news-details

طقوس عن طقوس تفرق: قراءة في طقوس الكتابة لدى الأسرى الفلسطينيين| د. مريم جبر

قرأت كثيرا. كثيرا جدا. ومع نهاية كل كتاب أو نص كنت دوما أحتاج بعضا من الوقت قد يطول وقد يقصر لكي أنفض عن نفسي ما علق بها من أثر الغرق في السطور، ولم أستطع رغم كل هذا العمر الممتد الآن خلفي إلا أن أستسلم لانفعال ما من أثر ما أقرأ، أحزن، أفرح، أبكي، أتألم، بل وقد أقضي أياما وأنا أفكر بحلول لخروج بطل الرواية مثلا من أزمته، أو أعيد في رأسي سيناريو القصة بعد أن أغيّر في حبكتها وأتصرف في مآلات شخصياتها، لأنتصر لبعضها وأدين أخرى غير آبهة بشيء سوى إنسانيتي، حتى لو تحوّلت الحكاية في رأسي إلى مجرد حكاية حب عربية في ختامها يتزوج الأبطال..

لكني حين قرأت نصوص كتاب الطقوس الأسيرة، اختلط عليّ الأمر، ووجدتتي أنتهي صامتة تتداخل في رأسي الأفكار وتتزاحم المشاعر، وأرتبك كأن لا برد ولا سلاما، وعليّ أن أحكي، أن أبكي، أن أفرح، أن أنهض من بين الصفحات لأتأكد أني ما زلت أتململ متكاسلة في فراشي الوثير، وأن الشمس من خلف ستائري تتسلل عاتبة لصدّ المنافذ في وجه ضياها، فأركض لفتح نوافذي مرحبة بخيوط نورها، وبالهواء أملأ صدري كأني للمرة الأولى أتتفس، أو كأني أختبر حقيقة أني هنا، لست وحدي، أتفقد هاتفي وأقلامي وأوراقي المتأهبة دوما لالتقاط نص عابر يراودني ذات إغفاءة أو حلم..

أجدني أسخر من استجابة دونتها يوما لسؤال عن طقوس الكتابة والقراءة، تلك الطقوس التي صرنا ماهرين في اصطناعها لنقنع أنفسنا والآخرين أننا مختلفون، نكتب فجرا أو سحرا والكائنات غافلة عنا، أو نختلس من فوضى الصغار وزغب ريشهم لحظات نغيب فيها لنصنع من ذلك الزغب أجنحة للطيران. نملّ الجلوس إلى مكاتبنا، فنلجأ لطاولة المطبخ أو مقعد الشرفة أو الحديقة، ويحدث في مثل جنوني أن أصحو من لحظة غياب في مدونة الهاتف على زعيق السيارات خلفي لحظة تحوّل الإشارة الضوئية للأخضر وسيماء الحركة فيه.. نتفنن في ملاحقة أمزجتنا ونتفنن في اختراع طقوسنا في متسع الوقت ورحابة الأمكنة،، ثم نشكو ضيق هذا العالم ونترجم على الورق نزقنا...

أي ترف نحن فيه يا سادة!

ماذا لو صحوت على أن لا هاتف أنقر على أزراره الضوئية لأقتتص لحظة ما، ولا ورقا أو أقلاما تتأهب على منضدة بجانب سريري، ماذا لو لا طاولة مطبخ هنالك ولا قهوة ولا حديقة ولا نوافذ ولا شمس، كيف إذن أكتب؟

ماذا لو صحوت فلا أجد بمواجهتي سوى جدران الصقيع، وبرش يعيد تشكيل عمودي الفقري، ورقيب يعد عليّ أنفاسي ويتتبع مواضع خطواتي وهي تتعثر بأجساد أقاسمها وتقاسمني كل هذا الضيق؟!

ذلك بعض ما تلبسني وأنا أقرأ طقوس الأسرى الذين يصير الليل مأواهم الكتابي بحثا عن نزر قليل من الخصوصية في مهجع يضيق بنزلائه ويصحو بين لحظة وأخرى على هجمات التفتيش، ليقطع محاولات استعادة الوقت بالمفرّق بعد أن كان سُرق بالجملة كما يقول الأسير أحمد العارضة. فلا طقوس هنالك، بل الكتابة بذاتها هي الطقس، أنت السجين طقس، والسجن هو أيضا طقس يحتفي بالفراغ المدوي بدل التفرغ لكتابة/تميمة تطرد الموت عن الحياة والحياة عن الموت، وتبحث عن المعنى الضائع في فضاء ينكمش فيه الزمان على المكان في سعي للخلاص من فراغ عبثي ثقيل.

إنهم يتخذون من الكتابة سلاحا لدفع اليد الثقيلة التي تمعن في (تفريغ الزمن الطويل من فوائده وتحويله لكم زائد يثقل على نفس الأسير ويدخله في حالة من التيه والضياع)- أسامة الأشقر- لتصير الكتابة أجنحة للتحليق في فضاءات أرحب بكثير من بعض الأحرار جسديا خارج جدران السجون، وأقوى من عيون رقيب لا يمل تفحص المكان بين لحظة وأخرى.

"أنا أكتب إذا أنا موجود

أنا أكتب إذا أنا جسر معلق بين ضفتي الوجود والخلود

أنا أكتب إذن أنا نار وشرار وبارود، أنا أشواك وأزهار وورود. أنا أكتب إذا أنا معصوم عن النسيان وعصي على الموت ومحجوب عن الفناء ومحصن من العدم. أنا أروي إذا أنا ينبوع من الدموع وسنوا من الشموع" الأسير أيمن الشرباتي.

"ما بين نزعة الحرية المتوهجة أبدا في روح الأسير وتصميمه على مقاومة القيد المفروض عليه، وفي ظل ضيق الحيز وانعدام العزلة وتباين الأمزجة  تتخلق طقوس كتابة تلاحق انثيال المشاعر الإنسانية المختزلة في أقدس قيمة هي حب الوطن والناس" حسام زهدي ياسين.

الليل وضوء القمر المتسلل من نافذة الزنزانة، وفقدان الخصوصية

الوحدة، الهدوء، النور، النهار، الحرية

كلها هواجس للكتابة تدفع السجين للتفنن في صناعة عوالمها أو تهريبها، الأقلام وقصاصات الأوراق وكتّابات الكرتون ونبض يتسلرع على وقع أقدام السجان وزفرات ارتياح كلما غابت أقدامه دون أن يلحظ الكتّابة المخبأة في زاوية ما من برش السجين.

كلها محاولات لابتكار حالـة طبيعيـة ضمـن شـروط غيـر طبيعيـة، في مساحة

مفتوحـة للاسـتباحة والانتهاك، هنالك حيث تنهض السيدات الجميلات من مخطوطات السجين، وينثرن سحر عبيرهن الأخاذ يُسكرنه كل ليلة حتى لا يعود يرى غيرهن، هنالك يصير الحلم صرخة:

"متــى ســأرى الوجـوه دون شـارب؟ والسـماء دون حاجـز؟ وضحكـة الطفـل علـى الحقيقـة؟ والـوردة؟"

حين تقرأ هذه الطقوس لا تملك إلا أن تنكمش على نفسك تتضاءل تختنق وأنت تتمثل الحالة، ثم ما تلبث أن تصحو مرعوبا تتفقد تفاصيل حياتك، تضع يدك على صدرك وأنت تجد أبناءك في الغرف المجاورة يمارسون فوضاهم المحببة، وتتفقد هاتفك فتجد العالم يحتفي بك، وأنت تحقق منجزا جديدا في حياتك أو عملك..

أرأيتم كم نحن مسجونون في ذواتنا وفي نرجسيتنا وأوهام طقوسنا في الكتابة والحياة..!

أرأيتم أية معان تحملها الطقوس حين تكون لحظات مهربة من صلادة القضبان وخشونة الحياة تحت وطء ثقل الزمان وضيق المكان ومرافقة مـن لا يوافقـك ولا يفارقــك!

أرأيتم كم هو ضيق وبائس هذا السجن الكبير الشاسع الذي نتحرك في أرجائه!!

أرأيتم كم تضيق العبارة ويرتبك الحرف كلّما قاربنا الحقيقة!!

أرأيتم كم.. وكم.. وكم.. طقوس عن طقوس تفرق!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب