news-details

صوتٌ على كتف حديقة

 

 

نزلتُ في حديقةٍ فكريَّةٍ، نهلتُ من منابعها، تزيّنتُ بمبادئها وأخلاقها، وتعطّرتُ بثقافتها.

نزلتُ في حديقةٍ لا تعرفُ الرّضوخَ ولا الهرب، لا تعرفُ النِّفاق ولا الانتهازيّة.

نزلتُ في حديقةٍ معطاءةٍ تنثر عطرها على الجميع، يتحاور فيها البلابل وخرير الماء، البنفسج وشجر اللّوز، ويتعانق فيها النّسيم مع العبير.

نزلتُ.. وبتُّ أتوق إلى منزلي!!

 

هذه المحاسنُ التي أتوقُ إليها هي التي تعذِّبُ نفسي في أيّامنا السّوداء هذه، هي التي تملأ صدري بأوجاع التّأمُّل والتفكير، هي التي تنسج الألم صمتًا غاضبًا.

لم تعُد البلابل بلابل، والماءُ ماءً عذبًا، لم يَعُدْ الحوار رصينًا ولا الفكر واضحًا.

لقد تغيَّرَت معالم حديقتي، تغيَّرَت حلّتها!! لم تتحمّل أذني أصوات نشازٍ اقتحمت دياري، ولم يَرُق لي غبار تمدّد على النّهر العذب.

صرتُ غريبةً في دياري، أتوق لسادة الأمس، أتوق لصفحاتٍ نهلتها أيّامًا وأيّاما، لفكرٍ ترسّخ في ذهني.. أتوق لحديقتي كما كانت، بنقائها، بصوتها، بتاريخيها؛ أتوق إلى صورتي هناك وإلى صوتي، أتوق إليَّ في بيتي!!

أتوق إليها بدون شوائب، واحدةٌ ووحيدة! أتوق إليها كما هي، حمراء.. حمراء. أغسل بها فكري وأعطِّر بمبادئها دربي.

 

     حديقةٌ، تنحني تساند الضّعيفَ والمظلوم، تحارب الاستغلال والاستبداد، تقف في وجه عاصفة العنصريّة بكلّ أشكالها. تتحدّى الهجمات، وإن احتّلها زلزال ترفع الاختلافات على كتفها كما ترفع الأشجار أغصانها دون أن تنسى أصلها. وإن اتّخذها البعض ساحةً لمصالحه الشّخصيّة، وآخر ملعبًا لحروبه، تظلّ شامخةً، تمسح الأنانيّة، تنفض الفِتن، وتظلّ حمراء مثمرة في جميع الفصول. حديقةٌ لا يغيّرها الزّمن ولا تُعرّيها الفصول.

    من ورود هذه الحديقة، التي تنثر عبيرها بفرحٍ وبهدوءٍ، تعلّمتُ العطاء، من جذور أشجارها العنيدة تعلّمتُ الانتماء، من ألوانها المتعدّدة تعلّمتُ نعمة الاختلاف. ومن طيورها تعلّمتُ كيف أجوبُ عاليًا لأرى تفاصيل الأمور، فالأمور الصّغيرة كالبذرة تنمو وتكبر، لذا علينا الحفاظ على بذور الحبّ، الخير، العطاء، العمل والأمل، واقتلاع بذور الكره والشّر، بذور البخل والأنانيّة وبذور الخيانة.

    مَن لا يحلّق فوق حديقته كالطّير ليسكب نظرةً ثاقبةً، تبقى نفسه بعيدةً عن المعرفة، فيغرقُ في بحر الجهل مبتعدًا عن جذور هذه الحديقة، عن الحقيقة، فيصبح المبدأ شعارًا والفِكر غائبًا. من لا يُلقي نور فكره كالشّمس على دقائق الأمور، لن يرى الشّوك الذي يخنق الورد، ولا العفن الذي يتسلّق جذع الفِكْر، ولا أولئك الذين حَبِلَ بهم الجهل وتمخَّضت بهم الأنانيّة، فهؤلاء دمعة مالحة في عين التاريخ.

 

لم يبقَ لي شيءٌ سوى كلمات تغسل ذكريات تائهة في جيوب الزّمن، وأملٌ يحمل في عينيه دمعة رجاء وغضب.

لي غضبٌ يئنُّ في حروفي ولي تاريخٌ يطهّر عيوني، فالكلمةُ التي تصدر عن ألمٍ تكون صادقة، والتاريخ الذي تغسله عيون عاشقٍ غيورٍ يبقى طاهرًا.

لي أحلام في أكمام الزّهر، لي سماءٌ حزينةٌ، لي مطر مرٌّ، لي تاريخٌ يرهقُ حاضري، ولي صوتٌ على كتف حديقةٍ يعتريها الاغتراب.

(حيفا)

 

(الصورة:لوحة للفنان نبيل عناني)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب