news-details

صدور كتاب "القبض على الدلالة: مقدّمة للنقد السيميائيّ التوليفيّ في الخطاب العربيّ" لإبراهيم طه: مقاربات سيميائيّة من زوايا مختلفة لبعض أشكال الخطاب العربيّ قديمه وحديثه

صدر الأسبوع الماضي كتاب "القبض على الدلالة: مقدّمة للنقد السيميائيّ التوليفيّ في الخطاب العربيّ" لإبراهيم طه. وهو يشمل مقاربات سيميائيّة من زوايا مختلفة لبعض أشكال الخطاب العربيّ قديمه وحديثه. وهكذا نجد في الكتاب دراسات في نحو القرآن الكريم والقصّة القصيرة والرواية والشعر من الأدب الفلسطينيّ والمصريّ. كلّ هذه الدراسات قد نُشرت من قبل، بعضها في منابر ثقافيّة محلّيّة وعربيّة وبعضها في منابر أكاديميّة محكّمة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة. وجمعها هنا تحت المظلّة السيميائيّة يمنحها عمقًا إضافيًا حين تُقرأ في تعاقب موصول وتحت تقديم نظريّ يُسوّي لها الطريق.        

وممّا جاء في مقدّمة الكتاب:

"ما زالت التعالقات المركّبة بين المعنى واللفظ، وبين المعنى والمعنى، والمعنى والدلالة، وبين كليهما والنصّ الشغلَ الشاغلَ لعلماء الفلسفة والبلاغة والتفسير والدرس الأدبيّ منذ آلاف السنوات. وبقفز عريض إلى عصرنا الراهن، إلى مرحلة الاستقلال العربيّ حتى نهاية الستينيّات على وجه التحديد، كانت هذه التعالقات قد انتقلت بقوّة من هامش الأجندة الثقافيّة العربيّة إلى مركزها. في هذه المرحلة المفصليّة الحاسمة من تاريخ الشعوب العربيّة، ارتبطت قيمة النصّ الأدبي ارتباطًا عضويًا بقدرته على الاضطلاع بوظيفة الوثيقة التاريخيّة والسياسيّة والمدوّنة الحضاريّة العامّة. وهكذا كانت الواقعيّة أكثر التوجّهات النقديّة استجابة لروح العصر لارتكازها على مفهوم المحاكاة والانعكاس. فالنصّ الأدبيّ لا يكتفي بمحاكاة الواقع بمفاهيم تقريبيّة بل يقوم بدور المرآة التي تعكس الواقع بتفاصيله. كان النقد الواقعيّ مهمومًا بالمرجعيّات على اختلاف مجالاتها وتوجّهاتها. وكان هذا الاهتمام بالمرجعيّات يظهر في ثلاثة أشكال: (1) الاحتفال بالمقام، باليوميّ الظرفيّ المؤقّت على مستوى المواطنة، (2) الاحتفاء بالحالة، التأكيد على الحالة الشعوريّة الجماهيريّة العامّة التي قد يتركها المقام، (3) والتفكير بالوجوديّ الأنطولوجيّ القوميّ في مخاصمة الخصوم في السلطات والأنظمة الحاكمة.

كان النقد الواقعيّ، رغم أهمّيته التاريخية، قد جنى جنايتين على الحركة النقديّة العربيّة بصفة عامّة والفلسطينيّة بصفة خاصّة: (1) مصادرة النصّية كحالة مستقلّة وكمنظومة علاماتيّة، (2) مصادرة دور القارئ كحالة فرديّة وكطاقة إنتاجيّة توليديّة. من هنا سعيت، بسذاجة الشباب واندفاعهم، من موقعي في الحركة النقديّة الفلسطينيّة إلى "تصحيح الغبن" الذي لحق بالحركة النقديّة في خطّين متزامنين متوازيين أحيانًا ومتقاطعين أحيانًا أخرى: (1) النقد النصّي بأدواته الشكلانيّة والنقديّة الجديدة والبنيويّة، (2) نقد استجابة القارئ والتلقّي.

وهكذا وجدتُني أنزلق إلى شيء من "المبالغات" في احتفالي المحموم بالنصّ وتوصيفه في ذاته لا باعتباره منظومة علاماتيّة تحيل إلى مرجعيّات وسياقات محدّدة. كان انتصاري للنصّ يقتضي إغلاق النصّ وقطعه عن مرجعيّاته وأنساقه الثقافيّة والحضاريّة. وكان قد تحوّل عندي إلى اعتباره سلطة، وربما منظومة سلطويّة. فكنت أنشغل به توصيفًا وتحليلا وتركيبًا. كنت أفكّكه إلى مركّباته الصغرى، أوصل بينها ثمّ أعيد تركيبها من جديد. كان النقد النصّي لعبة ذهنيّة وشعوريّة جميلة آنذاك تمنحني شعورًا مخادعًا لبقًا بالانتصار للمغبون. لعبة ذات منحى برجوازيّ متعالٍ في بعض الأحايين. لقد بلغ احتفائي بالنصّ إلى حدّ كنت أخصّص لكلّ جزئيّة فيه دراسة أو مقالا. فللعنوان في النصّ حقّ مستقلّ غير منقوص وللبداية والشخصيّة والنهاية والحدث والصورة والراوي والمونولوج والتناصّات حقٌّ مثله في الدرس النصّيّ المحايث.

تجدر الإشارة إلى أنّ انتصاري للنصّ في ذاك الوقت قابله انتصارٌ للقارئ كشريك فاعل في فعل القراءة والتأويل. فخصّصت له مساحة كبيرة في فعلي القراءة والتأويل، له ولمشاعره وفاعليّته، كما لو كان كيانًا فرديًا مستقلّا معزولا أو محايدًا. ثمّ اكتشفت خطورة هذا الفعل النقدي المحايث المشغول بالنصّ من حيث هو نصّ ذو شكل وبنية منجزة. مثلما اكتشفت خطورة نقد التلقّي واستجابات القارئ الذي استبدل فيه الكاتب بدور القارئ. وبعد أن كان القارئ مظلومًا صار ظالمًا لغيره. وهكذا كانت المسافة التي قطعتها في رحلة البحث عن نظرية نقديّة منهجيّة، تستجيب لواقعنا بخصوصيّاته وتمايزاته، مضنية ومرهقة. كان البحث يسعى إلى تمثيل كلّ مركّبات العمل الأدبيّ وتعالقاته القبليّة والبعديّة. وكان لا بدّ من نظريّة إجرائيّة لا تغفل المرجعيّات العامّة للنصّ الأدبيّ على النحو الذي يعرضها الكاتب في قنوات لغويّة مختلفة، شعرًا كانت أم سردًا أم مسرحًا، مثلما لا تغفل دور القارئ في عملية التأويل والتدليل. لكنّ هذه التوليفة معقّدة يصعب جمعها تحت سقف نظريّ وإجرائيّ واحد يراعي كلّ جوانب الفعل الأدبيّ والنقديّ، الكتابيّ والقرائيّ.

كانت السيميائية التي بدأتُ أحتفي بها باطّراد وإصرار منذ بداية القرن الحادي والعشرين قبل عشرين عامًا، أو يُنيف، تبهرني بشموليّتها وعمقها، لكنها كانت في الوقت ذاته تربكني بتفريعاتها وتشعّباتها وتفاصيلها الدقيقة التي لا تنتهي. فعدت إلى البدايات، حين بدأت تنهض بتفاصيلها على قطبين مختلفين متزامنين متقابلين: تشارلز ساندرس بيرس (1839 - 1914) وفرديناند دي سوسير (1857 - 1913). ولمّا كان الحسّ السيميائيّ حاضرًا بقوّة في المنجز الثقافيّ والحضاريّ العربيّ القديم فقد عدت إلى هناك بكثير من الترقّب والرغبة. كثرت المباحث في علوم الدلالة وتعالقات اللفظ والمعنى، على نحو ما نجده مثلا في اجتهادات الجرجاني في "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" وابن فارس في "مقاييس اللغة" والزمخشري في "أساس البلاغة" وابن جنّي في "الخصائص" وغيرهم كثر. وهكذا كنت أقرأ بخطّين متوازيين في موروثنا العربي وفي الموروث الغربي الذي تقاطع في بعض اجتهاداته مع ما قدّمه المنجز الثقافي البلاغي والنقدي العربي القديم. وفي السنوات الأخيرة بدأنا نشهد حركة نشطة وجادّة في الدرس السيميائيّ العربيّ خصوصًا في المغرب العربيّ في تونس والجزائر والمغرب. غير أنّ هذه المقاربات السيميائيّة يغلب عليها الطابع الألسنيّ، وهي في معظمها تسير على النهج السوسيريّ. وهي لذلك تُعدّ امتدادًا للدرس الشكليّ والبنيويّ بصفة أو بأخرى.

ليس الحديث في هذا الكتاب عن المعنى ذاته فحسب وإنما عن الدلالة أيضًا التي تتحصّل من تفاعلات كيميائيّة كثيرة. وليس عن الدلالة ذاتها بقدر ما هو عن تقعيدها والقبض عليها، عن سيرورتها وصيرورتها. والسيرورة تعني متابعة المسار الذي تتشكّل فيه، والصيرورة تعنى الصيغة التي تصير فيها "كيانًا" منجزًا تصحّ الإشارة إليه كدلالة. والقبض عليها يعني أولا ملاحقة النصّ بآليّات توافق مواصفاته. وهو قبضٌ لأنه يحتاج إلى استراتيجيّة توليديّة ذكيّة، علمًا أنّ المعنى الأدبيّ نفسه يولد متخفّيًا متهرّبًا أو متنكّرًا مراوغًا في الأصل، فما بالنا بالدلالة؟ من هنا كان السعي إلى الدلالة نشاطًا طرديًا. والطرديّات فنّ. البحث عنها فنّ ينضبط بضوابط النهج العلميّ. ما يعني أنّ ممارسة هذا الفنّ تنبغي أن تخضع لأدوات إجرائيّة ملائمة. أو لنقل إنّ هذه الضوابط والأدوات الإجرائيّة تحتاج إلى فنّ، إلى فنّان مبدع يعرف كيف يفعّلها. اجتماع الفنّ والعلم في فعل واحد من شأنه أن يُقصي الأدب من دائرة الفنّيّة أو الذاتيّة الهلاميّة، وهو بنفس القدر بالضبط يُقصيه من دائرة العلميّة الأبويّة الصارمة. أعني الأدب نفسه مثلما أعني التعامل مع الأدب في فعلي القراءة والاستدلال". 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب