زعم بعض المفسّرين بأنّ السنور خُلِق من عطسةِ الأسد، لأنّ أصحاب سفينة نوح لمّا تأذّوا من كثرةِ الفئران على السفينة وشكوا إلى نوح ذلك، سأل ربّه الفرج، فأمره أن يأمرَ الأسد ليعطس. فلما عطس خرج من منخريه زوج سنانير: ذكر وأنثى. خرج الذّكر من المنخر الأيمن، والأنثى من المنخر الأيسر. ومن فطنةِ أهل التفاسير في ذلك الزمان، أنّهم لا حظوا الشبه الكبير في الخلقة بين الأسد والسنور، وهي ملاحظة تدل على فطنة على كلّ حال!
وقد علّق الجاحظ في كتاب "الحيوان" على عطسةِ الأسد التي أخرجت السنور إلى الوجود: "لا يجوز لشيءٍ خُلِق من الحيوان أن يُخلَق من غير الحيوان. ولا يجوز أن يكون شيء له في العالم أصل أن يؤلّف الناس أشياء تستحيل إلى مثل هذا الأصل. فأنكروا من هذا الوجه تحويل الشبه أيّ النحاس الأصفر ذهباً، والزّيبق فضة".
السّنّور: واحد السنانير، وهو الهرّ، وجمعه: هررة. والأنثى: هرّة، وجمعها: هرر. وهو القط، والجمع: قطاط، وقططة. وكنيته: أبو خداش، وأبو الهيثم، وأبو شماخ. وقد تعدّدت أسماؤه، ومن الطريف في هذا الباب ما يُحكى في كتاب "بحار الأنوار" للعلامة محمد باقر المجلسي، في الجزء الثاني والستين في الصفحة السابعة والستين: إنّ أعرابياً صادَ سنورًا فلم يعرفه فتلقاه رجل فقال: ما هذا السنور؟ ولقى آخر فقال: ما هذا القط؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الهر؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الضيون؟ ثم لقى آخر فقال: ما هذا الخيدع؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الخيطل؟ فقال الأعرابي: أحمله وأبيعه لعل الله تعالى أن يجعل فيه مالاً كثيراً، فلما أتى به إلى السوق قيل له: بكم هذا؟ فقال: بمائة درهم فقيل له: إنه يساوي نصف درهم، فرمى به وقال: لعنه الله ما أكثر أسماءه وأقل ثمنه.
واليوم عندما يُحاول علماء البيولوجيا التطوّرية الإجابة عن سؤال كيف نشأ هذا النوع، فإنّهم يصنعون حكاية علمية تاريخية لمسيرة التطوّر في الطبيعة، وبحث عن شجرةِ نسبٍ لهذا النوع. وقد أوضحت دراسة المورثات لعالم السنانير البرية (القطط) تفرّع شجرة نسبها. وقد تمكّن العلماء من تجميع الأنواع السبعة والثلاثين التي تؤلّف عالم القطط البريّة في ثماني مجموعات أو خطوط أنساب. هذه المجموعات محدّدة حصراً بالتحليل الجزيئي دي إن أي (الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين)، وتشترك غالباً في خصائصها المورفولوجية والبيولوجية والفيزيولوجية التي لا توجد إلا في مجموعتها، فمثلاً يضم أحد الخطوط جميع السنانير الكبيرة الزائرة التي تمتلك صفة الزئير: الأسد والبَبْر والنمر والجاكوار والنمر الثلجي، وهي تشترك جميعاً في وجود عظم لاميّ ناقص، وهو عظم موجود في العنق يدعم اللسان، وهذا يؤهلها للزئير. لقد حدّدت مقارنة متوالية الجينات خطوط الأنساب وترتيب نشوئها. واعتماداً على المعايير الأحفورية، تحدّد الزمن الذي ظهرت فيه، وكيف آلت إلى خريطة توزعها الحالي حول العالم.
وقد جرى تحديد التوزّع الحالي لكلّ نوعٍ من السنانير ومكان ظهور أسلافها من بقايا الآثار الأحفورية. واعتماداً على وجهة نظر الجيولوجيين الذين اتخذوا تركيب توَضع الرسوبيات دليلاً على ارتفاع مستوى سطح البحار وانخفاضه، فعندما كان مستوى سطح البحار منخفضاً كانت تظهر جسور أرضية تربط القارات، وتمكّن الثدييات من الهجرة نحو حقولٍ أو ميادين جديدة، وعندما يعود مستوى سطح البحار إلى الارتفاع كانت الحيوانات تنعزل مرّة أخرى. لقد بيّنت دراسة الفقاريات أنّ الانعزال في القارات أو الجزر يوفّر الشروط اللازمة لميل عشيرة ما للانجراف وراثياً إلى حدٍّ ينتهي بها إلى جعلها غير قادرة على التزاوج مع الأخلاف المعاصرة لأقربائها السابقين، وهذا يعني تكوّن حاجز تناسلي، وهو السمة المميّزة لنشأةِ الأنواع.
وقد جرت مياه كثيرة في هذا الباب، ومضى على صدور كتاب "أصل الأنواع"، من تأليف تشارلز داروين ما يزيد على قرن ونصف القرن ولا يزال البعض يُجادل حول آليات ومقتضيات نظرية التطوّر، وليس حقيقتها، في حين أنّ معظم الجمهور لا يزال يتخبّط في جهالة ما قبل الداروينية. واليوم لا يستطيع أحد أن ينكر أنّ كتب تشارلز داروين أحدثت انقلاباً حقيقياً، كثيراً ما يُوصف بأنّه أهم الثورات العلمية جميعاً.
في كتب تشارلز داروين العديد من الشواهد المؤيّدة لفكرة استمرار تطوّر الأحياء عبر الزمان. واكتشف البيولوجيون مزيداً من الشواهد الدالة على أنّ هذا التطوّر قد حدث بالفعل. فهو حقيقة، والحقيقة في المعجمات: الشيء الثابت يقيناً، حقيقة الشيء: خالصه وكنهه. وفي الحقيقة لم تعدْ هناك حاجة إلى إثبات التطوّر، فقد انتهى الحديث عنه كنظريّةٍ، لأنّه أصبح حقيقة راسخة رسوخ حقيقة كروية الأرض ودورانها حول الشمس. التطوّر حدثَ ويحدثُ بالفعل ولا مجال لإنكاره. قد تُجادل في بعض التفاصيل التي جاءت في كتب تشارلز داروين وهذا حق، أمّا أن تُجادل في مفهوم التطوّر حقيقة علمية، فاسمح لي أن أقول لك: هذه كركبة فكرية عليك التخلّص منها الآن، حيث لا فائدة منها. التطوّر حدث، ويحتاج إلى الكثير من الشروحات ليُفهم. إنّ محاولة شرح فكرة التطوّر لشخص لا يريد أن يفهم من أصعب المسائل على هذه الأرض. ومن طريف ما يُحكى أنّه في أوائل القرن التاسع عشر كان مفهوم التطوّر غير مألوف تماماً. وقد كتب تشارلز داروين لأحد أصدقائه عن حقيقة الاعتراف بفكرة التطوّر: إنه يشبه الاعتراف بجريمة قتل.
إضافة تعقيب