news-details

صراع الأسطورة والحقيقة 6| توفيق كناعنة

تتحدث الكاتبة بيان نويهض الحوث في كتابها "القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين" على لسان الدكتور حسين الخالدي الذي كتب: "يخطئ كل من كان يظن أو لا زال يظن إلى اليوم أنه كان وراء ثورتنا القومية هذه، دماغ مفكر واحد وزعيم لا ثاني له بصدد الأوامر والتعليمات فيطاع، فقد اشترك الجميع في هذه الثورة، وقاسوا ما قاسوه من عناء وتضحية في سبيل الحرية والاستقلال، ولولا ذلك ووحدة الصفوف لما دام الإضراب العظيم تلك المدة الطويلة، ضاربا الرقم القياسي في العالم".

الحقيقة أن مثل هذه الآراء هو تأكيد على شعبية هذه الثورة في تلك المرحلة بين جماهير شعبنا العربي الفلسطيني، إن الشيء الإيجابي الذي ميز هذه الثورة ايضا هو التضامن العربي الواسع الذي وصل إلى العديد من الاقطار العربية، وبشكل خاص من قبل سوريا والعراق ولبنان والاردن وفي الوقت نفسه الحركات القومية في مصر والمغرب العربي، التي انضمت إلى التضامن العربي مع الشعب العربي الفلسطيني تأييدا ودعما لثورة هذا الشعب، ويقول الرفيق إميل توما في كتابه (جذور القضية الفلسطينية – المجلد الرابع ص 123)، أن اللجنة الملكية رأت هذا التضامن الواسع من العالم العربي مع الثورة الفلسطينية، حيث كتبت في تقريرها تقول: "أثارت الانفجارات الماضية في فلسطين اهتمام وعطف الشعوب العربية المجاورة، ولكن هذه المرة لم تظهر المشاعر الشعبية واسعة النطاق ضد البريطانيين واليهود فحسب، بل ان عددا كبيرا من المتطوعين ومن بينهم قائد الثورة، جاؤوا من سوريا والعراق، وأهم من هذا اهتمت الحكومات العربية لأول مرة بالخلاف (الناشب في فلسطين ا-ت).

وفي ظل هذه التطورات الإيجابية للثورة والدعم الجماهيري الواسع لها محليا وعربيا، جاءت الوساطة من الملوك العرب من أجل إنهاء الإضراب التاريخي للشعب العربي الفلسطيني، وعلى هذا الأساس أجرى هؤلاء الملوك اتصالات مع اللجنة العربية العليا من أجل تنفيذ هذا الهدف. وكانت الحجة ان أصحاب البيارات كانوا قد طلبوا من الملوك العرب التوسط لإنهاء الإضراب خوفا على موسم البرتقال، وكان قد أيدهم في هذا الطلب جماعة التجار، وتحت هذا الشعار بدأ التحرك من قبل الملوك العرب، وقد كان أول من وجه نداء إلى عرب فلسطين من أجل إنهاء الإضراب في الثامن من تشرين الاول سنة 1936، الملك عبد العزيز آل سعود، هذا الملك الذي وقّع على وثيقة بريطانية يعلن فيها موافقته على إقامة الوطن القومي (لليهود المساكين) في فلسطين سنة 1934، مرفق الصورة للوثيقة:

ولحقه في اليوم التالي الملك غازي، ملك العراق، بإرسال نفس النداء، كذلك الأمير عبد الله، أمير الاردن، وجميع هذه النداءات كانت طلبا لإنهاء الإضراب. لا شك أن هذا العمل كان بالتساوق مع الاستعمار البريطاني، لأن مصالحه الاستعمارية كانت تلتقي مع مصالح الرجعية العربية، من أجل اجهاض الثورة نتيجة لخوفهم من أن تمتد الى دولهم، وكانوا قد دعوا في هذه الرسائل الشعب العربي الفلسطيني إلى الخلود إلى السكينة حقنا للدماء، والاعتماد على "حسن نوايا" صديقتنا، الحكومة البريطانية.

بعد هذه النداءات من الملوك العرب، اجتمعت اللجنة العربية العليا وأعلنت قرارها بإنهاء الإضراب والاضطرابات ابتداء من الثاني عشر من تشرين الاول سنة 1936. وهكذا من الناحية العملية كان قد انتهى أكبر إضراب تاريخي لم يشهده العالم من قبل.

بعد هذه النداءات وتوقف الإضراب، كانت أيضا قد هدأت الثورة نسبيا، خاصة بعد هذه النداءات وتوقف الإضراب، كانت قد حضرت الى البلاد في تاريخ الحادي عشر من تشرين الثاني سنة 1936 اللجنة الملكية للتحقيق في الأحداث التي جرت وتجري في فلسطين، برئاسة إيرل بل، وكانت اللجنة العربية العليا قد أعلنت مقاطعتها لهذه اللجنة، إلا أنها بعد دعوة الملوك العرب لهذه اللجنة العربية من أجل أن تقدم شهادتها أمام اللجنة الملكية، عادت وقدمت شهادتها أمامها، وقد عرضت وجهة النظر الفلسطينية أمام اللجنة الملكية ورئيس الهيئة العربية العليا الحاج امين الحسيني، وطرح فيها وجهة النظر الفلسطينية لحل الصراع الناشئ في فلسطين، ورأت أن الحل للقضية الفلسطينية يجب أن يكون "على الأسس التي حلت عليها قضايا العراق وسوريا ولبنان، بإنهاء عهد الانتداب وعقد معاهدة بين بريطانيا وفلسطين تقوم بموجبها حكومة مستقلة وطنية ذات حكم دستوري تتمثل فيها جميع العناصر الوطنية ويضمن للجميع فيها العدل والتقدم والرفاهية"، هذا كما جاء في كتاب الرفيق إميل توما (المصدر السابق ص – 127).

من الناحية الأخرى، كان اثنان من قيادة الحركة الصهيونية في فلسطين قد قدما شهادتيهما أمام اللجنة الملكية وهم وايزمن وجابوتنسكي، وكان جابوتنسكي قد طالب بدولة يهودية وبأكثرية يهودية في فلسطين، وقد حدد فلسطين بالأقاليم القائمة على ضفتي نهر الاردن. أما وايزمن، فاعتمد في شهادته على الوعد الالهي في فلسطين.

بعد تقديم الشهادات من الطرفين، الفلسطيني والصهيوني  - وللحقيقة كان الطرف الصهيوني يعرف جيدا قرار اللجنة قبل إصداره، لأن الحكومة البريطانية كانت تستشير وايزمن رئيس الحركة الصهيونية في كل الأمور المرتبطة بفلسطين - وكان قرار هذه اللجنة مخيبا للآمال بالنسبة للفلسطينيين، ولا أقول للملوك العرب لأنهم كانوا وما زالوا يوافقون على كل ما تريده بريطانيا، وهنا أقدم ملخص هذا القرار، وهو تقسيم فلسطين في تلك المرحلة من الناحية العملية إلى ثلاثة دول، أولا – إقامة الدولة اليهودية في مناطق ساحل فلسطين، حيث احتشدت المستوطنات اليهودية. ثانيا – إقامة الدولة من القسم الفلسطيني المخصص للعرب وشرق الاردن المتاخم له. ثالثا – وضع الأماكن المقدسة: القدس ومنطقتها والناصرة ومنطقتها وطبريا وما جاورها تحت إشراف الدولة المنتدبة، للمحافظة على قداستها وحرية الوصول اليها.

هذا التقسيم انحياز تام وكامل إلى الحركة الصهيونية ومن أجل إقامة الوطن القومي في فلسطين، ونرى من الناحية الأخرى في هذا الطرح ضم قسم من فلسطين إلى الاردن وليس إقامة دولة فلسطينية، وعلى هذا المشروع لم تبد الحكومة الاردنية رأيها، بل التزمت الصمت، لأن الهدف منه هو ضم القسم الفلسطيني إلى الاردن من أجل الإعلان عن الأمير عبد الله ملكا على هذه الدولة الجديدة.

من الطبيعي أن ترفض الحركة القومية العربية في فلسطين والعالم العربي مثل هذا المشروع، الذي لا يلبي ولو جزءا بسيطا من مطالب الشعب العربي الفلسطيني، وكان من الطبيعي ان تكون هناك موجة احتجاج واسعة ضد مثل هذا التقرير وعلى هذا الاساس، فإن كافة القوى المنضوية في الحركة القومية رفضت هذا القرار، وبدأت الثورة تنطلق من جديد وبشكل أقوى وأعنف، وبدأت تتسع اتساعا واسعا في عام 1938، وكما يذكر الرفيق إميل توما (نفس المصدر السابق ص – 134) أنه نتيجة لقوة الثورة "كانت الحكومة البريطانية قد اضطرت إلى استخدام الطائرات والدبابات ومختلف أنواع المدفعية لقمعها".

لا شك أن هذه الثورة كانت قد حازت على دعم واسع في مرحلتها الاولى والثانية أيضا، خاصة بين الفئات الشعبية في المدن والقرى بشكل خاص، الذين كانوا يدعمون الثورة بقوى شبابية محاربة، ولكن هذه الجماهير الشعبية بدأت بالتراجع، خاصة بعد أن بدأت سياسة الاغتيالات والكثير منها على أساس شخصي، وفي ذات الوقت رأت هذه الجماهير أن هذه الاغتيالات ليست في صالح الثورة، حيث أنها تسيء بشكل كبير للقضية الفلسطينية العادلة.

في تلك الفترة جرى تراجع من قبل الحكومة البريطانية عن قرار التقسيم المذكور سابقا، وهنا لا بد من التأكيد على أن عملية تجديد الثورة والاحتجاج بعد هذا القرار كانت من الناحية العملية قد أسهمت بشكل جدي في إلغاء هذا القرار المتنكر بشكل واضح لحقوق الشعب العربي الفلسطيني.

كانت الحكومة البريطانية آنذاك قد أجرت اتصالات مع الطرف الفلسطيني والطرف الصهيوني، وعلى أثر هذه الاتصالات كانت قد أصدرت في أيار 1939 ما سمي حينها "بالكتاب الأبيض". بعد صدور هذا الكتاب كانت قبلته الهيئة العربية العليا مع ملاحظات لها حول الغموض في بعض النصوص، أما القوى الديمقراطية في فلسطين، فقد رأت فيها نجاحا كانت قد حققته تضحيات الجماهير، ودعت إلى القبول به بوصفه خطوة على الطريق التحرري، وكانت هذه القوى قد رأت أن مجرد التخلي عن التقسيم ودعوة قادة الحركة القومية العربية إلى المفاوضات في الوقت نفسه لحظة مناسبة لوقف الكفاح المسلح، خاصة أنه في تلك المرحلة أيضا كانت قد بدأت الحرب العالمية الثانية بالاشتعال.

مقابل موقف قبول القوى القومية الديمقراطية العربية لهذا الكتاب، رفضت الحركة الصهيونية بالمطلق مضمون هذا الكتاب، حتى وصلت إلى الدعوة إلى العصيان المدني احتجاجا عليه، وفي الوقت نفسه دعت التجمعات اليهودية في الكنس إلى حلف اليمين التالي، كما جاء في كتاب الرفيق إميل توما (المصدر السابق ص 141)، "يعلن السكان اليهود امام العالم ان هذه السياسة الخائنة لا يمكن التسامح معها، سيحارب السكان اليهود هذه السياسة إلى الحد الاقصى ولن يضنوا بالتضحيات لعرقلتها والقضاء عليه، ولن يشترك أي فرد من السكان في خلق أي إجهزة إدارية على أساس هذه السياسة ولن يتعاون معها احد".

كانت الحركة الصهيونية تعتمد على دعم أذرعها المتواجدة في الكثير من دول العالم، هذا بالإضافة إلى الولايات المتحدة التي بدأت في غرز مخالبها في هذه المنطقة بعد اكتشاف النفط في المملكة السعودية، وفي الوقت نفسه بدأت تأخذ في حساباتها الحركة الصهيونية وتخطيطاتها المستقبلية، بعد أن بدأت تأخذ دورا في العالم العربي، وفي الوقت نفسه من أجل تقليص دور بريطانيا في هذه المنطقة، لذلك لم تكن صدفة أن يقوم السفير الأمريكي في لندن وبأمر من الرئيس الأمريكي روزفلت في ذلك الوقت بتحذير الحكومة البريطانية من نتائج الكتاب الابيض السيئة على الرأي العام الامريكي، بالإضافة إلى ذلك عملت الحركة الصهيونية على شراء السلاح وأدخلته إلى البلاد بطرق مختلفة، من أجل مواجهة الجماهير الفلسطينية، أصحاب أرض هذه البلاد.

 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب