news-details

علي هيبي:  بين شعرية القمع والتحرّر | إبراهيم طه

على العموم:

شاعرية علي هيبي تتّجه بإصرار عنيد نحو التجريب الجريء في أنماط التعبير والأعراض. أما الأغراض عنده فهي في حالة استقرار،  ليس لأنّ المعاني كلها ملقاة على قارعة الطريق فحسب بل لأنّ مآسينا ظلّت على حالها هي هي، تتراكم باستمرار واستقرار منذ عقود. والأصل في التجريب الكتابة المؤقّتة. ومنطق الكتابة المؤقّتة تسلسلي في طبعه، كلّ تجربة هي حلقة تمهّد لما يليها من تجارب. ومنطق التسلسل يُقحمه فضاءاتٍ جديدة على نحو ما فعله في محاكاة النصّ القرآني. والحكي هنا ليس عن استيعاب القاموس اللغوي القرآني وإنما عن محاكاة الأشكال في السور القرآنية كبنى ونُظُم وأنماط. وهذه المحاكاة هي من أنماط التناصّات الشكلية الهيكلية. وفي كلّ تناصّ فعل إغارة وإعارة. حين يغير على هيبي ويستعير من القرآن الكريم ومن غيره تتناسل تجارب شعرية حديثة. والكتابة بصفة عامة تكتسب صفة الأمومة، بتعبير جوليا كريستيفا، من حيث هي نتاج تلاقح مستمرّ بين النصوص. والحديث عن التناصّات بصفة خاصة، بوصفها فعل دخول واقتحام، يمنح صفة الأمومة في الكتابة معنى عمليًا ثلاثي الأبعاد. التناصّات اللغوية والثيماتية والفكرية والشكلية الهيكلية، على النحو الذي يعتمده علي هيبي، هي فاعل التجريب وعامل التحديث.  

هكذا صار التجريب عنده رديفًا للتحديث. لأنّ الشعر فنّ استفزازي لا بدّ لحركته أن تنتظم في التنقّل الدؤوب من المؤتلف إلى المختلف. قالها فكتور شكلوفسكي منذ عقود طويلة "الشعر يتآكل ويهترئ بالاستعمال المكرور". علي هيبي، ككلّ شاعر حريص على مشروعه الشعري، في حالة بحث وتنقيب عن الجديد المختلف في الأشكال والأساليب والأدوات والأعراض الجمالية. وهذه لا يمكنها أن تستقرّأو تقرّ. وحتى يكون له ذلك دأبالشاعر على أمرين اثنين: التفكّر والتفاكر. والتفكّر هو فعل إنصات وتحديق. وهو من إرهاصات التورّط اليومي في الواقع. مثلما قال نجيب محفوظ مرّة: "أنا لا أحتاج للكتابة أكثر من النزول إلى الشارع والجلوس مع الناس على القهوة". وهذا التورّط في الواقع هو ما يدفعه إلى مزيد من التأمّل والتفكّر. ثمّ التفاكر أو التلاقح الفكري في الانكشاف المستمرّ على تجارب الآخرين بالقراءة. وهذان الشرطان القبليّان ظاهران بقوّة في كلّ مجموعاته الشعرية. على هيبي يتّجه بخطى حثيثة نحو شاعرية ناضجة وعميقة، تذكّرني في بعض ملامحها بشاعرية المرحوم سميح القاسم. وهذا موضوع يحتاج إلى دراسة نصّية منفصلة. ولأني من الذين اجتهدوا في متابعة المشروع الشعري الضخم عند سميح القاسم وتأصيل شاعريّته بالعربية والإنجليزية، مثلما أجتهد في متابعة شاعرية علي هيبي، أجزم أنّ الدراسة المقارنة من الضرورات الموجبة. 

من يتابع التجربة الشعرية عند علي هيبي من بداياتها حتى الغد، حتى المجموعة الجديدة المرتقبة التي لمّا تصدر، يلاحظ حركته المكوكية اليقظة والنشطة بين حدّي المفتوح والمغلق. وهكذا وجدتُني أخطّط بشيء من التلهّف للكتابة عن سيميائية النصّ المفتوح والنصّ المغلق وانعكاساتها في مجموعته الشعرية الأخيرة "أنا مع الحسين ولستُ مع يزيد". حتى أنني كتبت بعضًا من الملاحظات حول ماكتبه كلٌّ من جوليا كريستيفا وأومبرتو إيكو ورولان بارث بهذا الخصوص، ثمّ عدلت عن الفكرة بسرعة. عدلت وتركت الأمر للبحث الجامعي، حين تذكّرت بعض الملاحظات التي كنت أسمعها في كلّ ندوة أو محاضرة أو مداخلة عن "مشكلتي مع المباشرة"، مثلما قال لي أحدهم في ندوة في الناصرة قبل سنتين ببعض العصبية والغضب. ولأنّ الحديث عن المفتوح والمغلق من منظور سيميائي، مثلما خطّطت له وليس من منظور شكلي ولا بنيوي، أي عن الطرائق التي تتشكّل بها المعاني في كلّ من القصيدة المفتوحة والمغلقة، كان لا بدّ أن تقفز إلى الذاكرة، باقتحام عنيف، مصطلحات ذات صلة كالمباشرة والغموض والإبهام.

ذكرتُ سميح القاسم، الذي يذكّر به علي هيبي في بعض شاعريّته، والقاسم لا يرى في المباشرة ذاتها لا خطأ ولا خطيئة لا على مستوى المبدأ ولا على مستوى الفعل. والمباشرة تعني في تجربته قناة تواصل شرعية مع الطبقة العامة التي ينتمي إليها ويكتب عنها ولها. وبوصفها قناة تواصل لا بدّ من تهذيبها بصفة مستمرّة حتى تضطلع بمهمّاتها وغاياتها على أحسن وجه ممكن. وهكذا كان القاسم يحرص باستمرار وإصرار على تجميلها بأدوات حداثية مستحدثة. وهنا تكمن شاعريته العظيمة. معنى الكلام أنّ المباشرة ليست لعنة في ذاتها، والحكم عليها ينبغي أن يتّجه إلى زاوية النظر والطريقة التي تُفعّل بها كقناة تواصل شرعية وضرورية. كما قال سارتر بالضبط. وفعل التجميل المحسوب هو فنّ التحايل على عصبية الموقف وضجيج الأيديولوجيا بأدوات تلفيع سمّيتها أدوات تعويضية. وهذا ما قلته أيضًا وأعدت قوله وتفصيله في معاينتي الطويلة لأدب محمد نفاع. وهكذا يُفهم من كلامي، أو ينبغي أن يُفهم، أنّ المباشرة في ذاتها ليست جريمة، ولا مشكلة مبدئية بيني وبينها. وليطمئنّ ذاك الرجل الطيّب الذي تعصّب عليّ وغضب. ليست الكتابة المباشرة خيارًا بين خيارات متاحة ومتروكة للمشيئة الفردية لأنها من الوجوب أصلا. إنك لتجد القول الصريح المباشر، أو بعضًا من أشكاله، في كلّ فعل أدبي وإلا تحوّل الأدب إلى منظومات مبهمة عصيّة على الفهم. المشكلة في المباشرة إذا تُركت وحدها مصلّعة جرداء عنيفة اقتحامية قمعية قهرية. 

 

من العموم إلى الخصوص:

والآن، أحاول أن أرتّب أوراقي في ثلاثة أسئلة كبرى أجيب عنها من مجموعة علي هيبي الأخيرة بإجابات برقيّة تؤسّس لدراسة متأنّية ومطوّلة: (1) ما هي المباشرة وكيف تظهر في قصائد المجموعة؟ (2) ما المشكلة فيها؟ (3) كيف يحتال عليها الشاعر ويخفّف من احتقانها، أو يلطّف آثارها وتبعاتها، وكيف يتجنّبها أصلا دون الانزلاق إلى مهاوي الإبهام؟ أعني كيف يقيم التوازن بين الغموض والوضوح أو التمنّع والرغبة؟ 

السؤال الأول: ما هي المباشرة وكيف تظهر في بعض قصائد المجموعة؟ يدرك علي هيبي بعمق عمق هذه المسألة وهو يعبّر عنها واعيًا بقولٍ على قول في قصيدته الأولى "أنا مع الحسين ولست مع يزيد". والقول على القول هو أسلوب الكتابة عن الكتابة، هو الذي نسمّيه "الميتا". وللميتا فوائد كثيرة ولها مضارّها إن أساء الشاعر تشغيلها. في بعض القصائد يتنفّس علي هيبي من حنجرته بقصدٍ غيرَ مكترث، ويترك الأنف لقصائد أخرى. يتنفّس ويشهق ويزفر من أوتاره الصوتية. وحين يتنفّس علي هيبي من حنجرته يرفع صوته صاخبًا، يشخر يرافقه صدى حادّ. وهكذا يأتي الصوت نقيًا واضحًا وفي صداه ارتجاجات تثبّت الصوت وتكرّره لمن فاته السمع. ولعلّ قصيدته تلك، والتي مثلما يبدو أعجب بها صاحبها أكثر من غيرها إلى حدّ جعله يسمّي المجموعة كلها باسمها، هي أبرز القصائد التي تعتمد في مباشرتها على صخب الصوت وصداه المكرور.  يقول وفي نبر القول شيءٌ من العِند والتحدّي: 

أنا واضحٌ كلّ الوضوح

وكلامي لا يريدُ

لا تحليلَ

لا تأويلَ

لا شروحْ

أنا واضحٌ كلّ الوضوح

تتهيكل المباشرة في هذه القصيدة، وفي غيرها،هيكلة ثنائية:اللغة والبنية. أما المستوى اللغوي فهو حزمة من الأدوات: (1) القاموس اللغوي. لغةعلي هيبي معجمية مسحوبة من القاموس بما تحمله من معانٍ واجبة موجبة. ومن أمثلتها الصاخبة:  قوله "لستُ مع" و "أحاربُ" في مقابل قوله "أنا مع" و "أعشق". (2) المعتمد البلاغي، من استعارات وكنايات وتشبيهات ومجازات على أنواعها، يستند إلى الموروث الشعريّ العربيا لأصيل وإلى الخطاب القرآني الرصين، وكلاهما مألوف في الذاكرة العامة حاضرٌ فيها بقوّة. (3) النبر الخطابي التقريري الترشيدي. وفيه تحذير وحضّ، فيه أمر ونهي، فيه "افعل ولا تفعل"، فيه ما يفضح المستور من القول أو ما ينبغي أن يظلّ مستورًا ومستترًا. (4) لكلّ مقام مقال. الإيقاع في القصائد اللاهثة منفعل. وهذا الإيقاع سريع متسارع، وأحيانًا متسرّع، لأنه يتناغم مع الموقف والظرف أو المقام. علي هيبي لا يهدّئ من روع المقام وضجيجه بقدر ما يرفع صوته على صوت المقام...

أما المستوى البنيوي فيظهر في حزمة ثلاثية: (1) القصيدة المباشرة هي على العموم نموذج ثنائي أفقي. و"ثنائي" تعني المقابلة بين خصمين أو ضدّين. أما "أفقي" فتعني وضوح المسار في ترسيم الأنا بغير لبس: "من أنا؟ ماذا أكره؟ وماذا أحب؟" وعلى أساس هذه الإستراتيجية تتحرّك الأنا الشاعرة في مواجهتها للخصوم. (2) التفاضل والتكامل. حين يرسّم الشاعر خريطة الخصومة أو العدواة، ويودعها بتفاصيلها في ثنايا النصّ نفسه، يتحقّق مبدأ التفاضل والتكامل. وحين يتبدّى طرفا التفاضل تتكامل البنية. وهكذا كان الحسين مقابل يزيد. والحسين مثال الإنسانية الأممية النقيّة ويزيد مثال لكلّ من يحكم بالفتاوى الحارقات ويستعبدون الناس. يزيد مثالٌ جامع لسلطة الدين وسلطة الدنيا. تحديد طرفي الخصومة هو تصريح يجافي التلويح ويُقصيه. هو فضح يجانب الستر. وهو اقتحام الشاعر لشعره. هو غلبة القلب النابض على سكينة الروح. (3) البنية المكرورة. تكرار المقطع الاستهلالي، بكلّ وضوحه وصراحته، يجعله لازمة نصّية مبثوثة على امتداد النصّ كله. ومن لم يسمع فليسمع وليفهم. علاوة على تكرار البنية الثنائية نفسها، "أنا لستُ مع" و "أنا مع"، ولا يتغيّر في هذه البنية أو يتبدّل إلا الأمثلة فقط، أعني أمثلة الحسين ويزيد. (4) التذييل يُجمل الحكمة العامة في القصيدة ويجمعها في تركيب تلخيصي واحد "أحارب الملوك والفساد/والتكفير والدواعش/أنا واضح كلّ الوضوح". بهذه الصيغة وبهذه البنية يفرض النصّ على قارئه موالاة فكريّة وولاء لا يملك معه إلا أن يوافق حين يشقّ عليه الرفض.

السؤال الثاني: أين"المشكلة" في هذهالمباشرة؟ الإجابة عن هذا السؤال في مسارين: المسار المبدئي والنظري والمسار الإجرائي الفعلي. إذا كان الأصل في الشعر الحديث المحدث، مبدئيًا ونظريًا، هو القول المهموس، الذي ينهض على معاني المكر والالتفاف، تأتي المباشرة لتعطّل المأمول وتعمّق خيبة الأمل وتسدّ أفق التوقّعات. وكأنّ القارئ كان ينتظر قصيدة يتناجى بها مع الشاعر، ويتراسل معه بالأفكار والمواقف، لتأتي المباشرة وتهدم رغبته القبْلية على مستوى المبدأ. وفي المباشرة انحيازٌ متسرّع. وفي هذا الانحياز خضوع مبدئي وقبلي للصوت الداخلي الغاضب وإذعان انفعالي للمناسبة المستفزّة. وهذا الخضوع يعكس ضعف الكاتب بصفة نظرية أمام الظرف ويبدي قصوره أو عجزه عن كظم غيظه. ومن لم يكن قادرًا على كظم غيظه في شعره جعل شعره شعارًا. أما على المستوى الفعلي الإجرائي فالمباشرة في المحصّلة الأخيرة هي فعل مواجهة على جبهتين: بين الخير والشرّ، الذي لا يحدّ حدودهما إلا الشاعر نفسه، وبين الشاعر والقارئ، الشاعر المعلّم والقارئ المتعلّم. وهكذا تبدو المباشرة في عيني القارئ، الساعي إلى تفاعل وتساؤل والرافض لفعل التلقين الهرمي، سطوًا مسلّحًا على حقّ. طرفٌ يسطو على طرف. وإذا كان الشاعر يمقت السطو والبغي والقهر، مثلما يقول في قصيدته، فلا بدّله أن يُقسط في معاملته ويمنح القارئ حقّه في الاجتهاد وترسيم الحدود بين الخير والشرّ. على الشاعر أن يقرّ معادلة الأخذ والعطاء. غير أنّ ما يفعله الشاعر في المباشرة هو  العطاء المصحوب بالصياح. يعطي ولا يأخذ. يوصي بقوّة التنبيه والترشيد والتحذير. ترسّخ المباشرة هرميةً من شاعر عارف إلى قارئ جاهل. من فوق إلى تحت. هكذا تصير المباشرة أداة قمع والقصيدة مشروع هيمنة... وهذا شعورمحبط.

السؤال الثالث: كيف يحتال عليها ويخفّف من احتقانها أو يلطّف آثارها وتبعاتها، وكيف يتجنّبها أصلا دون الانزلاق إلى مهاوي الإبهام؟ أعني كيف يقيم التوازن بين الغموض والوضوح أو التمنّع والرغبة؟ حتى يخفّف الشاعر أو الكاتب من آثار هذه المباشرة، وحتى يقيم التوازن بين الأغراض والأعراض لا بدّ من تفكير تعويضي يُترجَم إلى إجراء. وأول هذه الإجراءات تلفيع المباشرة ولفّها بأدوات التفافية. وقصيدة "السيّد قام" نموذج موفّق لذلك. فيها على مستوى الأغراض كلّ ما تجده من أفكار ومواقف ومبادئ في بقية قصائد المجموعة، غير أنّ الفرق بين هذه القصيدة والقصائد الأخرى هو في الدخول إلى التفاصيل وما يصاحبها من خطاب جهري. حين تتزاحم التفاصيل على سطح القصيدة وتتدافع، ويصير الاحتشاد والاصطفاف من سمات الهيكلة العامة، تصير القصيدة مباحة ومتاحة. مباحة بوفرة ما تعرضه من تفاصيل دقيقة. والإصرار على التفاصيل هو ما يحبس القصيدة في حيّز مغلق ويضبط الحركة أفقيًا من شاعر عالم بكلّ شيء إلى قارئ غرّ غريرٍ لا يحسن التدبير. حين أسقط علي هيبي من قصيدته "السيّد قام" بعضًا من المواصفات اللغوية والمبنوية، التي ميّزت المباشرة في قصيدة "أنا مع الحسين ولست مع يزيد"، انفتحت القصيدة على فضاءات جديدة وأتاحت للقارئ حركة مبدئية أكثر نشاطًا وتفاعلا ويقظة. حين تراجعت التفاصيل الدقيقة في هذه القصيدة عظمت قدرتها على التفاوض مع القارئ. والتفاوض من ضرورات التفكير الإنتاجي. تخليص القصيدة من المعطيات الفاضحة وتحريرها من تبعات القهر هو هو مامنح القصيدة خاصّية المخاتلة. وهذه أولى أسباب الأخذ والعطاء... في مجموعته المرتقبة "ابن رشد يورق في الاحتراق" يجتهد علي هيبي في التحايل على القول المباشر ويقترب بثقة من قطب "السيّد قام" ويتجاوزه إلى ما هو أجمل. وفيها أظهر قدرًا كبيرًا من التمهّر والاحتراف. وستكون المجموعة قفزة عريضة وجميلة في محاولات التهذيب والتشذيب والتجريب المستمرّة.  

 

على العموم كرّة ثانية:

 أرهقني البحث في الأشكال الشعرية على امتداد عقود، أرهقني حتى اللذّة. قبل سبعة وعشرين عامًا نشرت كتابًا عن الموضوع وانعكاساته في تجربة الدكتور فهد أبو خضرة. ولاحظت وقتها أنّ الشعر قد ينصرف في أربع بنى تتباعد باطراد: بنية التماسّ والتقاطع والتوازي والانزياح. ومثّلت لكلّ بنية بجملة من القصائد. لكنّ هذا التقسيم الرباعي هو اجتهاد مؤسّس على حالة عينية. ويمكن في الحقيقة مدّه إلى أقصاه حتى تصير كلّ قصيدة بنيةً مستقلّة في ذاتها لا تتطابق مع أيّ قصيدة أخرى، لا قبلها ولا بعدها، رغم التشابه الذي قد يجمع بينها. وفي وقت لاحق جعلته ثلاثيًا: النصّ المباشر والنصّ المجاور والنصّ المغاير وطبّقته على الخطاب القرآني على سورة الإخلاص تحديدًا. وهذا التقسيم الثلاثي مردود إلى جهود الغزالي ونظرته الثلاثية إلى المعاني. وعند الانتقال إلى معالجة التجربة الشعرية الغنية لسميح القاسم غيّرت التسميات، وتحدّثت عن قصيدة المقام والمناسبة والحال. أما في النقد الغربي الحديث فقد قامت جهودهم على ثنائية المفتوح والمغلق. وهما مفهومان متقاطعان ومتوازيان في الوقت نفسه، رغم ما في الأمر من مفارقة أو ارتباك يعرفها كلّ دارس لنظريات الأدب. لا تشغلني الأشكال في ذاتها، ولا تشغلني البنى من حيث هي ترسيمات مجسّمة للأشكال. لا تشغلني إلا بمقدار ما تتفاعل مع الوظائف والغايات. وهذا لا يعني العودة إلى مربع الغائيّة بمفهومها الضيّق، لأنّ الغايات في ذاتها لا تشغلني مفصولةً عن عللها. وكلّ قطع بين العلة والمعلول هو قطعٌ بين الشكل والمضمون. وأيّ قطع بينهما يتّكئ على فهم مشوّه لطبيعة الفعل الأدبي... في هذه المقاربة العاجلة لديوان علي هيبي عدت إلى التفكير الثنائي في التعامل مع الخطاب الشعري، من باب الاختصار والعجلة، وهو تفكير مؤسّس على قطبي المفتوح والمغلق. سأعود إلى التوجّهات الثلاثية وربما الرباعية في دراسة متأنّية غير مستعجلة إن شاء الله.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب