news-details

عن الإثيوبيين ودولة الاستعمار الكولونيالي


 في الأسابيع القليلة الماضية امتلأت الصحف الاجنبية وبالذات صحف الكيان الصهيوني بقضية مقتل أحد الشباب الإثيوبيين اليهود من قبل شرطي "إسرائيلي"(بزي مدني)، ما أدى الى مظاهرات عارمة في أماكن عدة في البلاد. للكثير من القراء كان هذا الخبر صادما أو غريبا أو جديدا. وكان لوصف الإثيوبيين الدولة بالعنصرية على بعض المتابعين لهذه القضية وقع خاص ومستغرب.

صحيح ان هذا الشاب كان مواطنا عاديا ولم يشكل أي خطر على أحد. ولو كان مواطنا أصليا فلسطينيا لربما قلنا: "هذا هو الواقع الفلسطيني في دولة العنصرية الصهيونية". ولكن ما هو واقع اليهود غير الأشكنازيين، أي اليهود الشرقيين (وغالبيتهم من العرب)، وأصحاب البشرة السمراء؟ في هذه المقالة سأتطرق لبعض جوانب واقع اليهود الشرقيين وبالذات الإثيوبيين تاريخا وحاضرا، لألقي الضوء على دورهم في دولة الاستعمار الكولونيالي.

 

 

في العقدين الثامن والتاسع من القرن الماضي (١٩٨٦-١٩٩٤) وبعد صفقات مع الحكومة السودانية آنذاك كانت الدولة الصهيونية قد نظمت تسفير عشرات آلاف "اليهود" الإثيوبيين من إثيوبيا إلى السودان وأبقتهم سنوات عدة في مخيمات لجوء إلى أن وطنوهم في فلسطين

 

 

بعكس مئات آلاف اليهود الشرقيين والذين أحضروا بالقوة من البلدان العربية كجزء من الاستعمار الكولونيالي في أوائل ستينات القرن الماضي، إلا أن الهجرة الإثيوبية أو بالأحرى جلب المستوطنين الإثيوبيين من بلادهم إلى فلسطين كان قد بدأ في أوائل عشرينات القرن الماضي. فبعد وعد بلفور (١٩١٧) وتمكين العصابات الصهيونية من إحتلال بعض الأراضي الفلسطينية، سارعت المنظمة الصهيونية آنذاك والتي سميت لاحقا بالمنظمة اليهودية إلى البحث عن يهود كأيدي عاملة رخيصة لتقوم بالأعمال الجسمانية كالزراعة والبناء لتعوض عن الأيادي العربية في العمالة اليهودية الناشئة. إذ أن البنود الرئيسية التي اعتمدتها المنظمة الصهيونية وأدواتها، كمثال الهستدروت (المشغل الرئيسي في الاستعمار الصهيوني في فلسطين) كانت مبنية على جعل فلسطين أرضا يهودية يسكنها ويعمل فيها اليهود فقط. وفي هذه السياسة العنصرية يقصى العربي الفلسطيني من أرضة ويرمى خارجها. ومن هنا جيء بحوالي عشرين ألف إثيوبي عام 1924 لهذا الهدف. ولكن ومن اللحظات الأولى لاستقدامهم لم يكن الهدف معاملتهم كيهود مثل بقية اليهود الأوروبيين بل أبقوا في أماكن عملهم وأسكنوا في خيم، محرومين من أبسط الشروط الإنسانية المعيشية.

استمر الوضع المتردي للإثيوبيين على حاله حيث انشغلت دولة الاحتلال بحروبها الاستعمارية وقضم المزيد من الأراضي العربية عامة والفلسطينية على نحو خاص. وفي العقدين الثامن والناسع من القرن الماضي (١٩٨٦-١٩٩٤) وبعد صفقات مع الحكومة السودانية آنذاك كانت الدولة الصهيونية قد نظمت تسفير عشرات آلاف "اليهود" الإثيوبيين من إثيوبيا إلى السودان وأبقتهم سنوات عدة في مخيمات لجوء إلى أن وطنوهم في فلسطين. أود الإشارة هنا إلى أني أضع كلمة يهود بين مزدوجين ليس لأني أنكر يهوديتهم في بلادهم الأصلية بل للتأكيد على عدم قبولهم كيهود من الحاخامات الأشكنازية المهيمنة في دولة الكيان الصهيوني العنصري. ومنذ اللحظات الأولى لتخطيط هجرتهم إلى فلسطين وحتى يومنا هذا فقد كانت معاملتهم من الدولة ومؤسساتها غير إنسانية وغير أخلاقية وشبيهة بمعاملة الغرب الاستعماري الكولونيالي للسود الأفارقة بل وفي بعض الأحيان شبيهة بمعاملتهم للسكان الأصليين.

فحتى وهم في مخيمات اللجوء كانت الدولة ترسل لهم أطباء وطواقم طبية لتجري لهم فحوصات تهدف في العديد من الحالات إلى حقن النساء بمصل الديبو-بروفيرا (حقن تحوي كيماويات لمنع الحمل لمدة طويلة) بهدف تقليص الأطفال السود للدولة التي أرادوها أشكنازية بيضاء (شبيهة بالغرب). ولقد استمرت هذه السياسات إلى وقت قريب. فقد أشارت بعض الإحصائيات عام ٢٠١٠ أن استعمال حقن منع الحمل لمدد طويلة قد تزايدت أضعافا عما كانت عليه وأن ٥٧٪ من مستعمليها هم من اليهود الإثيوبيين والذي لا تتعدى نسبتهم الإثنين بالمئة من السكان. من الجدير ذكره هنا أن هذا المصل كان قد استعمل في أماكن أخرى تحت الاستعمار الكولونيالي وبالذات في الحكم العنصري لجنوب أفريقيا. فبالإضافة إلى التمييز ضد اليهود الإثيوبيين بالعمل والمسكن والطبابة والتعليم وكذلك استعمالهم، كما بقية اليهود الشرقيين كفئران في مختبراتهم الطبية لتجريب أدويتهم، يظهر أن الدم الإثيوبي اليهودي لم يقبل كدم كيهودي. فمنذ عشرات السنين تجلى أن الإثيوبي لا يحق له التبرع بالدم، وأن الدم الذي أخذ منهم جرى إتلافه وعدم استعماله. هنالك الكثير من رجال الدين وبالذات الأشكنازيين وكذلك شريحة ليست بالصغيرة من المجتمع الصهيوني ما زال يؤمن بأن الدم الإثيوبي ملطخ بالHIV (فيروس نقص المناعة البشرية). بدأت بعض هذه القضايا بالتجلي في عام ٢٠٠٨ عندما كشفت المسؤولة في إحدى الحضانات التابعة لأحد المراكز أن عدد الأطفال المنتمين لم يتغير لسنتين وعندما استفسرت عن الأمر علمت أن ٥٥ عائلة إثيوبية في البلدة (مستعمرة راس العين) قد تعرضت نساؤها لتلك الحقن المانعة للحمل. ولكن الطامة الكبرى ظهرت عام ٢٠١٣ عندما تقدمت النائبة اليهودية من أصل إثيوبي للتبرع بالدم مع عدد من نواب الكنيست الآخرين لتقابل برفض دمها. وعندما قابلت المسؤولة قيل لها: "هذه تعليمات وزارة الصحة".

فمنذ عهد طويل وبالذات بعد الهجرة/الاستيطان الكبير والذي يقدر بحوالي ٩٠٠٠٠ مهاجر/مستوطن إثيوبي إلى فلسطين بين ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، والذين يبلغ عددهم الآن ما يقارب الـ١٦٠٠٠٠ مستوطن، بدأت تتجلى العنصرية الصهيونية، ليس لأصحاب الأرض الأصليين، إذ أن فلسطينيي الأرض كانوا قد خبروا وعرفوا وبدمهم ناهضوا هذه العنصرية والاستعمار الكولونيالي وما يزالون. الجديد هنا وبالذات للغرب الأوروبي والأبيض الصهيوني في فلسطينأن بدى يتكشف الوجه الحقيقي لهذا الكيان وسياساته ومؤسساته.

فبالإضافة إلى كل ما تقدم، وفي موضوع متصل أظهرت معلومات جديدة-قديمة عن مدى عنصرية وبل فاشية هذا النظام الصهيوني وذلك فيما يتعلق بالاختفاء القسري والإتجار بأطفال اليهود من الأصول الشرقية/العربية وبالذات الأطفال اليمنيين (والبعض الآخر من الأصول العراقية والمغربية وغيرها). لقد بدأت جرائم الدولة ومؤسساتها ومنذ خمسينات القرن الماضي، بعد عقود ولجان تحقيق، ووقفات احتجاجية من الأهالي والاعتصام المسلح عام ١٩٩٤ والذي قام به أحد حاخامات اليهود الشرقيين وبعض تابعيه باحتجاز أحد المباني الرسمية ولمدة ٤٥ يوما، مطالبين بتحقيق جدي ورسمي لمعرفة أسباب الاختفاء إلا أن حملته قمعت بالقوة وقتل أحد معاونيه ونقل هو ومن معه إلي السجن. من المضحك والمبكي في آن واحد هنا هو أن المجتمع "الإسرائيلي" قام بنعت هذا الحاخام كما ينعتون الفلسطيني "إرهابي متطرف يتبنى نظرية المؤامرة". ولكن في العام١٩٩٥ قررت الحكومة تعيين لجنة تقصي رسمية والتي أصدرت بيانها عام ٢٠٠١ والذي يقضي بما جاء في لجان التحقيق السابقة. وذلك الإقرار بأن معظم هؤلاء الأطفال المختفين كانوا قد قضوا، وأن عددا بسيطا من العائلات المشمولة (50 عائلة) في البحث والتي يبلغ عددها الألف عائلة، لا يعرف مصير أولادها.

 

 

 

ولكن ما أربك أهالي المخطوفين والمختفين في قرار هذه اللجنة أنها أقرت عدم توصلها إلى جميع الملفات/الأرشيفات المطلوبة، حيث اعترفت اللجنة بأنه جرى إتلاف عدد كبير من الأرشيفات ذات الصلة، في ذات الوقت الذي قامت به اللجنة بالتحقيق. وما زاد الطين بلة بذات السنة (٢٠٠١) هو إصدار القرار القضائي بمنع نشر أو تعميم أي تفاصيل متعلقة بالمواد المبحوثة في جميع هذه اللجان حتى عام ٢٠٦٦. ولكن وبعدم اقتناع الأهالي المعنيين والذي يقدر ب ١٥٠٠-٥٠٠٠ عائلة، استمرت العائلات الفاقدة لأطفالها بالبحث والتنقيب. ففي السنين الأخيرة أخذت هذه القضية بعدا إعلاميا وأكاديميا ليس بالقليل. وكان للصحفي البريطاني من سكان الناصرة، جونثان كوك دور مهم في فضح وتحليل هذه القضية وأجريت عدة مقابلات مع النساء والرجال "المختفين" وعائلاتهم، وكذلك أخذت هذه الاقضية بعدا عالميا. ففي مقالتها في النيويورك تايمز الأمريكية في ٢٠/٢/٢٠١٩ تناولت الكاتبة، مالين فزهال، هذه القضية بكثير من التفاصيل من خلال البحث الذي أجرته في مستعمرة راس العين (قضاء الرملة) والتي يقطنها عدد كبير من اليمنيين اليهود. لقد أتت هذه المقالة لتثبت كل ما سبقها من المعطيات المنقولة مباشرة من الضحايا وعائلاتهم. فحقيقة هؤلاء الضحايا تكاد تتشابه.

تبدأ القضية بالمعاملة العنصرية لليهود العرب والذين أرادتهم الحركة، والدولة الصهيونية لإثبات هويتها الشوفينية الأشكنازية في بناء الدولة اليهودية فأسكنتهم في "مخيمات انتقالية" في ضواحي المدن الفلسطينية المهدمة كيافا والرملة وبيسان وغيرها، حيث مكث العديد منهم تحت ظروف معيشية صعبة، فقر مدقع وحياة صعبة، لسنوات عدة. وفي هذه الظروف المعيشية كانت الأم اليمنية تدخل المستوصف أو المستشفى إذا وجد، وتخرج بدون طفلها، وعندما تسأل تجاب أنه/أنها قد قضت. تطلب الأم ايضاحا عن الموت أو مكان الدفن أو حتى شهادة الوفاة، لتقابل بعدم الرد والطلب منها أن تعود لبيتها! هنالك حالات خطف مباشرة من البيت/الخيمة أو بينما الأم ما زالت بالفراش بعد الولادة، بحجة الفحص الطبي ليختفي الطفل وتختفي الطفلة.

أما من هو المسؤول/ة في خطف الأطفال؟ وما حصل بعد الخطف؟ فلقد وضح بالإثباتات والبراهين مسؤولية الجهاز الطبي أو المؤسسة الطبية وبالذات الممرضات كمسؤول مباشر، بينما تغاضى الأطباء ولم يعترضوا. وبوجود الثقافة الغربية/ الأشكنازية للأبيض المهيمن، كان الهدف "استيعاب" أصحاب البشرة السمراء وإدماجهم في المجتمع الأشكنازي (لتبييضهم). إن كلمة استيعاب هنا ليست ايجابية ولا حتى حيادية، بل مبطنة بالأيديولوجية الصهيونية المبنية على العنصرية الاستشرافية الغربية والتي ترى العربي وصاحب البشرة السمراء بأنه "أقل"، "متخلف"، "لا يهتم ولا يعتني بأطفاله"، والاعتقاد بأن "لديهم الكثير من الأولاد ويمكنهم التعويض". هذه ليست فرضيات وليس مجرد ادعاءات، بل البعض اليسير من الكثير من الأجوبة التي تفوه بها الكثير من المسؤولين عن هذه الجرائم وكذلك بعض الأهالي المتبنين/الكافلين لهؤلاء الأطفال. مع التعتيم على نتائج اللجان كان من الصعب تتبع الطريق التي تبعها المخطوف/ة أو ما آل إليه بعدها. فقد تبين أن بعض العائلات المتبنية/الكافلة قامت بتغيير اسم الطفل/ة وتزوير تاريخ ميلاده للتأكد من عدم الوصول إليه/ا. وهذا الذي أعطى شلومو هاتوكا عنوان مقالته: "اختفاء أبناء الجالية اليمنية: على عاتق المتبني" (أنظر المقالة في هعوكيتس ٢٠١٤). ففي هذه المقالة وحسب أقوال إحدى عاملات وزارة الداخلية:

"كان لوزارة الداخلية دور هنا، إذ كانت الوزارة تعد شهادات ولادة ووفاة مسبقا وتحضرها عند الحاجة". وحسب أقوال هذه الموظفة: "العائلات الأشكنازية كانت بحاجة لتبني أطفال ذوي البشرة غير السمراء ولكنهم أجبروا على تبني هؤلاء الأطفال... هذا ما كان متوفرا". وكما أقر الكاتب فإن اختفاء العلاقة بين المتبني وعائلته البيولوجية جعل من الصعب، وحتى المستحيل التلاقي بين المخطوف والعائلة الأصلية.

الضلوع المباشر للدولة الصهيونية ومؤسساتها في هذه الأعمال الإجرامية قد عززها القضاء الصهيوني إذ في أواخر خمسينات القرن الماضي صدر قانونا ينص على عدم ضرورة وجود/حضور أولياء/أهالي الطفل البيولوجيين عندما تقرر المحكمة إصدار قرارات التبني، ومنع الأهالي من الاستئناف. فالإتجار بالأطفال في هذا الكيان الغاصب لم يكن أمرا غريبا لا على الدولة ولا مؤسساتها ولا العديد من أفراد مجتمعها العنصري.

بحسب التقارير والأبحاث الموثقة هنالك جسمان رئيسيان شاركا في عمليات تسفير الأطفال آو حتى بيعهم لعائلات أشكنازية تريد التبني، وهما الـWIZO ) منظمة المرأة الصهيونية العالمية) ومنظمة صهيونية أخرى. فمعظم هؤلاء المخطوفين جرى تسليمهم أو حتى بيعهم لعائلات أشكنازية للتبني.

هنالك من يتساءل، وما الغريب في هذا كله، فهنالك الكثير من حالات التعقيم القسري للنساء (ما جرى للأمريكيين من أصول أفريقية)، والاضطهاد والإفقار والتجويع للسكان الأصليين وغيرهم من غير الأوروبيين البيض في جميع بلدان الاستعمار الكولونيالي. وهنالك أيضا آلاف الأطفال من السكان الأصليين وبالذات في كندا) ممن خطفوا من أهاليهم عنوة ووضعوا في المدارس السكنية لتبييضهم (أي لمحو لغتهم وثقافتهم)، وعوملوا بقساوة بالغة إلى درجة التنكيل والاغتصاب. وكل هذه الدول، وكما الكيان الصهيوني، تدرج على قائمة الدول التقدمية والديمقراطية!

الفرق هنا في البروباغاندا والتضليل العالمي الذي تستعمله الدولة الصهيونية بإعلانها الممثل الوحيد والحامي لكل يهود العالم. فباستعمال الهولوكوست والتي لا تعني أيا من ضحايا الصهيونية من اليهود العرب وغير الغربيين، استطاعت هذه الدولة أن تؤثر على حكومات العالم بأحقيتها في بناء دولة يهودية على أراضي فلسطين العربية. فكحامل اسم المحامي والمدافع عن يهود العالم تخلط هذه الدولة أوراق الكثير من الدول والتي بدأت تساوي اليهودية بالصهيونية وبالدولة، بعكس بعض دول الاستعمار والتي بدأت بالاعتذار لتاريخها الكولونيالي البغيض وإطلاق سياسات وبرامج للحد من العنصرية. يبقى الكيان الصهيوني الدولة الوحيدة في العالم والمبنية على الإثنية اليهودية التمييزية علنا وبدون مواربة. والنتيجة قمع كل محاولات انتقاد هذه الدولة، إلى درجة تقييد حرية التعبير في الأكاديميات الغربية، ومن هنا تأتي الحملة المسعورة في الهجوم على حركة المقاطعة الثقافية والاقتصادية العالمية. فكشف هذه الحقائق والإكثار منه قد يساهم في زيادة الوعي الاجتماعي والسياسي عربيا وعالميا وبالذات في هذا الزمن العربي الرديء والغربي المتواطئ.

 

الصورة//مظاهرة احتجاجية لنشيطات ونشطاء اثيوبيين في القدس، 15 تموز الجاري (رويترز)

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب