم وقد امحت عن جلده... وثغره المائت يبتسم برضًا وكرامة...".

هذه القصة القصيرة جدا، الطويلة نسبيا، عبارة عن فيلم سينمائي طويل حافل بالأحداث والحوارات والشخصيات الرئيسية والثانوية، يُعرض على شاشة كبيرة يراها حشد من المتفرجين الذين يتحوّلون إلى جزء من شخصيات الفيلم. أما "الموسيقى" الأكثر بروزا فهي تلك المنبعثة من فم الحمار التي بدأت حشرجة، فتحولت نهيقا عاليا ثم بوقًا من نار، وانتهت بانعدام الصوت واختفائه كليا، فيما الكاميرا تنقل صورا مكثَّفة لصاحب الحمار وأصحابه وهم يتراكضون هنا وهناك، إلى أن تتمركز (Focus) في وجوهم الفزعة من هول ما رأوا.

إن الرموز الشفافة وتلك الأكثر غموضا التي تُوِّجت بامّحاء أثر ضربات العصي عن جلده هي أكثر ما يثير اهتمام القارئ، وهي التي تحفّزه على التفكير في هذه الخاتمة المدهشة واللافتة، وهي ذاتها التي تجلب له المعاناة واللذة في آن معا. وهي ذاتها، وفق أحداث القصة، التي جلبت "الراحة" للحمار بعد المعاناة، وأعادت له كرامته، وهي ذاتها التي جعلته يستريح في "مِيتته الرضيّة". إن لذّة النص أو لذّة القراءة، أو لذّة المشاهدة (في السينما أو المسرح)، كما أراها، هي في المتابعة في التفكير في ذلك العمل فترة من الزمن والانشغال به حتى بعد الانتهاء من القراءة أو من المشاهدة، فنتحاور مع صانعه أو مع شخصياته، وقد نعيد القراءة أو المشاهدة للتأكُّد من بعض ما جاء فيه، واكتشاف ما لم نكتشفه في المرة السابقة من إشارات ودلالات وأبعاد. وتضيف اللغة الإشارية جمالا ولذة إلى عملية القراءة حين يقف المتلقي عند كلمات وتعابير مفتاحية مثل "الطوق الأمني" وما تحمله من دلالات وتداعيات، وعند "بوقا من نار" ليرى إلى أبعاد هذه الصورة بكل ما تحمله من أسى وألم وثورة وغضب. إنها صورة تثير انفعال القارئ وهو يتخيّل تفاصيلها النابضة بكل أبعادها.

هذه القصة القصيرة جدا عمل قابل للتشظي ومفتوح على أكثر من رؤية وعلى أكثر من تأويل، وليس عملا منغلقا على ذاته، بل والأهم، برأيي، من كل ذلك هو تلك النهاية، التي تتناسب مع تسلسل الأحداث وفق منطق القص، وما يتخللها من فانتازيا تجعل القارئ منهمكا في التفكير في أبعادها ودلالاتها. يعمل المبدع جريس خوري على بناء الفكرة ويتركها للقارئ كي يبدع هو أيضا في كشف دلالاتها وإشاراتها وفي كتابتها من جديد. إن التعامل مع مثل هذه القصص لا يتوقف عند عملية الفهم والإدراك بل يتعداها إلى عملية القراءة المنتِجة، فتصبح عملية التلقي إبداعا إلى جانب إبداع الأديب.

تحدث رولان بارت وغيره عن "لذة النص"، وعن تجربة القارئ في مقارعة النصوص، وعن تحقّق هذه اللذة أثناء عملية التأويل واكتشاف أسرار النص ودلالاته، وقد أصدر بارت كتابا يحمل هذا العنوان، وكان عليه أن يسميه "معاناة القارئ في تحقيق اللذة"، وتحدث إيزر عن تعدد القراءات وعن المواجهة/المواجهات بين القارئ والنص وما يتفتّق عن ذلك من جماليات التلقي. على قارئ "عزف على نشاز" أن يتحلى بالصبر والأناة، وهو يواجه كثافة النص والرموز الشفّافة، والرموز الأكثر غموضا. وأن يقوم بقراءة بعض النصوص أكثر من مرة كي يفكّ شيفراتها ورموزها، ويكشف عن بعض الدلالات حتى تتحقق اللذة بعد التعب والمعاناة،

 

المفارقة: التفريغ وتجنيد القارئ

المفارقة (Irony) أسلوب قديم قدم الفلسفة والأدب، وقد لجأت إليها الشعوب على مر التاريخ لأسباب عدة لا تتسع المقالة للخوض فيها. وظّفها سقراط في حواراته مدعيا الجهل حيلةً لإظهار جهل خصمه وتعريته، وهي وسيلة هامة لمجافاة المباشرة. كما وظّف العرب القدامى في كتاباتهم مصطلحات حملت شيئا من دلالات مصطلح المفارقة، مثل "التعريض"، و"التشكّك"، و"المشابهات"، و"تجاهل العارف"، و"تأكيد المدح بما يشبه الذم"، و"تأكيد الذم بما يشبه المدح"، ومصطلحات أخرى كانت ولا تزال تستعمل مثل الهزل والسخرية والتهكم والازدراء والغمز وغيرها. (انظر: خالد، ص22)

بات هذا المصطلح اليوم أكثر اتساعا من كل هذه التسميات، بحيث يصعب وضع تعريف جامع واحد يحيط بكل جوانبه. (للمزيد من التوسع انظر: موسوعة المصطلح النقدي، ص9-267، سليمان، ص14-39) وهو مصطلح فضفاض لا يثبت على حال، ومثار نقاش بفضل أهميته واتساع حيز استعماله في مجالات عدة، يتبدل وفق المكان والزمان، "صحيح أنه قد يحدث في بعض الأحوال أن من تسأله يجيبك بتعريف يقول: "المفارقة أن تقول شيئا وتقصد العكس"، [...] ولكنك قد تسأل صاحبك إن كان لا يدخل في باب المفارقة مشهد نشال محترف تُنشل نقوده أثناء قيامه آمنا بعمله المعتاد". (ميويك، موسوعة المصطلح النقدي، ص18-19)

إن المفارقة اليوم حالة فنية وأدبية محلِّقة تحتاج إلى دراسات تواكب تطوراتها وتحولاتها، وإني لأعتقد أن المبدع الحقيقي قادر على أن يطوّرها وأن يضيف إليها من عنده، بما يتناسب مع بيئته وشخصيته، وقد لجأ إليها خوري لاستجابتها مع القضايا والمواضيع التي طرحها لتسعفه في إنجاز الفكرة في أقل الكلمات، ولتصيب الهدف بطريقة غير مباشرة. 

كتب الجاحظ بعض مؤلّفاته، بالذات كتابه الشهير "البخلاء"، موظفا أساليب فنية عدة كالمبالغة واعتماد غريب اللغة، وهكذا فعل أحمد فارس الشدياق (1804-1887) في كتابه الشهير "الساق على الساق"، وكان أحد أهداف الجاحظ والشدياق النيل من الخصم وتعريته، والتهكم عليه والاستهزاء منه. يتعمّد جريس خوري من خلال مفارقاته، التي وظّفها في قصصه القصيرة جدا، مجافاة الهزل والتندّر وإضحاك القارئ، وينحو باتجاه المفارقة الساخرة، الجارحة واللاذعة، عكس ما فعل في مقاماته حيث ينحو فيها أكثر باتجاه الهزل والدعابة، دون إنكار الجوانب الأخرى كما سنبين لاحقا.

كتابة جريس نعيم/مريم خوري، بشكل عام، غاضبة وعاتبة أيضا؛ هي عاتبة لأنها تصدر عن محبة، كما يصرِّح في الإهداء الذي يتصدّر الكتاب: "لو كان بيدي لأهديت نفسي للوجود، مقابل أن ينقلب نشازنا موسيقى ملائكية تتصاعد صلاة فتعانق طيور الحلم" (إهداء، ص9). وهو يقوم بمراقبة هذا الواقع ومتابعته؛ يشاهد، ويدقّق في المشاهدة والتمحيص، ويحلل ما يدور من حوله بعيدا وقريبا، فوجد أنّ الواقع الذي تعيشه البشرية مناقضٌ جدا للتعاليم الأخلاقية بحيث أمستْ قواعد الحياة اليومية مناقضة لكل هذه التعاليم، وكأني به يتّفق في رؤيته مع ما قاله جبران خليل جبران في المواكب:

والعدل في الأرض يُبكي الجن لو سمعوا              به ويستضحك الأموات لو نظروا

فقد وجد بعد معاينة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والديني والأخلاقيّ أنّ المنطق يسير مقلوبا، أعلاه سافله وسافله أعلاه؛ القوي، لا يأكل حق الضعيف حين يعتدي عليه بقدر ما "يسترجع حقه"، والقاتل لا يقتل إذما ذبح إنسانا آخر كما تُذبح الخرافُ يوم العيد كي يتحققَ من أنّ دمه ليس أزرق: "بعد أن ضبطه مختلفا، حاوره بمنطق مقنع تماما: بما أن الدم لا ينبت على الشجر، وطالما أنه لا يظهر على قُشَعْرِيرة جسدٍ، وما دام لا يطفو على الجلد؛ فلا بد أن أذبحك كي أتأكد أن لونه ليس أزرق". (قصة بعنوان "دمك أزرق"، ص14)

يدعونا جريس خوري لمعاينة الواقع المشوّه على ما هو عليه، دون أن نبحث عنه في كتب العجائب ولا في قصص السحرة ولا في حكاياتهم، ولا في أساطير القدامى لأنه جزء من الأخلاقيات، ومنهج حياة كثيرين؛ ذاك يذبح أخته، وهذا يقتل أخاه، وآخر يجز الرقاب بحجة تنفيذ تعاليم الكتب المقدسة، وحاكم يجرّ إخوته إلى المِقْصلة، وفقْرٌ يهدّد البشرية بالموت جوعا فيلجأ بعضهم إلى بيع كليته الثانية بعد أن باع الأولى: "باع إحدى كليتيه ليعيش بواحدة وعشرة آلاف دينار. بعد أن أنفق ماله، لامه صديق: "بعت كليتك لتعيش نصف عمرك بسعرها! كيف ستعيش النصف الآخر؟" قهقه وهو يشير إلى خاصرته: لا تقلق سأبيع الكلية الأخرى! (قصة بعنوان "كرامة للشراء، أعضاء للبيع"،ص 15)

يقول جميع من عملوا على تحديد مفهوم المفارقة بأنها لا تعني اليوم ما كانت تعنيه بالأمس، وبالتالي فإن المفارقة تتغيّر وتتبدّل وتختلف من شعب إلى آخر بحيث يمكن أن ندّعي أن مثل هذه المفارقة الصادمة لا تصلح إلا للعربي المُهمَّش الضائع الذي جعلته ظروفه الحياتية الاقتصادية يلجأ إلى بيع أعضاء جسمه لمتابعة الحياة. تُبنى المفارقة في هذه القصة على خلق حالة من التضاد والتصادم بين الواقع والمنطق المتمثل في بيع الكليتين، فتتولد حالة من الدهشة والصدمة خدمةً لواقع صعب. كنت أتمنى على الكاتب لو اختار عنوانا آخر أكثر ترميزا وشمولية إذ "يجب أن يكون الفن والأدب المتميِّز بالمفارقة مشتملا على السطح والعمق، الغشاوة والصفاء، كما يجب أن يستحوذ على انتباهنا على مستوى الشكل إذ يوجهنا نحو مستوى المحتوى". (ميويك، ص14) فالعنوان هنا أقل عمقا من الحدث ذاته ومن الفكرة الفريدة الصادمة في غرابتها، وكنت أتمنى لو اختار كلمة واحدة عنوانا لا أكثر تماشيا مع التكثيف والترميز.

للقارئ أن يغضب ويعتب ويثور ويهيج وأن يشتم، لكن بأدب، لأن خوري يربأ بنفسه عن هذا الأسلوب مكتفيا بمضامين تجعل من الحمار بطلا، ومن الجحش مفكرا كبيرا، ومن النمر تابعا، ومن التيس قائدا لأمة تخضع له وتصلي كي تدوم "نِعَمه" عليها. لكن، وللحق نقول، إن شخصية الحمار في قصص جريس خوري لها معالم حداثية، تحمل مواصفات قائد اجتماعيّ وسياسيّ يتبوّأ مركز رئيس مجلس، أو وزير، وقد يتطور أكثر ليكون رئيس دولة له أتباع وعيون وعسس ومصفقون معجبون. (انظر: مدينة الدون كيشوت، ص33-34) ومع ذلك فإن حماره، الذي يتقاطع مع بعض مواصفات حمار توفيق الحكيم (1898-1987)، لا يحمل مواصفات ثابته، فقد يكون ضحية للظلم والظالمين وللمتجبّرين الذين اعتادوا على تسيير المخلوقات بالحديد والنار.

المفارقة عند جريس خوري لها مقاصد عدة فهي تنطلق من البيئة الضيقة وتتسع أكثر لتصل إلى البيئة الإقليمية وتتشظى لتصيب البيئة الدولية عامة، وهي لديه تتكئ على الدفاع والهجوم للتشفي والتفريغ عن الذات، ولا يمكن حصرها في التعريفات المقولبة ولا في قول كلمة ما نقصد عكسها، بل هي كل ذلك وأوسع، مما يؤكد على ضرورة إجراء دراسة واسعة تتناول المفارقة في كتاباته.

إن كتابة خوري بشكل عام، وفي كل الأجناس الأدبية، ساخرةٌ غاضبة ونارية، ما يذكرنا بقصص زكريا تامر (1931-) وبسخريتِه وغضبِه، وبأشعار كلٍّ من مظفر النواب (1934-2022) وأحمد مطر (1954-) العراقيين. فما يجمع ما بين هؤلاء الأدباء، جميعا، مشاعر الألم إثر تكرار خيبات الأمل. لتامر والنواب ومطر مواقف واضحة من الأنظمة العربية فهجروا أوطانهم وعاشوا في الغربة، أما جريس خوري فيعيش في ظروف أخرى مغايرة جعلت المفارقة لديه صورةً ومرآة تعكس واقعه هو وبيئته الاجتماعية والسياسية بما فيها من تشابه واختلاف.

يقول الناقد الأرجنتيني إنريكي أندرسون أمبرت (1910-2000) اعتمادا على تجربته في كتابة القصة والرواية: "تتمثل المتعة الجمالية في شعورنا بالحرية عندما نعبّر عن أنفسنا" (أمبرت، ص،8) وقد يقول غيره ما يشبه مثل هذا الرأي، وقد يضيف أكثر من ذلك. إننا نرى أن خوري يكتب كي يتخلّص من الهموم التي ترافقه وتنغّص عليه حياته، والكتابة ليست عامل تفريغ، فحسب، بل هي أيضا عامل حثّ وتحفيز واستثارة.

(يتبع)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب