news-details

شقيقان وفنّانان معاً| نمر نمر

في فترات شرود ذِهني، وما تبقّى من العقل يسرح ويمرح على فيّالو، والذي تبقّى من الأفكار تتبخّر والرّب راعيها، رغم هذا حَطَّتْ بي المُسَيّرة والأوهام واستذكار ماضٍ بعيد في موقع بيدرنا القديم، المعروف باسم بيادر الشّراقة، وإذا بالشّاعر الفنّان أسامة ملحم/كفر ياسيف يطرق بابي بهدوء تام وتوارد وتقاطع، وبعد السّلام والكلام والمجاملات التي لا مفرّ منها، قال بلطفه المعهود :

-وين سارح؟ أراك شارد الذّهن، بأيّ سماء أنت تحلّق؟

-لا تحليق ولا توثيق! تذكّرتُ بيدرنا أيام العِزّ والخيرات الزراعيّة والمواسم الفصليّة، في موقع بيادر الشّراقة وشدْو: دُرْعَكِّة يا درعكة/ وانا نازل عَ مكّة...

-ونحن سكنّا في موقع بيادر الشّراقة في كفر ياسيف، قُرب مقام سيّدنا الخضر عليه السلام.

طرح أمامي مولَدَيْه الأدبيّين، مع إهداء رقيق كَشِعْره الهامس الحالم العاشق الرّحيق، الرّساؤلات وَ كطاويي ثمان، الإصدار عام 2017، عدا عن الغزليّات التّوّاقات للقاءات بريئة، وفي كلّ زيارة يخصّني بنبتة خاصّة، صندوق سيّارته يطفح بمختلف النّباتات والبذور، أسامة هو بابا نويل/سنتا كلوز النّباتات، لا يدخل صفر اليدَين أبداً، عطاؤه في مجال التّنمية النّباتيّة الزّراعيّة لا يعرف الحدود في أرض الكَرَم والجود، وما الجود إلاّ من الموجود، يسمع عن نبتة نادرة في ديارنا، تحمله سيّارة ترحاله إلى كل مكان، ليتعرّف ويُعرّف الآخرين، لا يتوقّف الأمر في ديارنا، بل يتخطّى ذلك عبر الدّول المتاحة زيارتها سياسيّاً، لا يُجازف، تشعر معه كأنّكَ مع جراب الكردي الذي يحوي ما لذّ وطاب وَنَدَر من عالم النّبات، يُعرّفكَ على اسم النّبتة بالعربيّة والعبريّة مضيفاً إلى ذلك الاسم العِلمي باللاتينيّة، واختلاف اسمائها أحياناً بين البلدة والأخرى، تظنّ أنّك تعرف الاسم، فيعطيك الاسم البديل ومنها: هذه غرسة زيزفون تستظل بظلّها عند قيلولة الظّهر، وهذه نبتة الكَرَز القدسي، ورِجْل البطّة، ولسان الحّمَل الكبير، النّسيم، نبتة القاقلة/ الهيل، نُردّد معاً:

 سهرة ليل، وْقهوة هيل، وْصَهْلة خيل، وْحِنّا عَظْهور الخيل (ما) تْعَلَّمْنا الفْروسيّة... وَزُرنا بيتَي الشّقيقَين، الوالدان المرحومان سَدَنا مقام الخَضر الكفرساوي .

عُدْتُ إلى أوراقي العتيقة، أجِدُ من بين تسجيلاتي ما كتبه الاْستاذ كمال مبدّا ملحم، جريدة: رؤيا، لصاحبها المرحوم الأستاذ عفيف عزّام/أبو سنان، آذار 2004 : في موقع تين الخَضر، بيادر الشّراقة، رُجمة حجارة، كانت تُضاء ليلاً، الشّيخ حسن صُبح أوقف هذه الأرض لِوقف الخضر عليه السّلام، كافّة الدّيانات السّماوية تنظر إليه بجلال واحترام، عند اليهود هو إلياهو هَنَبي، عند المسيحيّين هو مار إلياس، وعند كافّة المسلمين هو الخضر أبو العبّاس. حدّثنا كمال عن سَدَنة المقام منذ مطلع القرن العشرين على التّوالي:

*السّيّدة زمرّد القاسم/ملحم، الرّامة /كفر ياسيف، دُفِنَتْ بجوار المقام.

-تولّت السّدانة بعدها كريمتها: أنيسة مرزوق ملحم وحفرت بئر الماء، ودفنت بجوار والدتها.

-انتقلت مهمّة الإدارة والإشراف إلى الشيخ: صالح ديدي/ الرّامة/ كفر ياسيف.

- ثُمَّ الشّيخ: توفيق عبد اللطيف.

-خَلَفَه الشّيخ: أبو كمال مبدّا ملحم وساعَده في ذلك نَجْله أسامة حتى عام 2001.

-ثُمّ خلفه صِهْره الشّيخ: شفيق ملحم.

 عرفنا من أسْرة آل ملحم الكرام : المرحوم الأستاذ كامل ملحم الذي علّمنا في حرفيش في بداية خمسينيّات القرن العشرين.

الأستاذ المربي: كمال شقيق من شقائق النّعمان، هُما المُبَدَّيان، الملْحمان، الكَفْريّان، يطوّعان بحور الخليل وصخور الجليل، لا يتماديان على القطوف الحامضة، هُما نجلا سادِنَي مقام الخَضْر، رضعا حليب الوفاء والشّرف والشّهامة، طَرقا أبواب بيوت الله ودخلا مَأذونَين مُطَّلِعَين على ذخائر وكنوز الثّقافة الرّوحيّة التّوحيديّة وغيرها، شربا من رأس النّبع ليدخلا في عباب بحور الأدب والفن والجود والعطاء، أستميحهما العُذر، حتى لو كان ذلك من باب السّلْبَطة، الدَّبْلجة، الكَوْلجة والخَلْط والتّركيب والمزج معاً، جاءت لوحتي المرفقة مزيجاً خليطاً، وَرِزق العرب مشترَك، قبل أن يكونا شقيقّين معطاءَين يطرقان أبواب الفنون الجميلة، تُفتح لهما مُشَرَّعةً بترحاب على مصاريعها.

 آخر إصدارات الفنّان كمال: من آخر إبداعاتي، نيسان 2023، جاليري "إبداع" كفرياسيف/ جمعيّة إبداع، عشرون صفحة مُزدانة بلوحات كمال على التّوالي: اللوحة الأولى: نسيج فنّي/كولاج، من أعمال والدته المرحومة: أمّ كمال، 1990، تليها لوحة مهرجان الحضارة/ألوان زيتيّة إكليرك 1995، الثّور المُجنّح، ألوان زيتيّة كذلك، 2004، وجه إنساني/مواد طبيعيّة 1999، الحضارة1999، ديك الجِنّ 1999، فَنّ تجريدي، الإنسان والوحش2004، ، الحضارة/ألوان زيت على الخشب، أنا والآخر 2010.

تناسق الألوان، الذّوق الرّفيع، التّفاؤل والبهجة، تُطيل الإمعان بعطش وتوق، لعلّك تكتشف ما يُخَبّئه الفنان! وتبقى مع الحيرة في فَكّ رموز ما أبدعه هذا الفنّان.

 تعود إلى مادّة التّعريف التي خطّها الشّقيق أسامة، تحت عنوان، جمع تكسير ص7: امتياز كمال في امتلاك القلم والرّيشة والإزميل والبوصلة الفكريّة، يجعل من هيولى مشاريعه منارات هادفة، وأنتَ أيّها المُتّلقّي، ما عليك سوى فَكّ اشتباك ألوانه وتقاطع حروفه في رسوماته وأشعاره وتماثيله... ويختتم أسامة تنويهه: كمال مبدّا ملحم، هذا هو الرّسّام والشّاعر والنّحّات والمُعلّم المُبدع الذي تربّيتُ على سِراجه.

شقيق يكتب عن شقيق من شقائق النّعمان، ولا عيب في ذلك، معاذ الله، ما حدا بِحُطّ في زيتو عَكَر، بالمعنى الإيجابي، وزيت الكفارسة مشهود له.

 نعود إلى الشاعر أسامة، نترك الشّعْر للحظات مع الآهات والشّذرات، لنتوقّف في محطّة من محطّاته، وهي مثيرة جدّاً، أجمل ما في هذه المحطّات في الواحات والاستراحات الصّحراويّة في بلادنا: تركيب، تطعيم، تقليم، تعقيل، ترقيع، تحويل، تحسين وتغيير الأصناف النباتيّة في حدائقنا الغنّاء، من العائلة الورديّة مثلاً يُمكنه جمع أصناف متعدّدة في شجرة واحدة: التّفّاح، الإجاص، السّفرجل، الزّعرور والقبريش في شجرة واحدة، وكافّة أصناف اللوزيّات: لوز، خوخ، درّاق و... كُلّ فرع من الشّجرة يُطَعّم بصنف من أصناف العائلة الواحدة، وهذا فَنّ بحدّ ذاته، لا يَقِلّ أهمّيّة عن الفنون الإبداعيّة المألوفة، وحديقتي الخاصّة تشهد على ذلك!

هذا التّواضع، التّواصل، التّناظر، التّناضر، التّآصل، التّحسين والتّنويع عند أسامة يُثير الدّهشة والتّقييم، مع الغيرة بمعناها الإيجابي الإحساسي، وهو يَغار على كل شيء، ليس بمعنى يهجم فقط.

في إهدائه لديوانه الرّساؤلات يَنْقش: إلى الذين في القلب، وهذا إهداء مفتوح كَصَك مفتوح، لا تعرف مدى قيمته وأبعاده الإنسانيّة والاجتماعيّة، أمّا في إهداء ديوانه: كطاوي ثمانٍ ينحت على الصّخر: إلى سيّدة الحلم، ويعمد إلى عدم شكل الحلم، ليضعنا في مفازة بين ضَمّ أو كَسْر الحاء، خلّينا نْطَبِّشْ روسنا يا أسامة! خلّيها على الله، شُفْ شُغْلَكْ والباقي على الله! وبعد حَدَس تميل إلى الاعتقاد بأنّه يقصد الحاء المضمومة، يُطعّمُ الحداثة ويُرَصّعها بجماليّاتنا المحكيّة: جَرّة الحَبْل، أتَشابى، ليمونة الدّار، الزّرّيعة، باب الهوى، أُشَمْشِمُها، تعمشق وغيرها الكثير، ثُمّ ينتقل بنا ببساط ريحه إلى أعالي اللغة والسّما في مطبعة سما المعلاويّة: ضلفة، سبخة، بِتَلة، يباب، رتج، لمظ، مكس، ناسَ وغيره.

رسائله وتساؤلاته وتحليقه وتعليقه للأمور يُلزمك للعودة إلى الحُطيئة وقصيدته كطاوي ثلاث، يرفع أسامة التّسعيرة، مع التّضخّم الشّوقي إلى ثمان، وإلى رسائل بين شطرَي البرتقالة للقاسم والدّرويش.

 أخي أسامة! رأفة بالعَجَزة منّا، كفيفي البصر، ومن يَعش ثمانين حولاً لزهير، ومن الذين أصبحوا في صفّ : عَدَم فهم المقروء، قطعنا أشواط العمر مع الأخوَين رحباني، وها نَحْن نتشبّثُ بتلابيب الأخوَين ملحم، اللهمَّ زدهما علماً وفنّاً وتحليقاً وإنارة وعطاءً وعافية وإبداعاًّ، عدا عن مُطَوَّلَتَي: في اللقاء الأخير ص52 –59، وزهرة الأوركيد والسّحْلبيّات، سيّدة الحُلم ص101 –114، ترتاح قليلا وتتابع.

دُمتما معاً في ظِلّ أسْرَتَيْكُما الكريمتَين، وهذا النّبع الذي لا ينضب ولا ينقطع خريره، بعد سماح ميخائيل نعيمة في عليائه!

والتّحلاية، التّهريشة مع سيّدة الحُلُم:

فراشة قنديله/تتأبّى السقوطَ في شَرَك نوره/ لا خوفاً من الانصهار فيه/ هو لَدَيْه "كازه"/ وَ (فَتيلَتُهُ قصيرة)...سيّدة الحُلم/ تشدّني كالقماش/ على الإطار/ ستُمرّر ألوانها فوقي/ أنا أجمل تحت أناملها/ بريشتها ستجعلني/ "أنا"...

مع هذا العشق لمختلف الفنون الجميلة عند الملحمَين الشّقيقَين العلمانيَّين، لن نستغرب أنّ قلبَيهما عامران بالمحبّة والألفة للجميع، فنونهما ليست بحاجة إلى ترجمة للغات أخرى، ولن ننسى الرّوحانيّات.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب